
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


متى نصر الله؟
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
لا أعلم عهداً مضى في حياة المسلمين حاق بهم الذل وطافت بهم المهانة واستحر فيهم القتل كهذا العهد الذي يمر به المسلمون اليوم، ولعل في الناس من يتصور أن العهد الذي مني فيه المسلمون بغزو التتار والمغول كان أشد فتكاً بالمسلمين وأكثر إيذاءً لهم وأكثر بعثاً للمهانة في حياتهم، ولكن الأمر ليس كذلك، كانت المصيبة آنذاك محصورة في صقع معين من أصقاع المسلمين في مناطق محدودة معينة، أما المهانة التي لحقت بالمسلمين اليوم والذل الذي انحط عليهم والقتل الذي تدور رحاه عليهم، على برئائهم، فهو بلاءٌ عام تشترك فيه فئات المسلمين جميعاً وتشترك فيه المناطق والبلاد الإسلامية جمعاء.
ولكن ينبغي أن لا ننسى أيضا أنه ما مر عهدٌ من العهود بالمسلمين منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم، كان المسلمون فيه أكثر تبرماً من الإسلام وأكثر استخفافاً منهم به وأكثر معاداة له إن علناً أو سراً منهم في هذا العصر. ينبغي أن نتبين هذا عندما نتبين ذاك.
العالم الإسلامي اليوم في تعداده كثير والانتماء الشكلي إلى الإسلام أيضاً وفير، ولكن جل المسلمين اليوم سواء فيهم القادة أو الشعوب، يستخفون بالإسلام ويعلنون التبرم به ويخططون للكيد له سواءٌ سلكوا إلى ذلك سبيلاً معلناً أو سبيلاً خفياً.
أمام هذ الواقع وذاك، لا يجوز للإنسان أن يرتاب في عهود الله عز وجل ووعوده، لا ينبغي للإنسان أن يداخله ريب عندما يصغي إلى الأخبار التي يتسقطها فيسمع ما يدل على المزيد والمزيد من الذل الذي يحيق بالمسلمين، ويسمع ما يزيد من القتل الذي يستحر بالبرءاء هنا وهناك من المسلمين، ما ينبغي لمن يصغي السمع إلى هذا أن يداخله أي ريب في كلام الله وعهوده قط.
نعم إن ربنا عز وجل ألزم ذاته العلية في محكم تبيانه أن ينصر عباده المؤمنين، قرر ذلك بعباراتٍ كثيرة وبأساليب شتى، وحسبكم من ذلك هاتان الآياتان، ما رأيت في كتاب الله عز وجل شيئاً يُلزم به ذاته العلية بقوةٍ وتأكيد كما يلزم ذاته العلية بهذا النصر من خلال هاتين الجملتين التين نقرأهما في كتاب الله عز وجل: )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[. تأملوا في التأكيد الذي غمست فيه هذه الآية )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ[. يعرف علماء العربية أن اللام التي صدر فيها الفعل لام تأكيد وأن النون التي خُتم بها الفعل نون تأكيد )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ[، زاد الأمر تأكيداً فقال: )إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز[ لا يُغلب.
وتأملوا في قوله عز وجل: )وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ وليس في الكون من يلزم الله عز وجل بشيء، فمن أين كان حقاً على الله نصر المؤمنين؟ هو جل جلاله ألزم ذاته العلية بأن ينصر عباده المؤمنين، ألزم ذاته )كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[. رب قائلٍ يقول وهو يقف في موقف الدلال على الله يقول: أين هو هذا النصر الذي ألزم الله عز وجل به ذاته العلية؟ أين هو مصداق قوله: )وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[؟
على هذا الإنسان قبل أن يسأل على مصداق كلام الله عز وجل أن يتبين كما قلت لكم واقع المسلمين وبعبارة أدق واقع جل المسلمين اليوم.
أجل أيها الإخوة ما رأيت ولا سمعت أن المسلمين تبرموا بإسلامهم واستخفوا به وأعلنوا رغبتهم في التحرر منه في عصرٍ من العصور كما أعلنوا ذلك في هذا العصر على كل المستويات وفي كل الأصعدة وبكل المناسبات. قادة المسلمين اليوم أكثرهم لا يعي أصلاً من الإسلام شيئاً، وربما كان فيهم الكثير مما لا يعلم كيف يؤدي عباداته وأوامر الله الخمسة في حياته. شعوب المسلمين اليوم جلهم ينشدون ما يسمى اليوم بالحداثة، ينشدون ما يسمونه اليوم بالعلمانية، يعلنون بأساليب شتى رغبتهم في أن يخرجوا من هذا العهد الرباني ويدخلوا في عهدٍ أو عهودٍ شيطانية أخرى. جل علماء المسلمين اليوم عاكفون على تصنيع الفتاوى واستخراجها للناس حسب الطلب، أجل حسب الطلب حسب طلب فئات معينة. جل هؤلاء العلماء - ولا أقول كلهم - يجعلون من الإسلام مطية ذلولة لمصالحهم، لدنياهم، لرغائبهم، لشهواتهم، وعندما أنظر إلى هذه المطية الذلول التي تستذل لهذه الرغائب وأتبين أن هذه المطية ليست شيئاً غير الإسلام، يكاد أن يستبد الرعب بفؤادي. الشهوات والأهواء أخذت بتيارها فئات المسلمين شرقاً وغرباً فأصبح جلهم يعكف على رغائبه، على شهواته، على أهواءه ليل نهار... والوقت يطول لو أنني فتحت ملف الحديث عن مظاهر تبرم المسلمين بإسلامهم وعن مظاهر دخولهم عملاء أذلاء لتخطيط مخططات وضعها أعداء الإسلام التقليديون، يطول الكلام لو دخلت في هذا. لكن دعوني أضعكم أمام نموذج يجسد هذه الحقيقة التي أقولها لكم.
في هذا العام ألهمت دولة أوروبية أن تستضيف في هذا العام الذي نحن فيه الثقافة الإسلامية، بكل معانيها وجعلت من بلدة من بلادها هي فرانكفورت جعلت منها منبراً وأعلنت على سمع العالم الإسلامي وبصره تدعوه أن يوفد علماءه ومفكريه وأدباءه ليتحدثوا عن الإسلام عقائده، شرعته، مبادئه، حضارته، ثقافته وليردوا على لغوا اللاغين كما يشاؤون، ما الذي حصل؟ وكيف كانت الاستجابة من العالم العربي؟ اهتمت الجامعة العربية بوصفها اللسان الناطق باسم العالم العربي الإسلامي وأوفدت عن طريق لجنة اعتمدتها مئة وخمسة وخمسين عالماً ومفكراً إلى ذلك المنبر ليتحدثوا عن الإسلام كان كلهم من المتبرمين بالإسلام، كلهم من المعادين للإسلام، كلهم من الذين يرفعون شعار الحداثة والعلمانية، كلهم ممن يعلن أن الإسلام غير صالحٍ لهذا العصر إلا أربعة منهم. هذا مقياس الجامعة العربية، لم يضغط عليها ضاغط بشكل من الأشكال ولم يكلفها أحد بأن تختار للحديث عن الإسلام من يكرهون الإسلام ومن يريدون أن يستبدلوا به غيره ولكنها هي اختارتهم، اعتمدت اللجنة التي علمت أنها ستختار هذا النموذج من الناس، والله عز وجل يطلع، والله رقيب، والله يعلم السر وأخفى. فأين هم المسلمون الذين يصدق عليهم قول الله عز وجل ولينصرن الله من ينصره؟ أين هم الذين ينصرون دين الله عز وجل؟ أين هم المؤمنون الذين يصدق عليهم قول الله عز وجل )وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ نصر المؤمنين؟ أين هم هؤلاء المؤمنون أيها الإخوة؟
عندما أسمع من خلال إذاعات مرئية أو مسموعة كلمات يعبر أصحابها من خلالها عن الألم من هذا الذي يحيق بالعالم العربي والإسلامي اليوم، والألم من هذا الذل الذي حاق بهم .. عندما أسمع هذا لا أشك في أن أصحاب هذه الكلمات منافقون، منافقون كاذبون، إنهم يرحبون بالذل ولا يتبرمون به، إنهم يرحبون بالمهانة، تعودوا عليها وليسوا ممن يأبونها بحال من الأحوال، لو أنهم يأبونها يتبرمون بالذل ويأبون المهانة إذن لاستعملوا السبيل الذي يخلصهم في أقرب فرصة من هذا الذي يتظاهرون بتبرمهم منه، يتخلصون في أقرب فرصة من هذه المهانة التي يتظاهرون بأنهم يتألمون منها. لكن صدق عليهم قول القائل: ما من جرحٍ بميتٍ إيلام، بل صدق عليهم قول ذلك القائل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أهجى بيت عرفه العرب ولعمري لا أتصور أن فئة من الناس تستأهل هذا الهجاء بهذا الشكل إلا جل المسلمين اليوم. ولأن كره كثير من العلماء الاستشهاد بالشعر في هذا الموقع فإن الضرورة تقتضي أن ألتجئ إلى هذا التعبير الذي لا أجد بديلاً عنه، دع المكارم لا ترحل لبغيتها أنت، أنت لست أهلاً للمكارم ولا تعلم كيف تعتز بها، أنت تعودت على الذل تعودت على الترحيب بالسياط المهانة هذا ما يصدق على العالم العربي والإسلامي اليوم، لماذا؟ لو أنهم كانوا فعلاً يتألمون من عصي المهانة والذل والظلم التي تنهال عليهم إذاً لسلكوا الطريق المفتوحة للتخلص منه، ما هو الطريق المفتوح؟ الرجوع إلى الله، الاصطلاح مجدداً مع الله سبحانه وتعالى، تجديد البيعة الصادقة مع الله، أن يقول قائلهم باسمهم جميعاً كلاماً ينبثق من الفؤاد )وعجلت إليك ربي لترضى[ نعم قد شردت عن بابك، ولكن ها أنا ذا عائد إليك عائدٌ إليك بقلبي وقالبي.
لو أن العالم الإسلام استعلن هذه الحقيقة نابضة بها مشاعره، ناطقة بها ألسنتهم إذاً لبدل الله سبحانه وتعالى ذلهم عزا، ولأكرمهم بالنصر، والله عز وجل لا يخلف الميعاد وصدق الله القائل: )إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[. من الذي يتهم إذ يقول )وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[؟ من يملك أن يكذب ربنا في هذا العهد الذي ألزم به ذاته العلية؟ من ذا الذي يستطيع أن يكذب مولانا وخالقنا القائل: )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[؟ ولكن لما تبرم المسلمون بإسلامهم وسال اللعاب منهم على فتات الحضارة الغربية التي رماها الغربيون وراءهم ظهرياً، أسلمهم الله سبحانه وتعالى إلى هذا الذي ارتضوه لأنفسهم من المهانة والذل.
ولقد قلت لكم مرة إن العرب لم يرتقوا إلى سلم الحضارة يوم ارتقوا إليها ويوم منحهم الله ما يسمى بالعصر الذهبي لم يرتقوا إلى ذلك إلا سلماً واحداً هو سلم الدين، سلم الإسلام لم يسلكوا إلى ذلك السبل التي سلكها الآخرون الجهد والعلم والمعارف والاختراعات والإبداعات لا نقلهم الله سبحانه وتعالى من واد التخلف إلى صعيد الحضارة والتقدم عبر سلم واحد هو سلم الإسلام، اليوم يرفضون الإسلام، يرفضون الإسلام إذاً عودوا إلى ما كنتم عليه.
ليت أن قادة العرب والمسلمين يسمعون هذه الحقيقة بعقولهم، ليت أن أفئدتهم تستيقظ فيها بقايا مشاعر الإيمان بالله عز وجل لعلهم يعودون، لعلهم يعودون إلى الله ولعلهم يصطلحون مجددا ًمع الله عز وجل إذاً لسوف يتحول ذلهم إلى عز ولسوف يتحول خذلانهم إلى نصر.
أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يلهمنا جميعا ًالرشد وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه فاستغفروه يغفر لكم.