مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/03/1999

يوم عرفه لمن عرفه

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن من عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن جعل من يوم عرفة ميقاتاً لفضيلةٍ خاصةٍ تميز بها وجعل هذا الميقات متصلاً بالزمان والمكان معاً. فيوم عرفة يومٌ متميز من عمر العام كله، والفضيلة التي تكمن في هذا اليوم فضيلة كبرى، ودل على ذلك كتاب الله عز وجل والصحاح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

غير أن هذه الفضيلة ليست محصورةً في الزمان كما أنها ليست محصورةً في المكان، فيوم عرفة يومٌ مبارك له أسراره المودعة فيه لينال هذا الفضل كل الناس، كل الذين يعيشون فوق هذه الأرض في أي بقعةٍ كانوا وفي أي مكان وجدوا. ويوم عرفة ميقاتٌ لفضيلةٍ مكانية أيضاً ألا وهو عرفة، ذلك المكان الذي يجتمع فيه الحجيج الساعة في هذا اليوم، ذلك فضل زماني وهذا فضلٌ مكاني. فأين تظهر رحمة الله في هذا التوزيع الذي ترون؟

لو كانت المزية خاصةً بعرفة حيث يجتمع الحجيج لحرم منها الذين قصُرت حظوظهم عن الحج إلى بيت الله الحرام ولما نالوا شيئاً من مزية هذا اليوم المبارك قط، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها مزيتين اثنتين، مزيةً مكانية يتفيء ظلالها الحجيج، ومزيةً زمانية يتفيء ظلالها عباد الله جميعاً أينما وجدوا وحيثما حلو. فمن اتجه في هذا اليوم المبارك ليؤدي حقه وليتقرب فيه إلى الله عز وجل بما يرضيه وبدأ عمله هذا بتوبةٍ صادقةٍ ينيب فيها إلى الله سبحانه وتعالى، أكرمه الله سبحانه وتعالى كما يكرم أولئك الذين اجتمعوا في أرض عرفة، لا ينقص من أجر هؤلاء شيء، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل تجلياته محصورةً في مكان اسمه عرفة فقط، وإنما جعل تجلياته منتشرة منتثرةً في بقاع الأرض أجمع في هذا اليوم المبارك.

فلا يندبن حظه من وجد أن الظروف لم تُتح له الحج إلى بيت الله الحرام، وأن أسبابه قصرت به عن أداء هذا النسك، ولا يشعرن قلبه بالحنين إلى عرفة حيث يجتمع ويزدحم الحجيج في هذا اليوم فإن الله عز وجل قد جعل له عوضاً عما فاته، والعوض الذي جعله الله سبحانه وتعالى له عما فاته هو هذا اليوم المبارك بقطع النظر عن المكان الخاص، فهو يومٌ يلاحق فضله الناس جميعاً أينما كانوا بشرطٍ واحد، هو أن يُقبل الناس إلى الله سبحانه وتعالى وأن يفتتحوا إقبالهم بتوبةٍ صادقةٍ إلى الله عز وجل يطهرون القلب من خلال هذه التوبة مما قد علق به من الشحناء والبغضاء والأحقاد والحسد والكراهية ونحو ذلك، ويطهرون الأعضاء مما قد علق بها من المحرمات التي كان راكناً إليها أو عاكفاً عليها، ثم يتجه إلى الله سبحانه وتعالى بالقربات وما أكثرها وما أكثر أنواعها.

وقد قلنا أن العمل الصالح أياً كان قربةٌ عظيمةٌ وجليلةٌ يتقرب بها الإنسان إلى الله بشرطِ لأن يكون عمله خالصاً لله وأن لا يبتغي من عمله وتقربه هذا أي مصلحةٍ دنيوية، وإنما يبتغي بذلك استنزال رضى الله سبحانه وتعالى عنه.

وإذا اجتمعت فضيلة يوم عرفة مع فضيلة يوم الجمعة فأعظم بذلك من فرصة سانحة قلما يتهيئ مثلها في الزمن، كلكم يعلم أن يوم الجمعة هو اليوم المبارك من كل أسبوع، ولقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التنبيه إلى فضائل هذا اليوم والدعوة إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة واليوم الزهراوين، أجل. فما بالك إذا اجتمعت فضيلة يوم عرفة مع فضيلة يوم الجمعة في ميقاتٍ زماني واحد ينبغي للإنسان إذا كان عاقلاً أياً كانت حاله أن ينتهز هذه الفرصة التي ربما لن تسنح له ثانيةً قط وربما لن يتسع عمره لتكرار هذه المزية المزدوجة بعد هذه الفرصة قط. فالعاقل هو ذاك الذي ينتهز الفرصة ينفض كيانه من المعاصي والأوزار ويقبل على الله قائلاً: لبيك اللهم لبيك، اقبلني وافداً إليك، اقبلني واقفاً بين يديك، اقبلني متجلبباً بذل العبودية لك. ولا شك أن الله عز وجل يستجيب دعاءه ويقول له: لبيك. والله سبحانه وتعالى حيي يستحي كما ورد في الصحيح (إذا بسط العبد كفيه إلى الله عز وجل بدعاءٍ ضارع أن يردهما خائبتين).

أما ما يتردد على ألسن الناس من أحاديث أو من حديث عن فضيلة يوم عرفة عندما يجتمع هذا اليوم مع يوم الجمعة، فهو لم يصح وينبغي أن يعلم الناس ذلك، وما يعبر عنه الناس بكلمة الحج الأكبر عندما يصادف ذلك يوماً كهذا اليوم ليس إلا استنباطاً من شيءٍ يستطيع أن يعرفه كل مسلم، وهو أن فضيلة الجمعة إذا اجتمعت والتقت مع فضيلة يوم عرفة تضاعف الفضل وتضاعف الأجر، هذا كلام صحيح وهذا فهمٌ سليم وربما سمي الحج عندئذٍ بالحج الأكبر لهذا السبب. أما ما قد يرويه بعض الناس إن بالشفاه أو في الكتب من أحاديث تتعلق بفضل هذا اليوم عندما يجتمع يوم عرفة مع يوم الجمعة فلم يصح في ذلك شيء. ولكننا نعلم أن المزيتين عندما يجتمعان في ميقات واحد لابد أن يتضاعف بسبب ذلك أجر العبادة وأجر الإقبال على الله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة إن الإنسان عندما يمر بمناسباتٍ كهذه المناسبة يتجلى الله عز وجل فيها على عباده بالرحمة ويفتح أبواب إكرامه وجوده للمقبلين إليه وإن سودوا صحائفهم قبل ذلك بالمعاصي والآثام، عندما نمر بمناسباتٍ كهذه المناسبة كم وكم يتمنى الإنسان أن يجد إخوانه الشاردين عن صراط الله عز وجل والتائهين في أودية الضلال والذين حجبوا أنفسهم عن الله عز وجل بالمعاصي والآثام سواءٌ منها الفكرية أو السلوكية، كم يتمنى الإنسان أن يجد هؤلاء الإخوة وقد عادوا عن شرودهم ورجعوا عن غيهم وعادوا إلى صراط الله العزيز الحميد يناجون ويلتجؤون إلى الله عز وجل أن يقبلهم. هذا ما تقر له عين كل إنسان مسلم.

أن تجد المقبلين على الله عز وجب دائماً يزدادون إقبالاً على الله سبحانه وتعالى في هذا اليوم، هذا شيء مألوف ومنظرٌ معروف ولكن الشيء الغريب والذي يطرب النفس وتقر له العين ويملئ القلب سروراً وفرحاً أن تجد هؤلاء التائهين والشاردين بل المستكبرين على الله سبحانه وتعالى الجانحين عن صراط الله العزيز الحميد وقد أقبلوا إلى الله سبحانه وتعالى إقبال التائب إقبال الراجع الآيب وقد تهللت وجوههم بسيمة التوبة والإقبال على الله عز وجل، وتألق سيما رحمة الله سبحانه وتعالى مزدهرةً على وجوههم. هذا هو المنظر الذي لا يمكن أن تجد أجمل منه، وهذا هو الشيء الذي يبعث في النفس سروراً لن تجد أبلغ منه.

لكن أين هم هؤلاء الذين عكفوا عن انحرافاتهم في الأوقات العامة المختلفة، ثم إنهم ظلوا يعكفون على غيهم وضلالهم في مثل هذه الأوقات المتميزة الخاصة التي ما من مسلم إلا ويشم عبق تجليات الله سبحانه وتعالى فيها؟ لماذا لا يعودون إلى الله؟ لماذا لا يعودون عن شرودهم ومجتمعاتنا وإن كانت تزداد ولله الحمد بالمقبلين على الله وبالعائدين إلى صراط الله سبحانه وتعالى وبرجال أو شباب الصحوة الإسلامية كما يقولون؟ إلا أن مجتمعاتنا أيضاً تغص بالشاردين وبالمنحرفين وبالتائهين وبالذين كانوا ولا يزالون يستخفون بدين الله سبحانه وتعالى ويستخفون بأوامره ولا يلقون بالاً إلى شرائعه. يصغون السمع إلى خطط الغرب الماكرة المتربصة بالإسلام ويجعلون من أنفسهم جنوداً لهم ولكنهم لا يفكرون في ساعة ولا مثل هذه الساعة القدسية أن يعتقوا أنفسهم من ذل العبودية لأولئك وأن يجعلوا من أنفسهم عبيداً لله مجندين في تنفيذ أوامر الله لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.

نحن ننتظر في مثل هذه المناسبات العطرة في مثل هذه الساعات التي يتجلى الله عز وجل فيها برحمته على عباده جميعاً، ننتظر من هؤلاء الإخوة الشاردين أوبةً إلى الله سبحانه وتعالى، ننتظر منهم أن يشعروا أو أن يستشعروا بالخجل والحياء من هذا العتب الرقيق الذي يفيض به كلام الله عز وجل (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). ما أتصور أن إنساناً ينطوي كيانه على شيءٍ ولو يسير من رائحة الإيمان بالله عز وجل ثم يسمع هذا العتب الرقيق الذي يخاطب الله عز وجل به عباده إلا ويذوب حياءً وخجلاً من الله عز وجل.

انظر ماذا يقول لك مولاك، انظر إلى هذا الاستفهام الرقيق العذب: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)

كم وكم تسمعون التذكرة تلو التذكرة تلو التذكرة؟

كم وكم تسمعون الكلام الذي يحبب إليكم الإيمان ويقربه إلى قلوبكم؟

كم وكم تسمعون الكلام الذي يحذر مما أنتم مقبلون عليه بعد الموت أما آن أن تتأثروا بهذه المذكرات؟!

أما آن أن تفتحوا عقولكم ولكلام مولاكم وخالقكم الذي يلاحقكم بالنصيحة وأنتم تفرون؟!

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) بلا لقد آن يا رب، هذا ما تتطلع إليه آذاننا ننتظر تلك اللحظة التي يقول فيها إخواننا الشاردون على اختلاف مستوياتهم وعلى اختلاف فئاتهم أن يقولوا بقلوبهم وألسنتهم بلا قد آن يا رب، وها نحن نعود إليك فاقبلنا عند بابك.

أجل أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ينتهزون هذه الفرص المباركة وأن يقبلنا عنده وأن يكرمنا بما أكرم به أولئك الحجيج الذين أُتيح لهم أن يرحلوا إلى بيت الله الحرام.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يسخرنا جميعاً للأعمال الصالحة التي ترضيه فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي