مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/09/2001

إخواننا بين الموت والحياة ونحن ساهون لاهون

إخواننا بين الموت والحياة ونحن ساهون لاهون


خطبة الإمام الشهيد البوطي


تاريخ الخطبة: 07/09/2001


 


الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى‏.‏


أما بعد فيا عباد الله‏


إن من نافلة القول أن أحدثكم عما يجري لجيراننا إخوتنا المسلمين في أرضنا الإسلامية المحتلة‏.‏ إن من نافلة القول أن أصف لكم الحصار الخانق الذي يعانون منه، الحصار الخانق الذي يمنعهم عن الضروري من لقمة طعامهم وجَرعة شرابهم، الحصار الذي يجعلهم يقفون ما بين الموت والحياة، لا هُم يتمتعون بحياة إنسانية كريمة ولا هُم ينتقلون إلى رحاب مولاهم وخالقهم في أمن وطمأنينة‏.‏ إنكم لتعلمون أن رَبَّ الأسرة في أي دار من الدور المحاصَرة هناك إذا خرج لا يدري أهله أسيعود إليهم آمناً مطمئناً أم يُعاد به إليهم في نعش، أم يفاجؤون أنه قد انتقل أو نُقل بين موت وحياة إلى مشفى، إنكم لتعلمون أنهم جميعاً يقفون في خنادق الدفاع عن وجودهم، الدفاع عن أدنى الدرجات التي ينبغي أن ينالوها من حقوقهم، إنكم لتعلمون أنهم لا يملكون في سبيل ذلك إلا قدرة يتيمة يُتِّمَت من قِبل إخوانهم وأولياء أمورهم‏.‏ هل أصف لكم مزيداً من الحال التي يعرفها كل واحد منكم، والتي غدت القصة التي تتلى عن طريق وسائل الإعلام على أسماعنا وتمزق أعصابنا صباح مساء‏؟‏ ونحن… نحن الذين نرى ما يَحُلّ بهم، ونحن الذين نقيم من حياتنا الدنيا في جوارهم، مَنْ نحن منهم أيها الإخوة‏؟‏ وما الصلة التي تربطنا بهم‏؟‏ إنها أوثق صلة تقوم بين إنسان وإنسان، إنها صلة الإيمان بالله، إنها صلة العبودية لله، إنها صلة الاستسلام لسلطان الله سبحانه وتعالى، تلك هي صلة ما بيننا وبينهم إنها لصلة أقوى من صلة النسب، لاشك في هذا ولا ريب‏.‏


ولا أريد أن أطيل في بيان حقيقة بدهية طالما عرفتموها وطالما قرأتم دلائلها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، تلك هي صلة ما بيننا وبين هؤلاء الذين خنقهم الحصار، والذين يقفون من العذاب والتنكيل والظلم والتقطيع ما بين الموت والحياة كما قلت لكم، فبماذا يأمرنا الإسلام‏؟‏ بماذا‏؟‏ إلامَ يدعونا دين الله عز وجل‏؟‏ كلكم يقرأ قول الله سبحانه وتعالى‏: ‏﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏/‏2‏]‏ كلكم يقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏﴾‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 49‏/‏10‏]‏، كلكم يقرأ آيات الجهاد والدستور الرباني الذي حمَّلَنا الله سبحانه وتعالى في أعناقنا مسؤوليته، كلكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه مسلمٌ والبخاري من حديث النعمان بن بشير‏:‏ ‏‏﴿‏المسلمون في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏﴾ ولفظ البخاري ‏﴿‏ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى‏﴾.‏


أمسلمون نحن أيها الإخوة‏؟‏ إن الحال التي نمرُّ بها تجعل الواحد مثلي يقع في شك، ويحتار ويتردد في الجواب عن هذا السؤال، مسلمون ونرى ما يَحُلُّ بعضوٍ عزيزٍ من أعضاء الجسد الإسلامي، ونحن ساهون لاهون وحكام العرب متدابرون متخالفون‏؛‏ يعيدون اليوم سيرة الذل التي مُنيَ بها ملوك بني الأحمر بالأمس في مغرب الدولة الإسلامية التي أقامها المسلمون في صدر الإسلام في الأندلس، مسلمون والحكام العرب كلّما امتدّ بهم الزمن تعمقت أخاديد الخلافات وأسباب التدابر فيما بينهم وازدادوا تدابراً في الواقع والحقيقة بمقدار ما تزداد أفواههم وكلماتهم مجاملة كاذبة‏.


المسلمون اليوم أمام هذا الواقع الذي مُنِيَ به الحكام العرب لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، أي الشعوب الإسلامية لا تملك أمام هذا الواقع عملاً جاداً تلبي به نداء مولاها وخالقها في الانتصار الحقيقي لإخوانها، ولكن‏.‏‏.‏‏.‏، ولكن القاعدة المنطقية أيها الإخوة تقول‏:‏ ‏(‏ما لا يُدرك كله لا يُترك كله‏)‏ نحن الشعوب المسلمة مسلمون ولله الحمد، وقد قلت إن صلة الإسلام التي تمتد ما بين المسلم وأخيه المسلم أقوى بكثير من صلة النسب‏.‏ إذا كان الأمر كذلك‏؛‏ تعالوا نتحسس مكان الألم من أعضائنا بسبب الألم الذي يعاني منه ذلك العضو الذي هو جزء لا يتجزأ من جسم هذه الأمة الإسلامية‏.‏ أين هو الشعور بالألم والأسى‏؟‏ أين هو الشعور بمعنى الاختناق الذي يشعر به أولئك الإخوة هناك‏؟‏ من منّا إذا جلس إلى مائدة الطعام شعر بالغُصة وهو يدني اللقمة من حلقه لأنه يعلم أن أولئك الإخوة لا يملكون الزاد الذي يشبعهم، يحارَبون في لقمة طعامهم‏؟‏ يحارَبون في جرعة الشراب، يُقدم لهم الماء الفاسد، الماء يسيء ويميت بدلاً من أن يُحييَ ويُروي، من منا إذا امتد على فراشه وشعر بالأمن والطمأنينة يطوفان من حَوله وشعر بأن خِبَاء الأمن والطمأنينة يعانقه ويعانق أسرته جمعاء‏؛‏ فيتألم ويتقلب وتزَايِلُه مشاعر الرقاد لأن إخوةً له هناك يعانون من نقيض هذا الأمن وهذه الطمأنينة تماماً أيها الإخوة‏؟‏


من منا اليوم تُلهِبُه مشاعره لينقض فيقوم بأي عمل، ويبحث فيجد أنه يستطيع أن يقدم أمراً ما يستطيع أن يُنْفِذَ عبر أقنية موجودة ما يتمكن من المال الذي ينبغي أن يُرسَل إلى أولئك الإخوة - ما لا يُدرك كله لا يُترك كله -‏.‏


وأصدقكم القول أني كنت إلى الأمس القريب أُحسن الظن وأقول إن شعوبنا تلتهب مشاعرها، وإن أكثر أمتنا المسلمة يتقلبون في الليالي في فُرشٍ تقُضّ مضاجعهم ولا تكرمهم بساعة رقاد هانئة، هكذا كنت أتصور، وهكذا كنت أُحسن الظن، ولكني أجدني اليوم أمام ظاهرةٍ تدل على العكس من ذلك، كيف أتصور أيها الإخوة‏؟‏ أن تاجراً مسلماً صادقاً في إسلامه بل صادقاً في إنسانيته يستقدم فرقة مسرحية إلى هذا البلد المقدس الذي يمتاز عن كثير من البلاد العربية والإسلامية الأخرى، يستقدم هذه الفرقة‏؛‏ لا لتؤدي رسالة، لا لتستثير مزيداً من الأشجان في نفوس المسلمين تجاه إخوانهم، وإنما لتضحكهم، وإنما لتسليهم، وإنما لتبعث من حلوقهم القهقهة تلو القهقهة، ومقابل مبالغ سخيّةٍ من المال تُقدم، في سبيل ماذا‏؟‏ في سبيل أن يحجزنا الضحك الدنيء المنحط عن حال أولئك الإخوة، في سبيل أن تنسينا هذه المسرحية الهزلية واقع أولئك الإخوة، ومن ثَمَّ في سبيل أن ينفصل هذا العضو - الذي هو جزء لا يتجزأ من جسم الأمة الإسلامية - فَنَتَنَاساه ونُهمله، هذا هو الذي وقع، كيف أصدق أننا نحن المسلمين نتعامل شعورياً - لا أقول أكثر من ذلك - مع هؤلاء الإخوة‏.‏


نحن مسلمون أيها الإخوة، وما هو الإسلام‏؟‏ الإسلام في كلمةٍ جامعةٍ وجيزة هو الغذاء الأوحد للإنسانية، هذا هو الإسلام، الإسلام هو الغذاء الذي يحيى الإنسانية إن ذبلت أو ماتت أو رقدت، الإسلام هو الغذاء الذي ينمي الإنسانية ويُنهضها لتقوم بدورها ولتؤدي وظيفتها، ذلكم هو الإسلام‏.‏


أين هي الإنسانية التي ينبغي أن تحيا وأن تُستثارَ بين جوانحنا وهذا هو الواقع أيها الإخوة، تاجر يسيل لعابه على مزيد من الربح، سَوّل له الشيطان أن يستقدم فرقة باسم شركته لعل ذلك يكون منفذاً إلى مزيد من المال يجمعه، وهذا ما فعل، وليكن من وراء ذلك ما يكون، وليكن هذا العمل مترجماً إلى صورة لا نستطيع أن نعبر عنها إلا بما يلي‏:‏ أمةٌ ترقص على جراح إخوة لها، ترقص على جراح إخوة لها، ترقص وتدفع المال أيضاً على جراح أمةٍ لها، هذا الوضع أيها الإخوة وضع لا يمكن أن يتفق مع الإنسانية هذه الأمة، ولا يمكن أن يتفق مع قيم هذه الأمة، لا يمكن أن يتفق مع المروءة التي عُرَفتْ بها هذه الأمة، ومن ثمّ لا يمكن أن يتفق مع الإسلام الذي توّج الله سبحانه وتعالى به هذه الأمة‏.‏


أجل أيها الإخوة أقل ما يجب أن أقوله هو أن أنكر هذا الأمر الذي جرى، أنا أيها الإخوة مِمَّن يؤمن بالفن، بل ربما كنت في كثير من الأحيان أدعو إلى الفن، لكن ما هو الفن‏؟‏ الفن هو ذاك النشاط الذي يخدم رسالة هذه الأمة، والذي يعبر تعبيراً أدبياً سليماً عالياً عن مشاعر هذه الأمة، والذي يضمِّد جراح هذه الأمة، والذي يتعامل ويتفاعل ويتناغم مع قيم هذه الأمة، ذلكم هو الفن الذي تؤمن به إنسانيتنا، ذلكم هو الفن الذي تتعامل معه مروءتنا، أجل‏.‏ أما ذلك الذي من شأنه أن يتقمم المال من هنا وهناك، ذاك الذي من شأنه أن يستضحك الناس وهم أحوج إلى البكاء منهم إلى الضحك، فهذا ليس فناً أيها الإخوة، هو مكذوب على الفن، هو زيفٌ من الزيوف التي تسربت إلى الفن، أسأل الله عز وجل أن لا يبارك في مال هذا الذي فعل هذا الفعل، وينبغي لكل مسلمٍ أن يدعو معي بهذا الدعاء‏.‏‏


أيها الإخوة‏ والله لو أن الذي فعل هذا أو زلت قدمه في هذا الأمر كان مسؤولاً من المسؤولين، واحداً مِمَّن يجسد مظهر الدولة أو اسم الدولة وقلت هذا الكلام‏؛‏ لرأيت من يصفق لحديثي عن يمينٍ وشمال، هكذا شأن كثير من الناس، ولكن عندما أجد أن الناس هم الذين يفعلون هذا، أن ناساً من الناس هم الذين تناسوا إخوانهم، تناسوا الجراح الذي ينزف منهم ظلماً وعدواناً، وينزف منا شعوراً بحالهم، تناسوا ذلك ثم أقبلوا إلى هذا الأمر وقد اخترقوا المروءة، واخترقوا الإنسانية، واخترقوا سائر القيم، عندما أنتقدُ ناساً من الناس، ويتجه نقدي إلى تاجر، أو إلى فلانٍ أو فلانٍ من الناس، أسمع بدلاً من التصفيق التأفيف التأفف، أَنْظُر وَإذا بالناس أو أكثرهم قد تضايقوا من كلامي، سبحان الله ما هذا الوضع المزاجي الذي نَزِن به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏؟‏ عندما يتلبس بمنكرٍ مسؤول من المسؤولين، وعندما يقوم واحد مثلي فيشير بإصبع الاستنكار إلى ذلك الأمر، عندئذ يُنعت هذا العمل بالبطولة والجرأة، وينتقل الإطراء إثر الإطراء من هنا إلى هنا إلى هناك، ولكن عندما يكون المتلبس بهذا الأمر واحداً من الناس، واحداً ممّن هم دون مستوى المسؤولية، فينبغي أن لا يمتد لسان أيّ منا إلى حاله وينبغي أن يكون متمتعاً بعصمته التي ما ينبغي أن تُمس، فإن جاء من يستنكر، وإن جاء من يُحذر، وإن جاء من يُنبه إلى أن هذا الأمر لا يرضي الله عز وجل، نظرت وإذا بالتأفف يتعالى صُعُداً من فم هذا وفم هذا وفم ذاك‏؛‏ أجل، لم يعد العمل بطولة، وإنما أصبح قسوة، ولم يعد هذا العمل جرأة، وإنما أصبح هذا العمل فظاظة‏.‏ هذا هو الواقع المزاجي الذي نعامل ربنا على أساسه‏.‏


أيها الإخوة اسألوا الله عز وجل لي ولكم الإخلاص لوجهه، سَلُوا الله سبحانه وتعالى أن نتمتع بذل العبودية له حتى نكون آمرين بالمعروف ناهينَ عن المنكر‏؛‏ حيثما وجدنا وأينما رأينا المنكر الذي ينبغي أن نُنبه إليه بالحكمة التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها‏.‏


أَسْألُ الله سبحانه وتعالى أن يرسل من لدنه جُنداً إلى هؤلاء الإخوة الذين يقفون من دوننا في خنادق الاستشهاد، في خنادق الجهاد، في خنادق الصبر والمصابرة، ثُلّة من المسلمين القِلّة يمارسون هذا كله والعالم الإسلامي كله نظّارة تنظر إليه، لا بالعمل المادي يعينون، ولا بالجهود الجهادية معهم يشتركون، ولا بإنفاذ شيء من المال الكافي إليهم يرسلون، يا سبحان الله ما هذا الذل الذي ران على هذه الأمة‏؟‏ ومن ذهب منكم إلى أي بلدة من بلاد الغرب، وأصغى السمع إلى مشاعر رجل الشارع لا الحكام، رجل الشارع هناك، يرى مدى الاشمئزاز ومدى الانتقاص ومدى الازدراء الذي تراكم في نفوسهم وثم تراكم ثم تراكم تجاه من يُسَمّون الأمة العربية‏.‏


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم‏.‏


 

تحميل



تشغيل

صوتي