مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/09/2009

النظام التكويني والنظام التشريعي

‏الجمعة‏، 06‏ شوال‏، 1430 الموافق ‏25‏/09‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


تعالوا بنا إلى هذا المثل الذي لا بد أن نقرب به حقيقة عظمى ولله المثل الأعلى، شركة أبدعت جهازاً للتو من الأجهزة التي يحتاج إليها الناس في أعمالهم وشؤونهم، وبُثَّ هذا الجهاز بين الناس وسُوِّقَ في المدن والبلاد المختلفة، لا بد أن تجد مع هذا الجهاز ومقروناً به كتيباً، يتضمن هذا الكتيب كيفية استعمال هذا الجهاز على النحو السليم، وكيفية المحافظة عليه، والسبيل الأمثل لصيانته، ولا ريب أن من أدرك ضرورة شكر هذا المصنع الذي أخرج هذا الجهاز وأبدعه يدرك في الوقت ذاته ضرورة شكر هذا المصنع إذ قدَّمَ للناس مقروناً به كيفية استعماله وطرق صيانته وسبل المحافظة عليه، هذه حقيقة ما أحسب أن في الناس من يمتري بها ويرتاب.


    تعالوا نتجاوز هذا المثل إلى الحقيقة التي أريد أن أضع نفسي وإياكم أمامها، هذا الكون الذي أقامنا الله عز وجل فيه هو الجهاز الأكبر الذي نتقلب في غماره، ولا يمكن لعاقل أن لا يتبين مدى رحمة الله بعباده من خلال هذا الجهاز الذي أخضعه لحاجات الإنسان، انظر إلى العالم العلوي والأفلاك التي تتحرك لخدمة الإنسان والتي ينقسم الزمن من خلال حركتها إلى ليل ونهار، هذا الجهاز الذي يطيل الليل عندما يحتاج الإنسان إلى طوله على حساب النهار، ويطيل النهار عندما يحتاج الإنسان إلى طوله على حساب الليل، هذا الجهاز الذي يتمثل في الهواء الساري ما بين السماء والأرض خدمة للإنسان وحياته، هذا الجهاز الذي يتمثل في الأرض التي وطَّأها الله سبحانه وتعالى، وجعلها مهاداً تحت أقدامنا، وجعلها كنـزاً للمدخرات المختلفة المتنوعة التي نحتاج إليها من عروق مياه، من معادن مختلفة، ثم هذه الأرض التي فجَّر منها النباتات المتنوعة المختلفة، والتي تقدم للإنسان احتياجاته المتنوعة من الثمار والفواكه والأغذية المختلفة، يعطيك الله عز وجل في الصيف منها ما تحتاجه من ثمار الصيف، ويعطيك الله عز وجل في الخريف منها ما يحتاج إليه جسمك من الثمار في هذا الفصل، ويقدم إليك الله عز وجل منها في الشتاء ما يحتاج إليه جسمك في فصل الشتاء، أقامك الله سبحانه وتعالى من هذا الجهاز على خدمة عجيبة ومسخرات تدور حول مصلحتك، حول حياتك، ونبهك الله عز وجل إلى هذا الجهاز وأهميته لخدمتك في آيات كثيرة منثورة في كتاب الله عز وجل، انظر إلى قول: )وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ[ [النحل: 65]، انظر إلى قوله: )وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ[ [النحل: 66]، انظر إلى قوله: )وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[ [النحل: 69].


     هذا هو حديث القرآن عن الجهاز الكبير الكبير الذي أقامه الله عز وجل لخدمة الإنسان، فماذا عن الكتيب، وقد ذكرت لكم مثاله؟ ماذا عن التعليمات التي وضعها الله عز وجل أمامنا، والتي بها نعلم كيف نتعامل مع هذا الجهاز الكوني، كيف نصونه، كيف نرعاه؟ هذا ما يسمى بالنظام التشريعي، النظام التكويني هو هذا الجهاز، أما الكتيب، وأعيدكم إلى المثال الذي ذكرت وهو ما يسميه الناس اليوم بالكتلوك، فهو النظام التشريعي، وما النظام التشريعي؟ هو التعليمات الآتية من قبل رب العالمين تقول لنا: هكذا ينبغي أن تتعاملوا مع الجهاز الكوني الذي سخرته لصالحكم، إياكم أن تشردوا عن هذه التعليمات فيشقيكم هذا الجهاز بدلاً من أن يسعدكم، هذا النظام المتكامل هو النظام التشريعي، فيا أيها الإخوة هل من عاقل يرى مدى ما في جهاز أنتجته شركة من خير وفائدة للإنسان وللمجتمع الإنساني يلهج بلسان حاله أو قوله بكلمات الشكر لتلك الشركة أو لذلك المصنع، ثم لا يلهج بالشكر ذاته للكتيب المقرون بذلك الجهاز؟! هل من عاقل يأخذ الجهاز ويقدّره ويقدّسه ثم يرمي بالكتيب أرضاً؟! مجنون ذاك الذي يفعل هذا.


هذا النظام الكوني الذي ينبض كله بكل دقائقه بمعاني اللطف من الله بعباده، بمعاني الرحمة من الله سبحانه وتعالى بعباده، علاقة النظام التشريعي بهذا النظام الكوني كعلاقة ذلك الكتيب بالجهاز الذي أنتجته شركته، فإن رأيت ألطاف الله سبحانه وتعالى ومظاهر رحمته تتلألأ في هذا النظام الكوني الذي جعله الله خادماً لك فلا بد أن تتبين أيضاً ألطاف الله عز وجل ورحمته الغامرة بالنظام التشريعي الذي قرنه الله سبحانه وتعالى لك مع نظامه الكوني.


    فيا عجباً لمن يستقبل هذا النظام الكوني، ويتقلب فيه، ويتمتع بما فيه من خير، فإذا نظر إلى النظام التشريعي الذي وضعه الله أمامنا قائلاً: إن أردتم أن تسعدوا بهذا النظام الكوني فطبقوا هذه التعليمات التي وضعتها بين أيديكم. في الناس من يُقْبِلُ إلى هذا النظام التشريعي فيزدريه، يلقيه وراءه ظِهرياً ويتبرم به، أليس هذا تماماً كشأن ذاك الذي اشترى جهازاً من معمل أو مصنع، ولما وقف على الكتيب المقرون به ألقى الكتيب جانباً، وأخذ ينظر إلى هذا الجهاز، يتعامل به تعاملاً أعمى؟ أيعد هذا من العقلاء يا عباد الله؟


    ولكن ما الفرق بين هذا المثال الذي وضعته أمامكم وبين الحقيقة التي نتكلم فيها؟ ما أكثر الناس الذين يتبرمون اليوم بشريعة الله، ما أكثر الناس الذين يضيقون ذرعاً بأحكام الله عز وجل إن كانت مما يتعلق بحياة الإنسان الفردية، أو مما يتعلق بالأسرة ونظام الأسرة، أو مما يتعلق بعلاقة الناس بعضهم مع بعض فيما يتعلق بتنسيق علاقاتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو نحوها، يضيق ذرعاً ويتبرم، ولا سيما عندما يجد أحدهم نفسه أمام النظام التشريعي الذي وضعه الله أمامنا من أجل حماية الأسرة من السوء الذي قد يتسرب إليها، من أجل حماية الأسرة من أسباب الشقاء التي قد تتسرب إليها، يضيق ذرعاً بذلك، فإذا وجد النظام الكوني تقلَّبَ فيه وسعد به وحاول أن يعتصره إلى النهاية، وَيْحَك! إن النظام التشريعي غطاءٌ لا بد منه للنظام الكوني، إن أردت أن تفصل بين نظام الله الكوني ونظامه التشريعي فاعلم أن النظام الكوني الذي صاغه الله عز وجل لإسعادك لسوف يتحول إلى سببٍ لشقائك، تماماً كالذي يستعمل الجهاز الذي أخذه للتو، ولكن دون أن يستعمل صفحة التعليمات، دون أن يستعمل وسيلة الصيانة، لا بد أن يزجه هذا الجهاز في سببٍ من أسباب الشقاء قولاً واحداً كما تعرفون جميعاً يا عباد الله.


    أما تتعجبون من أناسٍ مؤمنين بالله، أناسٍ يرون لطف الله في نظامه الكوني الذي سخره لنا، بدءاً من أجرامه العلوية، إلى ما بين السماء والأرض من رياح تهب إلى الأرض وما على ظهرها وما في دخائلها، إلى النظام الذي أقامه الله عز وجل في كيان الإنسان الداخلي، يرى لطف الله، ويرى رحمة الله به في هذا، فإذا التفت إلى النظام التشريعي الذي هو في جملته تعليمات لكيفية التعامل مع النظام الكوني تبرم به وضاق ذرعاً، به وأخذ يتلفت إلى الحداثة، ويلتفت إلى الابتداعات التي يريد أن يتقَمَّمَها من هنا وهناك، ولربما اتهم بيان الله الذي يدعوه إلى النظام التشريعي الذي يحمي علاقته مع النظام الكوني، ربما اتهم الذين يريدون أن ينضبطوا بهذا النظام التشريعي بأنه دعوة إلى العود إلى الظلام وإلى الحياة الظلامية السابقة.


هذه ظاهرة غريبة وعجيبة -يا عباد الله- ألّا يؤمنَ الإنسان بالله هذا يزج الإنسان في مثل هذا التصور الأخرق، غير مؤمن بأن لهذا النظام مكوّناً، ومن ثم فهو لا يؤمن بأن لهذا الإله مشرعاً أيضاً، ولكن العجب لا ينتهي من إنسان يؤمن بوجود الإله الخالق المنظم لهذا الكون، ثم لا يؤمن بحاجة هذا النظام الكوني إلى صفحة تعليمات للإنسان، كيف يتعامل مع هذا النظام الكوني؟! هذا أمر غريب جداً أيها الإخوة.


من أراد أن يتبين مدى لطف الله عز وجل في نظامه التشريعي إن فيما يتعلق بالأسرة، وإن فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، وإن فيما يتعلق بشبكة العلاقة الإنسانية مع إخوانه، من أراد أن يتبين مدى رحمة الله ومدى لطف الله سبحانه وتعالى في نظامه التشريعي، فليتأمل في النظام الكوني، وليتدبر مظهر نعمة الله ولطف الله ورحمة الله بالإنسان أياً كان هذا الإنسان في نظامه الكوني، نظام كوني سخره الله لك من أعلى الأجرام الكونية إلى أدقها، سخره الله لسعادتك، سخره الله سبحانه وتعالى من أجل أن تجد فوق هذه الأرض أسباب رخائك، أسباب طمأنينتك، من أجل أن تجد في هذه الحياة الدنيا مقومات سعادتك الفردية والاجتماعية البدنية والروحية وغيرها، الإله الذي رحمك بنظامه الكوني هو الذي يلطف بك ويرحمك بنظامه التشريعي فلا يأتين من يريد أن يفرق بين النظام الكوني الذي سخره الله عز وجل لنا ونظامه التشريعي الذي أهداه الله سبحانه وتعالى لنا إلا إن كان هذا الإنسان من المجانين الذين يأخذون الجهاز من الشركة أو المعمل الذي أنتجه، ثم يمزقون الكتيب الذي يتضمن بياناً لكيفية التعامل مع هذا الجهاز.


    أسأل الله عز وجل ألا يحرمنا من نعمة العقل والبصيرة التي تبين لنا مدى فضل الله عز وجل إذ أكرمنا بكلٍ من هذين النظامين النظام الكوني والنظام التشريعي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم   

تحميل



تشغيل

صوتي