مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/12/2008

العمل الصالح

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد  صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..


لا يأسفن أحدٌ منكم رغب أن يكون من الحجاج إلى بيت الله الحرام ثم لم يكتب له نصيب في ذلك، ولا يقولن في نفسه إنه قد حُرِمَ من خير أكرم الله عز وجل الآخرين من أمثاله فرب إنسان اتجه حاجاً إلى بيت الله الحرام وليس له من حجه إلا التعب والجهد لأنه لم يوف هذا الحج شروطه ولم يلتزم بآدابه ولم يلتزم بضوابط سُلَّمِ الأولويات فيما شرع الله وأمر، ورب رجل قعد في دويرة أهله محروماً من الحج في الظاهر ولكن الله سبحانه وتعالى كتب له مثوبة الحج كاملة غير منقوصة لأنه ضبط نفسه بسلم الأولويات فيما شرع الله سبحانه وتعالى وأمر، هذا من جانب، أما من جانب آخر فإن الله عز وجل أرحم وأعدل من أن يكرم ثلة من عباده بفرصة سانحة لخير يصلون إليه ويتمتعون به في حين أنه يحرم ثلة أخرى من عباده من تلك الفرصة السانحة.


لا يا عباد الله، لئن فات الذين قعدوا في دورهم وبلادهم في هذه الأيام ولم يُتَح لهم الحج إلى بيت الله الحرام، لم يُتَح لهم أن يتمتعوا بمزايا المكان فإن الله عز وجل قد متعهم أينما كانوا بمزايا الزمان، هذه الأيام الأولى من شهر ذي الحجة هي تلك التي أقسم الله عز وجل في محكم تبيانه بلياليها، هي أيام تلحق المسلمين أينما كانوا وتقدم لهم الفرصة السانحة تماماً دون نقص أينما وجدوا، ألم تقرؤوا قول الله عز وجل: )وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ[  [الفجر: 1-5]، إن هذه الليالي التي أقسم الله بها عز وجل إنما هي الليالي الأولى العشر الأول من ليالي ذي الحجة والأيام تتبع لياليها، ولعلكم تعلمون أن القسم في كتاب الله عز وجل تنويه بشرف المقسم به وقدسيته، فأينما كان المسلم في هذه الأيام الفرصة سانحة أمامه للوصول إلى كل ما قد يناله الحجيج وهم في ذرى عرفة أو حول بيت الله العتيق، ولقد أكد لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا المعنى الذي تضمنه بيان الله عز وجل فيما قاله فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عباس: )ما من أيام العمل الصالح فيهن خير من هذه الأيام، الأيام الأولى من عشر ذي الحجة، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بدمه وماله فلم يرجع من ذلك بشي[، إذاً ففرصة الأجر العظيم والمثوبة الكبرى مفتحة أبوابها للناس جميعاً أينما وجدوا ورحمة الله عز وجل لا تتحيز لقوم دون قوم أبداً.


ولكني أريد أن ألفت نظري وأنظاركم يا عباد الله إلى هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيهن خير من هذه الأيام، لاحظوا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ما من أيام الصلاة فيها خير منها في هذه الأيام، لم يقل ما من أيام الصوم أو الزكاة أو الحج وإنما قال العمل الصالح، ما من أيام العمل الصالح فيهن خيرٌ من هذه الأيام، والعمل الصالح هي الكلمة التي يرددها بيان الله عز وجل في كل مناسبة إذ ينبه عباده إلى الوظيفة التي أنيطت بهم فوق هذه الأرض في حياتهم الدنيا، العمل الصالح، العمل الصالح كل جهد يقوم به الإنسان يصلح به ما بينه وبين إخوانه في الإنسانية، كل جهدٍ يقوم به الإنسان يُحَصِّلُ الصلاح الذي قيضه الله وأقامه في الأرض ويبعد عنها أسباب الفساد، كل ذلك من العمل الصالح، العدل جزء من العمل الصالح، الابتعاد عن الظلم والغش والنميمة والخداع جزء من العمل الصالح، المحافظة على البيئة أي المحافظة على صلاح الأرض التي سَلَّمَنَا الله إياها صالحة جزء لا يتجزأ من العمل الصالح يا عباد الله.


فيا عجباً لأناس فهموا من الإسلام بل التقطوا من الإسلام طائفة من الأعمال مارسوها طقوساً ولم يمارسوها قيماً أو مبادئاً، فهموا من الإسلام جملة ركوع وسجود، فهموا من الإسلام صياماً ربما في أيام فاضلة غير شهر رمضان، فهموا من الإسلام الذهاب المتكرر كل عام إلى الحج، فهموا من الإسلام السبحة التي تتفرقع في اليد وكلمات التسبيح التي تُدَبَّجُ بها الألسن ثم إنهم حصروا نفسهم في هذا، أما الفساد والإفساد فلم يقيموا لشيء من ذلك وزنا، أما الغش والخديعة والكذب والافتراء في المعاملة فلم يقيموا لكل ذلك وزنا، وأما الظلم فلم يقيموا لشيء من ذلك وزنا، أليس إنه يحج كل عام إلى بيت الله الحرام! إذاً فلا شك أن الحج سيُكَفِّرُ عنه تلك السيئات كلها، ما أكثر الذين يروحون ويغدون حجاجاً إلى بيت الله الحرام كل عام والحج عندهم ممحاة لمحو الآثام التي ارتكبوها خلال العام وأيامه وأشهره، من الذي قال إن الله يقبل حجاً من هذا القبيل؟ من الذي قال إن الإسلام جملة عبادات طقوسية يمارسها الإنسان ثم لا عليه أن يظلم أخاه الإنسان، لا عليه أن يفسد في الأرض بعد أن أصلحها الله عز وجل؟


لا يا عباد الله، ما ينبغي أن نفهم هذا الفهم المنكس لكتاب الله عز وجل، اقرؤوا قول الله في كتابه، كم وكم وكم كرر التحذير من الإفساد في الأرض: )وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[ [الأعراف: 56]، )فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا[ [الأعراف: 85]، ويقول جل جلاله: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[ [القصص: 77]، وصدق الله القائل: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ [الروم: 41].


أين الذين يتدبرون هذا الكلام الرباني الذي تنخلع له الأفئدة، أفئدة من عرف ربه وعرف ذل عبوديته لله سبحانه وتعالى، الإنسان الذي يبتغي أن يصل إلى مرضاة الله عز وجل هو ذاك الذي يتمسك بموازين العدل وينأى عن الظلم وأسبابه، الإنسان الذي يريد أن يصل إلى مرضاة الله عز وجل هو ذاك الذي يقيم ما بينه وبين عباد الله جسور الأُلفة والود، جسور السماحة، جسور المحبة التي جعلها الله في قلوبنا فرعاً عن محبته عز وجل، الإنسان الذي يبتغي الوصول إلى مرضاة الله عز وجل هو ذاك الذي يحافظ على صلاحية الأرض للعيش والطمأنينة واستنشاق الهواء الطاهر النظيف.


لا يمكن إطلاقاً يا عباد الله أن يرحل إلى الله إنسان أفسد البيئة بكل ما تعلمون من وسائل من أجل أن ينال مزيداً من الربح في جيبه، من أن أجل أن ينال مزيداً من الرفاهية في حياته، يفسد الزرع والنسل، يفسد الأرض، يفسد الهواء الذي ننتعش به عن طريق المبيدات المختلفة بأنواعها والأسمدة الكيميائية المختلفة بأنواعها وهو يعلم أنه يقدم من وراء ذلك لإخوانه في الإنسانية سموماً، وهو يعلم أنه المسؤول عن طابور الأمراض الخبيثة التي يراها بعينيه أمام أبواب المستشفيات الكثيرة المختلفة.


أتظن يا هذا أنك راحل إلى الله بشفاعة من صلاتك، بشفاعة من ركوعك وسجودك! خسئت إن كنت تعلم هذا، صدق رسول الله القائل فيما اتفق عليه الشيخان: )أتعلمون من المفلس فيكم، قالوا المفسد فينا من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة وحج، يأتي وقد شتم هذا وقد ظلم هذا وضرب هذا وغش هذا وسفك دم هذا، فيؤخذ من حسناته لهذا وهذا وذاك حتى إذا لم تبق له حسنات أُخِذَتْ من ذنوبهم فطرحت عليه ثم طُرِحَ به في النار[، مصلون، صائمون، يحجون كل عام إلى بيت الله الحرام لكنهم لا يقيمون للعدالة وزنا، لا يقيمون للإخوة، لا أقول الإسلامية فقط، بل الإنسانية أيضاً وزناً، هؤلاء لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً.


عباد الله اعلموا أن حقوق الله مبنية على المسامحة ولكن حقوق العباد مبنية على المشاحة، لا يقبل الله من الإنسان الذي رحل إلى الله وعنقه مثقلة بالمظالم، عنقه مثقل بالإساءات، بالأعمال التجارية التي يبتغي من ورائها أن يمتع نفسه على حساب سعادة الآخرين، على حساب عافية الآخرين، على حساب صحة الآخرين، هؤلاء هم حشو جهنم يوم القيامة، عرف هذا من عرف وجهله من جهل.


كم وكم يقال لي يا عباد الله ألا نتداعى إلى صلاة الاستسقاء، وأقول ينبغي أن نتداعى إلى صلاة الاستسقاء لكن هل سمعتم أن في الناس من يقبل إلى الصلاة المفروضة ليصليها فَيُهْرَعُ إليها قبل أداء شروطها، يهرع إليها قبل أن يتطهر، يهرع إليها قبل أن ينظف ثوبه والمكان الذي يقف عليه، وهل يقبل الله صلاة هُرِعَ إليها زيد من الناس بهذا الشكل! إنه بمثابة من يسخر من شيء شرعه الله عز وجل، صلاة الاستسقاء لها شروط لابد منها، من أهم وأولى شروطها أداء الحقوق إلى أصحابها، الانعتاق من الظلم وما أكثر أنواع المظالم، التوبة إلى الله سبحانه وتعالى بعد رد المظالم، ألا يعود هذا الإنسان إلى مثل ما قد فعل وأثم، عندما تؤدى هذه الشروط كلنا سَنُهْرَعُ إلى صلاة الاستسقاء، وعندما يأتي من يسألني فيقول ولكن ها هي ذي ديار من ديار الله الواسعة يكرمها الله بالأمطار السخية والثلوج الكثيرة أقول إن الله عز وجل يحب العدل ويثيب إليه إن في الدنيا وإن في الآخرة وإن كان العادل كافراً وإن الله عز وجل يكره الظلم ويعاقب عليه إن في الدنيا وإن في الآخرة وإن كان الظالم مسلماً، ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة يا عباد الله.


قلت في الأسبوع الماضي إن هنالك ثنائية في حياة المسلمين ينبغي أن يتحرروا منها وأعود إلى ما قد ذكرت فأنا الآن من هذه المشكلة التي أقولها لكم أمام مظهر آخر من مظاهر الثنائية، نحن مسلمون عندما نُهْرَعُ في موسم الحج إلى بيت الله الحرام، مسلمون عندما نُهْرَعُ إلى المساجد وربما امتلأت المساجد بنا لاسيما في شهر رمضان، مسلمون عندما نصوم لا الشهر المبارك رمضان بل نصوم الاثنين والخميس أيضاً ولكن يغيب الإسلام عندما ندخل إلى سوق المعاملة، يغيب الإسلام كله عندما ننظر إلى التعامل المالي والتجاري بين الناس، يغيب الإسلام كله عندما ندخل إلى المزارع وننظر إلى هؤلاء الذين يزرعون ويفلحون ويضعون نصب أعينهم جيوبهم فقط وعلى حساب العافية على حساب عافية المرضى الذين يرحلون رحلة بطيئة ثم بطيئة إلى القبر والموت ونحن المسؤولون، والله الذي لا إله إلا هو ليسألن الله سبحانه وتعالى هؤلاء الظالمين عن هؤلاء المظلومين الذين سُفِكَت دماؤهم بالمرض العضال وهم الذين تسببوا في ذلك.


بلغوا يا عباد الله عني، بلغوا هؤلاء أن يتوبوا إلى الله عز وجل وأن يعلموا أن الله هو الرزاق: )مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[ [الذريات: 57]، )إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[ [الذريات: 58]


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي