
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


أحبوني لحب الله إياي
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
في فصل الربيع من كل عام تنتشي النفس الإنسانية لعودة الخضرة يانعة زاهية كُسِيَتْ بها الأشجار من جديد، وتنتشي لعبق الورود والزهور والرياحين تنبعث في الآفاق من جديد، تلك هي الطبيعة الإنسانية التي لا شذوذ فيها، وفي شهر ربيع الأنور تنتشي الأرواح وتنتشي القلوب لعودة الذكرى، لعودة ذكرى مولد حبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتهتاج بين الجوانح مشاعر الشوق إليه ومشاعر الحنين إلى رؤيته، وتهتاج المشاعر نشوةً بسبب حواجز القرون التي امتدت بيننا وبينه فحيل بيننا وبين أن تكتحل عيوننا بمرآه، هذه مشاعر إنسانية لا مرد لها ولا مجال للنقاش فيها، ولعلكم تعلمون يا عباد الله أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يتوقف على ركنين اثنين لا غنى عنهما، أما الركن الأول فهو اليقين العقلاني بالله عز وجل ورسله وكتبه واليوم الآخر وأما الركن الثاني فهي المحبة إذ تهيمن على الفؤاد لله عز وجل أولاً ومن ثم لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ثانياً، أما الدليل على محبة الله عز وجل وأنها أحد الركنين اللذين لا غنى عنهما فقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: من الآية 165[ ، وأما حب المصطفى صلى الله عليه وسلم فدليل ذلك قول رسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عباس (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي(، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام تبليغاً لأمرٍ حمَّله الله عز وجل إياه ولم يقله إعجاباً بنفسه واستكباراً، حاشى لله ذلك، هذه المحبة يا عباد الله لابد أن تستثير بين الجوانح مشاعر الذكرى كلما اهتاجت عواملها أمام المشاعر الإنسانية، وعوامل الذكرى ليست محصورة في ذكرى ولادة رسول الله بل ما أكثر المنبهات والمذكرات التي تشد العاطفة الإنسانية المؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنين والحب، قالوا إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يحتفون بذكراه بعد وفاته، قال في الناس قائل هذا الكلام، من ذا الذي قال ذلك؟
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أشد الناس انجذاباً إلى ذكراه بعد وفاته، ما منهم من واحد مرَّ على شجرة عَلِمَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام في ظلها أو صلى ركعتين عندها إلا واستبد به الحنين إلى رسول الله لمرأى هذه الشجرة ولربما تمدد فنام في المكان الذي نام فيه رسول الله ولربما وقف فصلى في المكان الذي صلى فيه رسول الله، وما من واحد وقف على مكانٍ وقف عنده رسول الله ذاهباً إلى غزوٍ أو آيباً من غزو إلا وهيَّجَ ذلك المكان ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جوانحه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد من ألهبت بين جوانحه مشاعر الذكريات المقدسة، ألا تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم عندما قفل عائداً من غزوة تبوك ولاحت أمامه طيبة ببيوتها ولاح أمامه الجبل الأشم أحد قال صلى الله عليه وسلم وقد اهتاجت مشاعر الذكرى والحنين بين جوانحه: (هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه( ، هل قال المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الكلام إلا ترجماناً لشوقٍ استبد به إلى ذكرى يوم أحد! هل قال هذا الكلام متغزلاً بجبل أحد إلا لأن سفحه يحتضن شهداء غزوة أحد!
قال قائلون أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون إحياء الذكريات، أين هذا الكلام الشارد عن الحقيقة والواقع من الواقع التاريخي الذي لا يجهله من كانت له ثقافة ما بل معرفة ما بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، بل العبادات يا عباد الله أو جلها إنما هي إحياء لذكريات، الطواف الذي أمر الله عز وجل به عباده إنما هو إحياء لذكرى خليل الله إبراهيم إذا أقام بنيان البيت مع ابنه إسماعيل {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، وهل صلاة الركعتين عند المقام إلا إحياء لذكرى مقام سيدنا إبراهيم، وهل السعي الذي تسعونه بين الصفا والمروة إلا إحياء لذكرى زوجة سيدنا إبراهيم وهي تنتقل من هنا وهناك بحثاً عن ماء تُرْوي به غُلَّةَ ابنها الصغير! الذكريات ثمرة لحب، الذكريات عبق يفوح من رائحة الحب، فمن اهتاجت بين جوانحه محبة الله عز وجل ومن ثم محبة رسول صلى الله عليه وسلم لابد أن تفوح رائحة الذكريات لأدنى مناسبة، إن لمناسبة مولده أو لمناسبة هجرته أو لمرأى أثرٍ من آثاره، ذلك هو منطق الحب، ومنطق الحب انفعال قسري وليس فعلاً اختياراً يا عباد الله، لعل فينا من يقول فكيف السبيل إلى أن أطرد محبة الأغيار، الدنيا والشهوات والأهواء، التي هيمنت على قلبي ومشاعري لأستقبل بمشاعري محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول في الجواب: الأمر يسير يا عباد الله، ألا تؤمنون بأن الحب مبادلة ما بين قلب وقلب؟ إذا أحبك زيد من الناس وعلمت يقيناً أنه يحبك ألا تبادله حباً بحب؟ ليس لك اختيار في هذا، أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبكم يا عباد الله؟ أجل، ألا تعلمون أننا وقد شرفنا الله عز وجل بالإيمان به وشرفنا الله بحب رسوله وشرفنا الله بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وأنه جعلنا من أمته، ألا تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد استبد به الحنين إليكم وعبَّرَ عن اشتياقه الشديد إليكم؟
روى الإمام مالك في موطئه أن رسول صلى الله عليه وسلم خرج قبيل وفاته إلى البقيع فسلم على أهل البقيع ثم قال، وحوله ثلة من أصحابه: وددت لو أني رأيت إخواننا فقال له أحد أصحابه ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي وإخواني أولئك الذين لم يلحقوا بعد وسأكون فرطاً لهم على الحوض، أي سأستقبلهم على الحوض، قال قائل منهم: أو تعرفهم يا رسول الله؟ كيف تعرف من لم ترهم؟ قال أرأيتم لو أن رجلاً له خيول غرٌّ محجلة بين خيول دهم بهم، أي سوداء، أفكان يعرفها؟ قالوا: نعم قال: فأنا أعرفهم غرَّاً محجلين من آثار الوضوء، عندما تعلمون يا عباد الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأحب الرسل إلى الله قد اشتاق إليكم وعبَّرَ عن تحنانه إليكم أفلا تبادلونه حباً بحب؟ لا يمكن للإنسان أن يكون صاحب اختيار في هذا، الرسول الذي يقول وددت لو أني رأيت إخواننا، هذا الكلام عندما يقرع سمعي لابد أن تتفجر بين جوانحي مشاعر الشوق إليه، مشاعر الحنين إليه، هذا هو السبيل، بل هو أقصر سبيل إلى أن نطرد محبة الدنيا، محبة الأغيار من بين جوانحنا لنستقبل بهذا القلب الذي هو وعاء مقدس محبة الله عز وجل ومن ثم محبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، على أن انفعال القلب بالذكرى وانفعال المشاعر بالحنين ينبغي أن نعلم أنه وسيلة إلى غاية وليس غاية بحد ذاتها، إن الحب، حب الله عز وجل وحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيلة نتخذها لتضميد جراحاتنا، لعلاج مشكلاتنا، لتحطيم السدود القائمة بيننا وبين مولانا سبحانه وتعالى، فمن استعمل الوسيلة أداة لغاية كانت قدسية الوسيلة من قدسية الغاية، أرأيتم إلى الذي يريد أن يقوم من الليل فيتهجد وهو لا يستطيع أن يغالب رقاده باليقظة يضع عند رأسه منبهاً، عندما يوقظه المنبه فينهض للوقوف بين يديه أنعم بهذا المنبه سبيلاً إلى تلك الغاية القدسية، ولكن إذا اتخذ هذا المنبه غايةً بحد ذاتها يوقظه المنبه فيسكته ليعود فيرقد فإن هذا المنبه أصبح عبثاً من العبث وقد انقطع عن غايته التي اتُّخِذَ من أجلها، الحب كذلك، الذكريات التي تهتاج بين جوانحنا فنتفاعل معها كذلك.
عباد الله أنتم تعلمون أن حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية قد فاضت بالمشكلات المختلفة والخطط الرامية من بعيد ومن قريب إلى الإيقاع بنا دينياً، أخلاقياً، اقتصادياً، اجتماعياً كثيرة متنوعة متعددة فما الخلاص من هذه المشكلات؟ بكلمة واحدة أقول لكم: البوابة الكبرى التي ينبغي أن نجتازها إلى حل هذه المشكلات بعد الإيمان العقلاني بالله عز وجل إنما هو الحب، إذا فاضت محبة الله ومن ثم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجوانح طردت هذه المحبة الرعونات، طردت العصبيات، طردت الاستكبار، طردت الأثَرَة وجعلت هؤلاء المحبين لله ومن ثم لرسوله يقفون تحت مظلة قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: من الآية10] ومن ثم يجدون أنفسهم قد تجاوزوا هذه البوابة القدسية الكبرى إلى بوابة متفرعة عنها هي بوابة الأخوة في الله سبحانه وتعالى، تنقطع مشكلات ما بين المجتمع المسلم والمجتمع المسلم، تزول الرعونات والخلافات وأسباب الشقاق التي تثور ما بين فئات الأمة الإسلامية والعربية الواحدة، كل ذلك يذوب وينمحي في ضرام هذا الحب لله ورسوله ومن ثم في ضرام الأخوة التي يسري نسبها بين عباد الله المؤمنين جميعاً، فإذا تحقق لحمة الأخوة وانتهت عوامل الشقاق وذابت وزالت إلى غير رجعة تفجرت من خلال ذلك القوة وأسبابها وحُلِّت المشكلات كلها وتغلبت الأمة على سائر الخطط الرامية إلى الإيقاع بها، هذا هو العلاج، إنه علاج قريب يا عباد الله ماثل أمامكم، موضوع على مقربة من أيديكم علم ذلك من علم وجهل ذلك من جهل، وليت أن قادة الأمة العربية والإسلامية يعلمون هذه الحقيقة ويجتازون إلى حل مشكلاتهم بوابة الحب لله ورسوله أولاً ثم بوابة الأخوة في الله سبحانه وتعالى ثانياً وإذا بالمشكلات كلها قد حُلِّتْ، وإذا بالواقع الذي وعدنا به الله سبحانه وتعالى إذ قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: من الآية7] قد غدا حقيقة ماثلة أمام أبصارنا.
أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.