مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/04/1999

لهذا تدور رحى الهلاك على مسلمي (بورما) اليوم

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لو علم الله سبحانه وتعالى أن القوانين التي يحكم الناس بعضهم بعضاً بواسطتها وسيلةٌ لإصلاحهم ولإسعادهم ولتنسيق علاقة فيما بينهم، إذاً لوكلهم الله سبحانه وتعالى إلى تلك القوانين ولكلفهم أن يبحثوا عن سعادتهم في الركون إليها وفي الاعتماد عليها. ولكنه عز وجل - وهو الحكيم الخبير - علم أن الناس إن وكلوا إلى الأنظمة التي يبتدعونها من عند أنفسهم وإن أحيلوا إلى الشرائع والقوانين التي يحكمون بها أنفسهم ويختلقونها ويخترعونها من عند أنفسهم، فإنها ستكون سبباً لهيمنة القوي على الضعيف، ولسوف تكون سبباً لاستعباد القوي الضعيف، ولسوف يكون مجالاً للتهارج وللفتن وللشقاء الذي لا علاج له.

ومن هنا كان لابد أن يتدارك الله سبحانه وتعالى الناس برحمته؛ فيكلفهم بأن يخضعوا لنظامه وأن يستسلموا لشرعته وأن يقفوا جميعاً على بابه، فقال عز من قائل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" وقال سبحانه: "قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" هكذا يقول الله سبحانه وتعالى.

ولقد كان من الممكن أن لا يكلفهم بالرجوع إلى شرعته ولا بالاحتكام إلى نظامه لو أن قوانين البشر تسعدهم، ولو أن الناس كانوا من دون رقابة الله سبحانه وتعالى يمارسون العدالة ويراقبون سيرها بدقة فيما بينهم، ولكن الله علم أن هذه الخليقة إن وكلت إلى نفسها لا بد أن يستشري فيها الظلم، ولا بد أن يذهب الضعيف ضحية قوة القوي وغناه. ومن هنا كان اللطف الإلهي متجسداً في هذه الشريعة التي أنزلها علينا، وفي عقيدة العبودية لله عز وجل التي أخذ عباده بها. ومن أراد أن يشك فيما نقول ومن داخلته الريبة في هذه الحقيقة فلينظر إلى التاريخ القصير الماضي ولينظر إلى الوقائع التي يراها من حوله اليوم.

ها هم أكثر الناس قد ابتعدوا عن شرعة الله، واستبدلوا بها أنظمتهم، واستبدلوا بها قوانينهم، وزعموا أنهم قادرون على أن يستغنوا من رقابة الله برقابة القوانين، وزعموا أنهم قادرون على أن يتحرروا من شرائع الله سبحانه وتعالى بالرجوع إلى ما يسمى بحقوق الإنسان، وزعموا أن لهم بما يسمى بالمنظمات العالمية كهيئة الأمم وغيرها ما يغنيهم عن رقابة الله الحي القيوم. فماذا كانت النتيجة؟ هل أفادت هذه القوانين كلها؟ هل أنصفت هذه الأنظمة الضعيف من القوي؟ هل قام من منظمة حقوق الإنسان وموادها ما ضرب على يدي الظالم وجعل المظلوم في حصنٍ حصين من أجل أن يرعى حقوقه في حياته التي يعيش فيها؟

كل ذلك لم يتحقق لم يتحقق شيءٌ منه بل الذي تحقق هو نقيض ذلك كما ترون.

ها أنتم ترون أيها الإخوة ما لا تصدقه الأعين على الرغم من أنها تحدق فترى، وها أنتم تسمعون ما لا تكاد الآذان تصدقه على الرغم من أنكم تسمعون، وها أنتم ترون شيئاً لو وضع في ميزان المشاعر الإنسانية لقلنا إنه لا يمكن للمشاعر الإنسانية أن تتعايش مع مثل هذا النوع من الوحشية التي تقشعر لها مشاعر المخلوقات أجمع. والقوانين موجودة والأنظمة موجودة وما يسمى بحقوق الإنسان موجود فما السر في ذلك؟

السر في ذلك أن الناس كأولاد في أسرة إن انبتت عنهم رقابة الأبوين عادت علاقة ما بينهم إلى هرج ومرج، لا يصلح الأسرة إلا رب الأسرة، والأسرة الإنسانية كهذه الأسرة الصغيرة لا يمكن أن يقف أفراد هذه الأسرة تحت مظلةٍ واقية من العدالة إلا برقابة قيوم السماوات والأرض، ابتعدت هذه الأسرة عن رقابة قيومها وشردت عن نظام الله إلى ما يسمى بنظام الإنسان فكانت النتيجة هذا الذي ترون. استبد القوي ورأى أنه يملك أن يفعل ما يشاء في سبيل مصالحه وهو لا يؤمن إلا بمصالحه ولا يعبد إلا ذاته ومصالحه، فما الذي يمنعه من أن يذبح الملايين؟

ما الذي يمنعه من أن يجرد عشرات الآلاف من هوياتهم ومن ارتباطهم بأوطانهم وإذا بهم بين عشيةٍ وضحاها ليست لهم نسبٌ إلى أرض وليست لهم هوية تنتمي إلى دولة؟ ما الذي يمنعهم ما دامت رقابة الله ابتعدت وما دام القوي يملك أن يفعل ما يشاء دون أن يقول له قائلٌ؟

أجل .. ها أنتم ترون الدول العظمى التي تتحدث عن حقوق الإنسان والتي تلوح بما يسمى النظام العالمي الجديد وما إلى ذلك. ها أنتم ترون كيف تجعل من ذلك كله غطاءً لأشرس أنواع البغي، لأشرس أنواع الوحشية والهمجية التي لا يمكن أن تروا نظير لها في التاريخ أبداً.

والمسلمون اليوم الذين يملؤون رحب هذا العالم، لهم منظماتهم الشكلية، لهم ما يسمى منظمة المؤتمر الإسلامي، لهم ما يسمى بجامعة الدول العربية، لهم القادة المسلمون الذين يتكلمون بين الحين والآخر ويلوحون بالمشاعر ولا أحد يُلقي لهم بالاً، ولا يوجد من يضع لهم ميزاناً ولا يوجد أمام الوقائع في العالم من يضعهم إلا في خانة الصفر على أقصى اليسار. هذا هو الواقع. هل كان المسلمون هكذا؟

لقد كان واقع المسلمين بالأمس الدابر على النقيض من هذا تماماً، كانت خشية العالم من المسلمين، وكانت الهيبة في صدور العالم اتجاه الدولة الإسلامية، وكانت الدولة العظمى التي يحسب لها كل حساب هي الدولة الإسلامية، وكانت الدولة الإسلامية ترعى من خلال سياستها حق الله سبحانه وتعالى، فكانت خير أمين على رعاية حقوق الناس. هكذا كانت تلك الدولة.

فما الذي جعلها مهابة في أعين العالم؟ وما الذي جعلها اليوم هينة في تلك الأعين؟ ما الذي جعلها تقود وهي اليوم تُقاد بذلٍ وهوان؟

شيءٌ واحد، كانت الدولة الإسلامية بل كانت الأمة الإسلامية آنذاك تدور على محور إسلامها، تدور على محور إيمانها، كانت علاقتها بإسلامها علاقة الجندي بالقائد، ولم تكن علاقة إنسان يعرف شعار كاذباً يلوح به ولا معنى له، كانت تلك الأمة تتعامل مع دينها بحق، وكانت أمينة على عقائدها عبوديةً لله، وعلى شرائعها خضوعاً لنظام الله سبحانه وتعالى، ومن هنا ألف الإسلام بين أشتات تلك الأمة، ومن هنا كان لابد لهذا الإسلام أن يجمع أفراد تلك الأمة، فكان أولئك الناس بفضل تمسكهم الحقيقي بهذا الإسلام أمة واحدة حقيقة وكانوا مثالاً ناصعاً لقول الله عز وجل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا".

فلما وحدهم الإسلام عزوا في أعين الآخرين، ولما وحدهم الإسلام قواهم الله عز وجل أمام الآخرين، ولما وحدهم الإسلام أغناهم الإسلام أمام الآخرين، واستعملوا عزتهم وقوتهم وغناهم في مراقبة الله عز وجل وفي رعاية حقوق الإنسان فعلاً، ولذلك كانوا مثال الدفاع عن الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. أما اليوم فقد ودّعوا إسلامهم حقيقةً واستبدلوا به شعارات ميتة. هذا هو باختصار واقع المسلمين اليوم. أسماؤهم لا تزال تلتمع في الآفاق مسلمون، ومشاعرهم وعقائدهم وأحلامهم وأمانيهم فارغة عن الإسلام متجهة إلى جهات أخرى مختلفة وأرضية شتى. فما الذي يجمعهم وقد اختفى الإسلام الجامع؟ ما الذي يغنيهم وقد كان غناهم عن طريق الإسلام؟ ما الذي يعزهم وقد كان مصدر عزتهم الإسلام؟

لا يمكن أن يعزوا بعد أن نفضوا أيديهم من الإسلام إطلاقاً، ولا يمكن أن يجدوا بعد ذلك إلا الذل. لا يمكن أن يتحدوا بعد أن وحدهم الإسلام وقد نفضوا اليوم أيديهم من الإسلام. ما الذي يوحدهم بعد أن غاب الإسلام الذي كان هو محور توحيدهم؟

الشعارات لا تحقق شيئاً، الكلمات البراقة لا تفعل شيئاً، الذي يفعل هو الاعتقاد، والذي يفعل هو اليقين، الحافز إلى السلوك ... وكل ذلك غاب. ومن هنا فإن رحى الهلاك تدور كما نرى وكما نسمع على الآلاف المؤلفة من إخوة لنا.

أين هم الذين يتكلمون؟ وأين هم الذين يستنكرون؟ وأين هم الذين يلوحون بعصا تأديب الأوغاد الذين هم مثال الهمجية في العالم المتحضر؟ لا يوجد أحد. لماذا؟ لأن اليد التي ستهتز بالتأديب لن يحركها إلا قوة الإسلام والإسلام غائب والشعارات الإسلامية لا تفعل شيئاً.

أيها الإخوة كلمات قالها قائدٌ من أبرز قادة العالم العربي اليوم قبل أيام وقفت عندها قال: كان شعار هذه الأمة الوحدة العربية، ثم تراجع هذا الشعار فأصبح شعارها التضامن العربي، ثم إن هذا الشعار أيضاً تراجع وأصبح شعارها التعاون العربي. أفيجوز السكوت على واقع مخزٍ بهذا الشكل؟ هذا ما قاله هذا القائد العربي الذي يمتاز عن كثير من قادة العرب اليوم.

وأنا أقول: إن هذا الكلام صحيح، ولكن ينقصه بيان السبب، لماذا كان شعار هذه الأمة بالأمس الوحدة العربية، ثم تراجع ثم تراجع فتراجع؟ السبب هو أن هذه الأمة لم تكن من قبل ترفع شعارا ًأبداً، كانت تفعل ولا تعتز بشعارات مكتوبة، كانت هذه الأمة أمة واحدة، وكان طوق الخلافة خير ترجمان لوحدتها التي ينشدها كثيرٌ من الناس اليوم، على الرغم من ضعفها لم يكن العدو يستطيع أن يفعل شيئاً مع وجودها، فلما انهارت تلك الخلافة بفعل أعداء هذه الأمة وفي مقدمتهم الصهيونية العالمية كما تعلمون، وغابت الوحدة الإسلامية عندما تحطم طوق الخلافة الإسلامية، استبدل المسلمون والعرب بتلك الخلافة الشعار الذي رفعوه، (الوحدة العربية). هذا الشعار جاء بديلاً عن واقع الوحدة المتمثل بالخلافة.

ولما كانت الوحدة لا يمكن أن تتحقق بدون محور جامع، ولما كان المحور الجامع الذي يجمع أشتات المسلمين الذي هو الإسلام وقد غابت فعالية الإسلام، فقد بقي الشعار ميتماً على الرغم من ارتفاعه، ظل شعار الوحدة العربية مرفوعاً لكنه ظل شعاراً يتيماً يستعصي على التطبيق، لأنه لا يوجد محورٌ يجمع، وقام من جرّب محاور أخرى، لعل القومية تجمع لعل الواقع التاريخي يجمع لعل اللغة تجمع، لم ينب عن الإسلام أي جامعٍ آخر بعد أن غابت فعالية الإسلام.

كان لابد أن يتراجع هذا الشعار بعد ذلك، ذلك لأن الأعداء الذين تربصوا بالخلافة وحطموا طوقها لم يقفوا عند ذلك الحد، عمدوا إلى كتل هذه الأمة الإسلامية فقسموها إلى أجزاء، وعمدوا إلى الأجزاء فقسموها أيضاً إلى نثار، وعمدوا إلى هذه النثار فأثاروا فيما بينها الخصام، ومن ثم كان لابد أن يتراجع شعار الوحدة الإسلامية أو العربية ليتحول إلى شعار تضامن عربي، ونظرنا وإذا بنا نجد أنه لابد أن يتحول شعار التضامن أيضاً إلى أقل من ذلك نقتنع به ألا وهو شعار التعاون، شعارٌ امتداد الأيدي بشيء من التعاون بين العرب الذين كانوا يوماً ما مثال العزة ومثال الهيبة بين العالم.

ألا هل آن لأشتات المسلمين اليوم أن يعلموا أن معين عزهم إنما يكمن في الإسلام؟

هل آن لهم أن يعلموا أن معين غناهم لا يمكن لا يمكن أن يتفجر إلا من خلال عودٍ صادقٍ راشدٍ إلى الإسلام؟

ألا هل آن لهم أن يعلموا أن الشبكة التي تعيدهم إلى ألق الوحدة، لا يمكن أن تتمثل إلا في الإسلام.

أسأل الله عز وجل أن يوقظ هذه الأمة إلى معرفة هذا الحق فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي