
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


الصلاة .. الصلاة .. الصلاة ..
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله..
أرأيتم إلى الطعام كيف جعل الله سبحانه وتعالى الفاطر الحكيم منه غذاءً للجسد، به تبقى وظيفته وبه تشتد قوته وبه تتحقق فاعليته وبه تستمر حياته ... فكذلكم الصلاة، جعل الله سبحانه وتعالى منها غذاءً للروح، بالصلاة تنشط الروح وتقوى، بالصلاة تمتد فيها الحياة، بالصلاة تنتعش الروح وتصح وتقوى. هما غذاءان .. غذاءٌ أكرم الله عز وجل به الإنسان لجسده من دونه يموت الجسد ويتحول أنكاثاً، وغذاء آخر لروحه هو الصلاة؛ بدون هذا الغذاء تموت الروح وتيبس وتتحول إلى وجودٍ شكليٍ تافه لا معنى له.
هذه الصلاة أيها الإخوة قبل أن تكون تكليفاً خاطب الله عز وجل به عباده هي تشريف شرفهم الله سبحانه وتعالى بها ورفع أقدارهم بها إلى أعلى الرتب والدرجات.
أرأيتم إلى الرب سبحانه وتعالى عندما يدعو عباده إلى أن يدخلوا في حضرته فيقفوا بين يديه ويخاطبوه ويناجوه فيرد على خطابهم، أرأيتم إلى هذه الدعوة أهي تشريفٌ أم تكليف؟ إنها تشريفٌ عظيم وعظيم جداً قبل أن تكون تكليفاً. إنني أنظر إلى الداعي حين يدعوني إلى الوقوف بين يدي الله عز وجل بين الساعة والأخرى، وأتأمل في هذه الدعوة وأنظر إلى بُعدي عن الله عز وجل والحُجب الكثيفة التي تتمثل في الغفلات، في المعاصي، في الابتعاد عن الله عز وجل، ومع ذلك يدعوني داعي الله عز وجل إلى الوقوف بين يديه، وإلى الدخول إلى حضرته مخترقاً كل هذه الحواجز، عندما أتصور هذا الشرف الرباني ينبغي أن أذوب خجلاً من الله.
ومن أنا في عالم الله سبحانه وتعالى حتى أدعى إلى المثول بين يديه؟ وحتى أناجيه وأخاطبه؟ يرتفع بي الباري عز وجل إلى مستوى خطابه، إلى مستوى الوقوف بين يديه؟ تأملوا هذا المعنى العظيم أيها الإخوة. أجل هي تكليف من أعظم التكاليف ولكنها قبل ذلك تشريف من أجلِّ ما شرّف الله عز وجل به عباده المؤمنين.
وانظروا أيها الإخوة تلك هي الحكمة من أن الله عز وجل لم يُخاطب بهذا الشرف ولم يدعم إلى رحابه إلا عندما أصبحوا مؤمنين، لم يخاطب الله عز وجل بهذه الصلاة غير المؤمنين، لأم يقل عز وجل: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا" لماذا؟ لأن الذين لم يشرفوا بالإيمان بعد ليس لهم شرف الدخول إلى رحاب الله عز وجل، ليس لهم شرف المثول بين يدي الله سبحانه وتعالى.
إذا عرفنا هذه الحقيقة أيها الإخوة تعالوا نتساءل: كيف يتأتى لمن آمن بالله ولمن أسلم ذاته لله سبحانه وتعالى ولمن عرف نفسه عبداً لله وعرف الله سبحانه وتعالى إلهاً له وقيوماً عليه، كيف يتأتى له أن يُعرض عن هذا الشرف؟ كيف يتأتى له أن يُعرض عن هذا التكليف الذي شرفنا الله سبحانه وتعالى به؟ عندما تكون مؤمناً بعبوديتك لله موقناً بربوبية الله الذي يملك الكون كله منه المبدأ وإليه المنتهى، عندما تكون مؤمناً بذلك ثم تجد أن الله عز وجل تقديراً منه لك وتشريفاً منه لك يدعوك إلى رحابه، يدعوك إلى حضرته لتخاطبه بما تريد ولتطلب منه ما تريد، وليبادلك وهو الإله القوي العزيز ليبادلك حواراً بحوار. كيف يتأتى منك أن تعرض عن دعوته؟ كيف يتأتى منك أن لا تلبيه بكل كيانك وبكل شراشرك؟ كيف يتأتى منك وأنت مؤمن بذاتك عبداً ومؤمن بالله رباً! كيف يتأتى إذا دعاك أن تعرض عن دعوته وأن تصم أذنيك عن الاستجابة لتكليفه وأمره وتشريفه؟! لا يمكن لا يتأتى هذا بشكلٍ من الأشكال.
ومع ذلك فإننا لنقول دائماً: إن الإنسان ضعيف، ولنتذكر في هذا قول الله عز وجل: "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" ربما تكاثرت عليه أعباء الكسل، تواردت عليه أعباء الغرائز، الرغبات والشهوات المختلفة التي تصده عن الاستجابة لأمر ربه فدعاه ذلك كله إلى الإعراض، دعاه ذلك كله إلى الكسل إلى نسيان قول الله عز وجل: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا". ولكن هل يتأتى لهذا الإنسان أن يتجاوز هذا الحد وأن يُغالي في ابتعاده عن الله عز وجل فيضيف إلى الإعراض ويضيف إلى ما يفعله من التجاهل لنداء الله سبحانه وتعالى. هل يتأتى لهذا المؤمن أن يضيف إلى ذلك النهي عن الصلاة؟ أنت تعرض عن الصلاة لكسلك لتثاقلك للحواجز الشهوانية التي تشدك إلى الخلف وتجعلك تعرض عن شرف الدعوة الربانية لك، كل هذا يمكن أن يفسر أو يُؤول على أنه من مظاهر الضعف الذي أشار إليه بيان الله عز وجل، ولكن كيف يتأتى منك أن تنهى عبداً من عباد الله عز وجل عن الصلاة، وأنت مؤمن بكلام الله عز وجل، وأنت موقن بما قاله الله عز وجل في محكم تبيانه: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى".
مؤمنٌ يضيف إلى إعراضه نهي المؤمنين بالله عن استجابة دعوة الله عز وجل! هذا لا يتأتى أيها الإخوة بحالٍ من الأحوال أبداً، ماذا يصنع بنفسه هذا الذي يمنع المؤمنين من النهوض إلى الاستجابة لأمر الله، من استجابة دعوة الله للدخول إلى رحابه؟! ماذا يصنع عندما يجد نفسه وقد صنف هو ذاته في قائمة من قال الله عز وجل عنهم: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى". إنه أبو جهل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قرب الكعبة ويتهدده على ذلك " أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى" تمنعه حتى وإن كان على الهدى! تمنعه وإن كان يعلم الناس الرشد ويأمرهم بالتقوى! يا هذا: ألا تعلم أن الله يرى، يرى ما تصنع يكفي أنك معرض عن الصلاة بدلاً من أن تلجئ إلى الله وتستغفره وتسأله أن يتغمد معصيتك وأن يغفر لك ذنبك وأن يبدل ضعفك قوةً، بدلاً عن ذلك تنشر موقفك هذا بين الآخرين وتصد عباد الله المؤمنين عن الصلاة!؟
مجتمعٌ فيه من يعرض عن الصلاة، ربما تغلبت على انحرافاته مغفرة الله، والله غفورٌ وتواب، ولكن مجتمع فيه من يعرض عن الصلاة وفيه من ينهى عن الصلاة ويأمر بترك الصلاة لا يمكن إلا أن يكون مجتمعاً خاسراً، لا يمكن أن ينهض من كبوته إن وقع في كبوة، لا يمكن أن يتغلب على عدو إن واجهه عدو، ينبغي أن يصلح نفسه مثل هذا المجتمع.
أيها الإخوة انظروا إلى قول الله عز وجل إذ يقول: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" استعينوا بالصبر والصلاة، نستعين بالصلاة لماذا؟ لكل شيء؛ إن طاف بكم بلاء استعينوا بالصلاة يرتفع البلاء، إن وقعتم في مغبة خسران استعينوا بالصلاة، يتحول الخسران إلى ربح، إن وقعتم في تخلف يتمثل في ضعف، عدوٍ يتهددكم استعينوا بالصلاة، فإن الصلاة تقويكم من ضعف، تعطيكم الغلبة، تنصركم على أعدائكم، ولذلك ذكر الله عز وجل عباده عامة بهذه الصلاة، ثم ذكر على وجه الخصوص أولئك الذين يقفون في الخنادق ليدافعوا عن أمتهم وليواجهوا عدوهم إذا صادفهم، يوجه إليهم هذه التذكرة بصورة خاصة لأنهم في الموقع الذي يتضاعف واجب إقبالهم إلى الله عز وجل ماذا يقول؟ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
ولقد علمتم أن الصلاة هي أول أنواع الذكر وأقدس أنواع ذكر الله سبحانه وتعالى، ربط مقابلة المؤمنين للعدو بهذا الدواء وبهذا العلاج. فكم وكم هو خطر أن يكون الذين يقفون في الخنادق أو المعسكرات ويترقبون عدواً ربما يطمع في أرضهم وبلادهم ليقوموا بواجب الدعوة بل بواجب الحماية بواجب الدفاع عن الحقوق والمقدسات. انظروا كم هو خطر أن يكون هؤلاء الناس من المعرضين عن ذكر الله عز وجل وأشد من ذلك خطراً أن يكون هؤلاء الناس أنفسهم الذين يمنعون المقبلين إلى الله عز وجل لصلاة يؤدونها أو لعبادة ينهضون بها أو لاستجابة لشرف دعوة دعاهم الله سبحانه وتعالى إليها.
هذا هو الخيط الأول الذي يجسد إيمان المؤمنين والذي يصل ما بينهم وبين الله فإذا انقطع هذا الخيط ما الذي بقي أيها الإخوة ما هو مصداق إسلام المسلم ما هو مصداق إيمان المؤمن بالله سبحانه وتعالى؟
أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من الاستجابة لهذا الشرف - كما قلت لكم هو تشريفٌ قبل أن يكون تكليفاً، ويعلم ذلك من ينهض إلى النوافل بعد الفروض، من يكثر النوافل من الصلاة بعد الفروض يعلم ذلك. ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "وما يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطينه ولإن دعاني لأجيبنّه"
اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم لا تبعد عنا شرف الاستجابة لدعوتك لدخول حماك يا رب العالمين وأصلح حال أمتنا جمعاء يا مولانا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.