مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 11/09/2009

المال مال الله والعبد عبد الله

‏الجمعة‏، 21‏ رمضان‏، 1430 الموافق ‏11‏/09‏/2009


الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


آيات في كتاب الله عز وجل استوقفتني بالأمس وزجتني في حالٍ وددتُ لو أن كل مسلم اصطبغ بها، هذه الآيات هي قول الله سبحانه وتعالى: )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[ [الليل: 92/5-11].


أصدقكم أيها الإخوة أن المال ما صَغُرَ في عيني مرة كما صغُر وأنا أتلو هذه الآيات البينات من كلام الله عز وجل وما سَمُجَ البخل في عيني وفي نفسي وترائى لي فيه معنى المهانة والذل كما ترائى لي ذلك وأنا أتلو هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى[ تظاهر بالغنى وهو فقير )وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[ إنه لاستفهام عجيب يحيل المال الذي كم وكم يُفْتَنُ به الناس إلى شؤمٍ على صاحبه، أجل إنه استفهام يجعل من المال شؤماً على صاحبه، ذلك الاستفهام المنبعث من قوله عز وجل: )وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[


ماذا عسى أن يستفيد من المال الذي جمعه من هنا وهناك ثم ظل يرقد عليه كما ترقد الدجاجة على بيضها ماذا عسى أن يستفيد من ذلك عندما يُفَاجَئ بأنه قد تردى في هاوية الشقاء؟ أين هو المال الذي ينبغي أن ينجده؟ أين هي الثروة التي ينبغي أن تنتشله؟ أين هو الغنى الذي كان يُزْهَى به ينتشله في هذه الساعة من الهاوية التي تردى فيها والتي لا مجال للخروج منها قط؟


عباد الله: دعوني أضعكم أمام صورتين، الأولى صورة الإنسان الذي شاء باختياره أن يجعل من المال شؤماً له، أن يجعل من المال مادة شقاء له وإن خُيِّلَ إليه أنه سعد بهذا المال، أرأيتم إلى ذاك الذي يلهث وراء جمع المال من أي جهة لاح المال له فيها، يجمعه من كل حدب وصوب ثم إنه يملأ به أرقاماً في صندوقه وينشره رصيداً هنا وهناك في المصارف وينظر ويرمق بعينيه إلى البائسين الذين عضَّ عليهم الجوع والذين نال منهم العري والذين أعوزهم الكِنّ والعش الذي ينبغي أن يأووا إليه، يمرق إليهم بعينٍ شذراء مستعلياً مستكبراً ولربما تفلسف وقال أنا تعبت وعرقت ومن أجل ذلك جمعت ما جمعت أما هؤلاء فإن الكسل هو الذي زجهم في سوء المصير فلينالوا جزاء كسلهم هذا وذلك هو الكلام الذي كان يقوله الجاهليون في صدر الإسلام عندما كانوا يسمعون نداء القرآن ونداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البذل )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ[ [يّـس: 36/47] إلى آخر الآية التي ينعي فيها بيان الله سبحانه وتعالى على المستكبرين بعطاء الله سبحانه وتعالى، هذه هي الصورة الأولى.


ما هي عاقبة هذا الإنسان الذي جمع المال من كل حدب وصوب ثم إنه استكبر وعتى بهذا المال؟ أنا أجزم يا عباد الله بأن هذا الإنسان، هذا الفريق من الناس لن يسعد بهذا المال قط، هو في الصورة مبعث سعادة ومظهر بريق، هذا المال الوفير لكنه في الحقيقة يبعث في كيانه شتى ألوان البؤس والشقاء، لا تجد هذا الإنسان سعيداً في ساعة من ساعاته، هذا المال يتحول كما قلت لكم إلى شؤم في كيانه، يورثه أسباب الشقاء وما أكثرها تتسلل جميعاً إلى داره، تتسلل جميعاً إلى جسمه بألوان من الأمراض المختلفة، المال وفير وصندوقه مليء والأرصدة كثيرة ولكنه يعاني في ليله ونهاره من الأسى يعاني في ليله ونهاره من الضيق، من الكرب الخانق، وأنا الشاهد على ذلك، كم وكم رأيت أناساً تجسدت هذه الحقيقة في ظواهرهم.


أما الصورة الأخرى فتعالوا نتبينها، أرأيتم إلى ذلك الشخص الآخر الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى هو الآخر بمثل ما أكرم به الأول من المال الوفير والغنى الكثير ولكنه يبحث عن الفقراء والمعوزين أينما كانوا، يزورهم في أعشاشهم، يدخل إليهم في بيوتهم المتداعية، يخلط نفسه بهم، يؤنسهم بنفسه ويؤنس نفسه بهم، تعالوا أضعكم أمام هذه الصورة وهي ليست مجتثة من خيال وليست نسيجة وَهْمٍ بل هي صورة لواقع يا عباد الله، صورة رجل، وأمثاله كثير أكرمه الله عز وجل بالغنى، أكرمه الله عز وجل بالعطاء، يبحث، وذلك هو سر سعادته، عن حال البائسين، دخل إلى بيت واحد منهم، دخل إلى هذه الأسرة وجلس معها في بيتها المتداعي ومظاهر الدار كلها تنطق بالبؤس والحزن والكرب وظُلَلُ الأسى واضحة على أفراد الأسرة، الأب والأم والأولاد، أخرج من جيبه قدراً من المال هو في نظره شيء تافه ولكنه في نظر الأسرة التي نظرت إليه كنـزٌ لم تكن تحلم به، كنـزٌ لم تكن تتوقعه، لما وقع هذا الكنـز في نظر هذه الأسرة وهو مالٌ ضئيل في نظر ذلك المعطي، لما وقع ذلك الكنـز في يد رب هذه الأسرة سرعان ما زالت ظُلَلُ الشقاء والأسى من الوجود، سرعان ما زالت علائم الحزن والكرب من النفوس، نظر الرجل وإذا بالفرحة الغامرة تعمر قلوب أولئك الذين كانوا قبل قليل يعانون من كرب خانق، نظر إلى الوجوه وإذا بإشراقة الفرحة تتلألأ على سيماهم، نظر هذا الإنسان فوجد أن الله عز وجل سخَّره لأن يرسم الفرحة على وجوه هؤلاء البائسين رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، بعثت هذه البلغة اليسيرة من المال في نظره نشوة في رأس هذا الإنسان ما مثلها نشوة، بعثت في كيانه سعادة ما مثلها سعادة وأخذ يساءل نفسه أأنا استطعت في لحظة واحدة أن أنقل أفراد هذه الأسرة من دنيا الكآبة ومن ظلام الشقاء إلى صعيد السعادة والفرحة؟!


نعم المال أيها الإخوة نعم المال عندما يكون سُلَّمَاً إلى مثل هذا العمل، ما أعظم معناه وأجلَّ أثره عندما يُستخْدَمُ المال لرسم معالم الفرحة على الوجوه الحزينة، عندما يستعمل لغرس معاني السعادة في القلوب الكئيبة وما أتفه المال وما أسوأه وما أذله وإنها لقمامة ما مثلها قمامة عندما يرقد صاحب هذا المال عليه كما قلت لكم كما ترقد الدجاجة على بيضها ثم إنه يجعل من هذا المال سَكَرَاً لنفسه، يجعل من هذا المال أرقاماً يتذكرها لينتشي بها، ما أتفه المال عندما يكون في يد إنسان على هذه الشاكلة وما أثمن هذا المال وما أسماه وما أبقاه عندما يكون أداةً لإدخال الفرحة في القلوب.


شيء يا عباد الله، شيءٌ آخر، من ذا الذي يستطيع أن يزعم أنه هو المالك للمال الذي يفيض صندوقه به؟ من ذا الذي يزعم أنه هو الذي امتلك هذا المال بعرق جبينه؟ المال مال الله والعبد عبد الله والمآل إلى الله، هذه هي الحقيقة والإنسان مستخلف في المال الذي وضعه الله أمانة بين يديه، ألم تقرؤوا قوله: )وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[ [الحديد: 57/7]، فهذا الغني عندما يعطي إنما يعطي من المال الذي استأمنه الله عز وجل عليه ثم إن هذا الإله الذي وضع المال أمانة بين يديك جعلك في صورة من يملك حقاً وجعل ذاته العلية في صورة من يقترض منك هذا المال حقاً فهو يقول: )مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً[ [البقرة: 2/245]، ما ألطف هذا البيان الإلهي، ربي المالك لي ولمالي يعطيني المال الذي هو ملكه ثم إنه يجعل من نفسه مقترضاً ويقول لي ألا تقرضني شيئاً من مالك هذا وأنا أعدك بأنني سأعيده لك مضاعفاً عشر مرات على الأقل، هل في هذا الكلام خُلْفٌ يا عباد الله، هل يلحق كلام الله خُلْف؟ صدق الله، لا يمكن لإنسان يتعامل مع الله بالاستجابة لأمره بالحنو على الفقراء المعوزين الذين ابتلى الله الأغنياء بهم إلا ويصدق وعده الذي ألزم ذاته العلية به واسألوا الذين يتعاملون مع الله على هذا المنوال، ما من إنسان قدَّم لذي حاجة مبلغاً من المال إلا وأعاد الله سبحانه وتعالى ماله إليه مضاعفاً، لا يُبْقِي الله مِنَّةً على ذاته العلية لعبد.


أقول لكم هذه الحقيقة وضربت لكم هذين المثلين في هذا العشر الأخير من رمضان لعل كلامي يبلغ من لا يوجد في هذا المسجد ولعل الإخوة الذين يسمعون كلامي هذا يتفاعلون مع قول الله سبحانه وتعالى: )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[ [الليل: 92/5-7] ومن اليسرى أن يعوض الله عز وجل عليه )وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[ [الليل: 92/8-10] وقفوا معي أمام هذه الكلمة الأخيرة )وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[ [الليل: 92/11] لن يغني عنه ماله شيئاً فاللهم ألهمنا جميعاً وألهم الأغنياء الذين قست قلوبهم بسبب المال أكرمتهم به ألهمهم الرشد، رقِّق أفئدتهم يا رب العالمين، أوزع قلوبهم الرحمة حتى ترحمنا، ألهمهم أن يرحموا الفقراء والمعوزين الذين ابتليتنا بهم وما أكثرهم في جَنَبَاتِ هذه البلدة حتى ترحمنا وما أحوجنا في هذه الأيام إلى رحمتك أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي