مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/03/1999

ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

هل تأملتم وتدبرتم هذا الكلام الرباني الذي يخاطب الله عز وجل به عباده ليعتبروا بالأمم التي تاهت وانحرفت واستكبرت على الله سبحانه وتعالى، فحاق بها من الهلاك في الدنيا ثم في الآخرة ما قد حاق، كي لا يسلكوا مسالكهم ولكي لا يقعوا في التيه الذي وقعت فيه تلك الأمم وأولئك الجماعات؟

هل تدبرتم كلام الله سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)؟ ألم تر إلى أولئك الناس الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالنعم ألواناً وأصنافاً وأشكالاً.

أكرمهم الله سبحانه وتعالى بنعمة العافية فاستكبروا بها وزُهوا بنعمة العافية واتخذوا منها حجاباً أقصاهم عن الله سبحانه وتعالى.

أكرمهم الله سبحانه وتعالى بنعمة الرزق الواسع الوفير، فتاهوا وفاضت في أنفسهم مشاعر المرح والكبرياء من هذه النعمة التي أغدقها عليهم، ورقصوا على تلك النعمة وتاهوا عن أوامر الله سبحانه وتعالى، وقال قائلهم كما قال ذلك الطاغية من قبل: "إنما أوتيته على علم عندي". ولقد قص علينا كتاب الله قصة قارون هذا.

أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالماء النمير هطل عليهم من السماء، ثم جعل الله سبحانه وتعالى له مستقراً في تجاويف الأرض.

أكرمهم بالينابيع الثرة هنا وهناك .. وأكرمهم بالنبات الذي متع الله سبحانه وتعالى به أعينهم به جمالاً، ومتع به أفواههم رغداً ورزقاً فاستكبروا وجعلوا هذه النعمة وسيلةً لمحاربة الله سبحانه وتعالى والاستكبار على أوامره وأحكامه. ما من معين ماء ٍفاضت به أرض في جهة من الجهات إلا وأقاموا من حولها ما يُغضب الله سبحانه وتعالى، أقاموا من حول هذا المعين من أسباب اللهو المحرم ومن أسباب الفسوق الذي يُغضب الله سبحانه وتعالى ما استطاعوا أن يتفننوا فيه وأن يبدعوا منه ما شاؤوا أن يُبدعوا منه ما شاؤوا أن يُبدعوا.

أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالأمن والطمأنينة في أوطانهم التي حماهم الله سبحانه وتعالى فيها من الأعداء والمتسلطين، فاتخذوا من هذه الطمأنينة سلماً للبغي والطغيان سلماً إلى الجحود والكفران.

أكرمهم الله سبحانه وتعالى بكل ما يمكن أن تتصوروه من النعم الظاهرة والباطنة، ولكنهم بدلاً من أن يتخذوا من هذه النعم سبيلاً إلى مرضاة الله عز وجل وسبيلاً إلى غرس محبة الله عز وجل في أفئدتهم وقلوبهم جعلوا من هذه النعم كلها حجاباً حجبوا أنفسهم به عن الله سبحانه وتعالى.

يذكرهم المذكرون فيشيحون بوجوههم ويشيحون بأسماعهم.

يُنبههم المنبهون إلى عظات الله وإلى بليغ أوامر الله سبحانه وتعالى فيشمئزون من التبليغ والمبلغين ويرون أن الزمن قد عف على هذا كله، وأن القديم أصبح بالياً ما ينبغي أن يحفل العقلاء به.

وينبههم المنبهون ويحذرهم المحذرون وتتلى آيات الله سبحانه وتعالى عليهم في المناسبات وآناء الليل وأطراف النهار، ولكنهم قد اتخذوا من نعمة الله سبحانه وتعالى عوامل سدت منافذ آذانهم، وغشت على بصائرهم، ولفت الران على أفئدتهم وقلوبهم.

وما أتصور أن في أنواع اللؤم لؤماً أشد وأسوء من أن يتخذ الإنسان من النعم والمكرمات التي يسديها أي منعم وأي متفضلٍ عليه، يتخذ منها أداةً لحرب هذا المتفضل المنعم، فكيف عندما يكون المنعم رب العالمين؟! وكيف عندما يكون المنعم مالك الملك كله؟!

هؤلاء الذين خلوا مع الزمن يلفت بيان الله عز وجل أنظارنا إليهم وينبهنا إلى مكان العبرة في مصيرهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) بدلاً من أن يجعلوا من هذه النعم التي ذكرت جزءاً يسيراً جداً جداً منها، بدلاً من أن يجعلوا من هذه النعم سبيل عودة إلى الله وإصطلاح مع الله والتزامٍ لأوامر الله عز وجل، جعلوا من هذه النعم سلاحاً بل أسلحة ليقابلوا المنعم المتفضل بالكفران: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)

ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة أن أحلوا قومهم دار البوار، أحلوا قومهم دار الهلاك.

ولعل فينا من يقول فما ذنب سائر القوم؟ وهم الذين جحدوا وهم الذين استكبروا وطغوا؟ ألم يقل الله عز وجل (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، هم عليّة القوم وهم قادتهم وهم الزعماء والرؤساء فيهم، وهم المتبوعون ومن دونهم التابعون، فلما استكبروا استكبارهم وأغدق الله عز وجل النعم من السماء، وفجّر لهم النعم من الأرض، وأغدق عليهم نعم العافية في أجسامهم، وحماهم بنعمة الطمأنينة من حولهم، لما أكرمهم الله سبحانه وتعالى بهذه النعم كلها فاستقبلوا المنعم بالكفران والنسيان وازدراء الأوامر وخلع ربقة العبودية لله سبحانه وتعالى، استبدل الله سبحانه وتعالى بتلك النعم نقائضها، فأصابت النقائض أولئك المتبوعين والتابعين، أصابت نقم بعد تلك النعم أصابت الجميع، فهذا معنى كلام الله عز وجل (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

وليس هذا بدعاً ولا بعيداً عن سنة الله سبحانه وتعالى في عباده أيها الإخوة، هذا الدين الاسلامي العظيم دين اجتماعي، دين مسؤولية، دين يمثل شبكة تعاونية بين فئات الناس كلهم من أعلى القمة إلى أسفل القاعدة، عندما تصطبغ هذه المجموعة بدين الله عز وجل، فلتعلم أن هذه المجموعة أصبحت فئة من الناس المتعاونين، كل مسلمٍ يغدوا مسؤولاً عن نفسه ومسؤولاً عن جاره ومسؤولاً عن أسرته ومسؤولا ًعن مجتمعه ... فلا يجوز لي أن أسكت إذا رأيتك عاكف على محرم، ولا يجوز لك أن تسكت إذا رأيتني عاكفاً على ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، أذكرك وتذكرني، آمرك وتأمرني، أنهاك وتنهاني .. ويكون الدافع إلى ذلك كله الحب والشفقة والشعور بأن هذه الجماعة إن هي إلا أسرة إنسانية تقف تحت مظلة معنى العبودية لله سبحانه وتعالى، ومن ثم تقف تحت مظلة هذه الإخوة الراشدة وكونوا عباد الله إخوانا.

فعندما يتحول هذا المجتمع إلى أنكاث، وتغيض وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وتغيض التذكرة التي يندفع إليها الإنسان بسائق غيرة بسائق من التزام أمر الله عز وجل، بسائق شفقة وحب، فإن الله سبحانه وتعالى يضرب فئة من هذه الجماعة بالفئة الأخرى، ويحيق بهم قول الله سبحانه وتعالى: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ).

ماذا أفادهم الكبرياء؟ ماذا أفادهم الطغيان؟ ماذا أفادهم أن يستخدموا النعم التي أغدقها الله عز وجل عليهم بالعكوف على المعاصي، فرحوا أياماً عندما أقاموا حول هذه الينابيع مجتمعاتٍ لإثارة غضب الله عز وجل وللتفنن بأنواع اللهو الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وجعلوا من هذا الذي يزدان ويبرق ويتألق أمام أبصارهم إطاراً يزين مجالسهم، ومظهراً يتوج لهوهم وأفراحهم، ماذا أفادهم ذلك؟ إن هي إلا أيام ثم إن المياه نضبت، وعاد ذلك المكان الذي استراحوا إليه ومتعوا أعينهم بألقه، عاد مكان قاحلاً كلما تنظر إليه تبعث في نفسك الأسى وتبعث في نفسك الكرب والضيق، تلك هي العاقبة وتلك هي النتيجة وهذا معنى من معاني البوار بل هو مقدمة البوار.

انظروا أيها الإخوة لتعتبروا إلى أماكن كانت إلى الأمس القريب مجتمع قصف ولهو وعكوف على المحرمات جهراً لا سراً بتحد للمنعم المتفضل.

انظروا إلى تلك الأماكن إلام آلت؟ تجدون الرائحة البشعة التي تزكم الأنوف، تجدون المنظر الذي لا تكاد العين تستطيع أن تصبر عليه دقائق، ثم تحولوا من ذلك المكان إلى مثيله فمثيله فمثيله ... أجل ماذا ستجدون صوحت الواحة، وأقفر المكان، وأجدبت الأرض، وغاضت المياه، تعالوا قولوا لأولئك السامرين واللاهين، تعالوا إلى قصفكم، تعالوا إلى مجونكم، تعالوا تلك هي الأرض ما تزال كما كانت لماذا؟

ما قيمة هذا الاستكبار الذي يتحطم ويذل ويهون عندما يقضي الله عز وجل قضاءه؟

ألا تتدبرون هذا الكلام الرباني؟ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوار).

تلك هي مقدمة الهلاك، أما النتائج فأعتى وأشد (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ).

أيها الإخوة إن المعاصي كثيرة ومتنوعة، ولكن أشد أنواع المعاصي تسبباً لغضب الله عز وجل هو أن يقبل الإنسان إلى نعمة أنعم الله عز وجل بها عليه فيجعل منها أداة للتكبر على الله، ويجعل منها أداةً لمجاهرة الله ومجابهته للمعاصي التي حذره الله عز وجل منها.

لن تجد في المعاصي أشد من هذه المعصية، لأن هذه المعصية ثمرة استكبار، ثمرة عناد وعتو على الله سبحانه وتعالى وها نحن نرى .. وغداً سيحيق بالذين لا يزالون يرفعون رؤوسهم عالياً وقد عاهدوا الشيطان على أن يثبتوا على استكبارهم، عاهدوه على أن لا يطأطئوا الرأس إذعاناً لعبوديتهم لله ورجوعاً إلى حماه واستغفاراً على أعتابه. ترى هل سيصبرون هل سيصبرون على هذا العهد؟ عندما تأخذ المصائب والمآسي بالحلوق وعندما تحيق عوامل اليأس بالإنسان عندئذٍ يتبين حال المستكبرين أصحاب الكبرياء الزائفة وعندئذٍ يندم الإنسان ولات ساعة مندم كما قالت العرب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي