مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/03/1999

ونبلوكم بالخير والشر فتنة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .


أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

يقول الله عز وجل في محكم كتابه )وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(. هذه الآية القصيرة في مبناها تشكل الدستور الأعظم والمبدأ الجامع لكثيرٍ من سنن الله عز وجل في عباده، يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية إن من سنن الله في عباده أنه يأخذكم آنة بالشدة ثم يذهب بالشدة، ويأتي بعد ذلك بالرخاء، لكي يكون في ذلك كله امتحانٌ للعباد في الشدة التي تأتي بعد الرخاء، والرخاء الذي يأتي بعد الشدة. ترى هل يلتجئ الناس إلى الله سبحانه وتعالى عندما تعروهم الشدة وعندما تُطبق عليهم المصائب؟ هل تظهر حقيقة عبوديتهم لله عز وجل بالسلوك الاختياري، فيجأرون إلى الله بالتوبة ويلتجئون إلى الله بالدعاء الواجف، ويسألونه أن يرفع عنهم هذه المصيبة، متبرئين من حولهم وقوتهم، أم إن الكبرياء ستمنعهم عن ذلك؟

ثم إن الله عز وجل يذهب بالشدة ويأتي بالرخاء، ترى هل سيشكرون الله سبحانه وتعالى على هذا الرخاء؟ هل سيعلنون مرة أخرى عن عبوديتهم لله عز وجل من خلال شكرهم له على نعمه باللسان قولاً وبالجوارح فعلاً وعملاً؟

وإنما خُلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا ليؤدي هذه المهمة ليشكر عند النعماء، وليلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى متبتلاً ضارعاً عند الضراء عند المصائب. فإذا كان الإنسان شاكراً عند نعم الله عز وجل ملتجأً إليه متبتلاً إليه عند المصائب، فهو الإنسان الذي أدى ضريبة عبوديته لله سبحانه وتعالى، والعبادات كلها مهما كثرت إما أن تكون إلتجاءً إلى الله عز وجل وصبراً عند الشدائد، وإما أن تكون حمداً وشكراً لله سبحانه وتعالى عند النعم والرغائب.

إذا عرفنا هذا المعنى الذي تدل عليه هذه الآية القصيرة في ألفاظها كما قلت: )وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( فلنعد إلى واقع حالنا، هل نحن ممن يلتجئ إلى الله عز وجل عند المصائب ويشكر الله عز وجل الشكر الذي أمر عند النعم والرغائب؟

لو تأملنا أيها الإخوة لوجدنا أن موقفنا من الله عز وجل خطير وأن قوله سبحانه: (وإلينا ترجعون) ينطوي بالنسبة إلينا على تهديدٍ بالغ فكأنه يقول: وإلينا ترجعون لنحاسبكم على التقصير في الالتجاء إلى الله عند المصائب والشكر لله سبحانه وتعالى عند النعم والآلاء.

لونٌ من ألوان هذه المصائب امتد ثم امتد كما ترون إلى أواخر هذا الشتاء، وما منكم إلا قد علم خطورة هذه المصيبة، والخطورة التي تأتي من ورائها أشد بكثير من الخطورة التي تبدو أثناءها؛ المؤمن والفاسق المستقيم والمنحرف المتعبد والفاجر الكل يتهامسون ويعلمون مدى خطورة هذه الحال التي نمر بها، وما من مجتمع يتم بين فئات أياً كانت إلا ويدور حديثهم عن المأسات التي تمر بها هذه البلدة، الموسم قد ضرب، هذه كلمة أحدهم لا أزيد منها ولا أنقص.

البلاء خطير، والصيف اللاهب الذي سيأتي ليبخر البقية الباقية من الماء أخطر وأشد، إذاً الكل يعلم أننا نمر من هذه المشكلة بمصيبة، قد قرأنا الساعة كلام الله سبحانه وتعالى، تلك هي سننه يأخذ بهذه السنن عباده جميعاً إن كانوا صالحين أو طالحين، لا بد أن تهزهم المصائب ليتجلى التجاؤهم إلى الله الذي هو معنى من معاني عبوديتهم لله، ولا بد أن تمر بهم النعم أيضاً ليتجلى من خلال ذلك شكرهم لله، وهو لونٌ آخر من ألوان عبوديتهم لله عز وجل، تمر بنا هذه المصيبة وقد تلبثت فينا مدة طويلة فأين هم الملتجؤون إلى الله؟ أين هم المتبتلون بين يدي الله؟ أين هم الذين يقولون بألسنتهم وبقلوبهم: لقد تبرأنا من كل حولٍ وقوةٍ إلا من قوة الله سبحانه وتعالى. وآمنا أن الذي يسقينا هو الله وأن الذي يطعمنا هو الله وأن الذي يحيينا هو الله والذي يميتنا هو الله.

وإذا أمسك الله عز وجل رزقه عن عباده فهيهات أن يكون في الكون كله بعد الله من يقوم مقامه في إسداء هذه النعمة إلى الناس. أين هم الذين يرفعون أصواتهم بهذا الاعتراف وبهذا الالتجاء إلى الله عز وجل، حتى يرى الله فيهم الالتجاء والصبر؟ فيبدل شدتهم رخاءً كما هي عادته وكما هي سنته.

أما الضجر من هذه المصيبة فموجود، وأما الاعتراف بأن لا بد من الالتجاء إلى الله فمفقود، وأنا لا أعني بضرورة الاعتراف باللجوء إلى الله والتضرع إليه وبسط أكف الضراعة بين يديه لا أعني بهذا قلةً من المتعبدين في بيوتهم أو مساجدهم، لا أعني قلةٍ من الذين يُذكرون بالله ويُذكرون بسنن الله عز وجل لا، إنما أعني ما قد يتطلبه الله عز وجل، الذي أعنيه أن تنهض هذه الأمة بقدها وقديدها وفي مقدمتها المسؤولون فيها، وفي مقدمتها الذين يمسكون بزمام القيادة فيها، وفي مقدمتها القادة الذين يخططون ويسوسون أمرها، أين هؤلاء؟

خلال هذه الأشهر التي مرت .. أين هؤلاء يلتجؤون إلى الله ويعلنون عن تبرأهم عن كل حول وقوة إلى قوة الله وحوله؟ أين هي الكبرياء التي ينبغي أن تتحطم وأن تذوب في ضرام هذه المصيبة لا نجد أثراً لذلك أبداً؟ وهذا الأمر الذي نلاحظه أكبر بكثير من المصيبة التي تمر بنا؛ ذلك لأن الشدائد تمر على كل الناس، حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت بهم من هذا القبيل، والذين جاؤوا من بعدهم كذلك، لأنها سنة ولأن الحكمة منها كما قال الله عز وجل أن يتجلى التجاء الناس إلى الله عز وجل، ومتى يلتجئ الإنسان إلى الله؟ عند المخاوف.

إذا كانت دنيانا هذه صافية عن الكدرات، صافيةً عن المصائب والآلام، ليس فيها ما يبهج ويبعث على السرور. ففيم نلتجئ إلى الله؟ وأين هي الحاجة التي تسوقنا إلى الله؟ كانت الحكمة الربانية دقيقة لابد من سبب يسوق الناس إلى رحاب التذلل بين يدي الله. والسبب هو الحاجة، والحاجة تأتي من الخوف، والخوف يأتي من وراء المصائب.

سنةٌ ماضيةٌ يبتلي الله عز وجل عباده جميعاً لتفوح من خلالها رائحة التذلل على أعتاب الله، رائحة الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى وصدق الالتجاء إليه، لكن المصيبة الأدهى والأمَر أن تمر سحائب هذه المصيبة وأن تتلبث وأن يأتي النذير تلو النذير للناس أن يلتجئوا فلا يلتجئوا، أن يعود المستكبرون عن استكبارهم فلا يعودوا، أن يتداعى الرسميون وغير الرسميين إلى ما ندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يفعلون، الكبرياء التي تأتي على أعقاب المصائب مصيبة أدهى وأمر. هكذا ينذر كتاب الله سبحانه وتعالى وهكذا بيّن لنا كتاب الله وأوضح لنا أن المتكبرين لا تتفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكم وكم يوضح بيان الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة.

أيها الإخوة لونٌ من أشد ألوان الكبرياء تمقته الناس ويشمئز منه الذوق الإنساني، أن يرى المستكبر مقدمات المصائب بل أن يراها وهي تدنو وتدنو لتأخذ بالخناق، ولكن المستكبرين لا يريدون أن ينزلوا عن سدة استكبارهم ويشعرون بالخوف من المصائب التي تدنو إليهم فيثيرون غمزاً أو لمزاً أو إعلاناً إلى المتعبدين في مساجدهم وإلى المشايخ الذين يدعون إلى الله عز وجل أن يصلوا لهم صلاة الاستسقاء، أن يدعو الله عز وجل بدلاً عنهم، أن يلتجئوا إلى الله سبحانه وتعالى أما هم فلا. لماذا؟ ولو أن هذه الحفنة من الصالحين من الأتقياء دعوا الله عز وجل وظل المستكبرون في أبراج كبريائهم لم يتحركوا ظلوا متجاهلين، هل سيستجيب الله الدعاء؟ إن استجاب فخارقة من خوارق رحمته، وكم وكم في الدنيا مظاهر من مظاهر خوارق رحمة الله عز وجل، أما قانونه فيقتضي أن لا يُستجاب، لأن المطلوب هو أن ينزل المستكبر عن علياء كبريائه وأن يخلع جلباب عناده وأن يتوب مع التائبين وأن يلوذ مع اللائذين وأن يستغفر مع المستغفرين، هذا هو المطلوب.

ولذا فإن تلك الدعوات التي سرت سراً إلى بعض المساجد لصلاة الاستسقاء لم تغني شروى نقيرٍ أبداً، ذلك لأن الله عز وجل يريد من المسكتبر أن يحطم كبرياءه، هو القائل: )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ( أولئك الآخرون لم تقسو قلوبهم ولا مشكلة لهم أجل أيها الإخوة.

هذه المصيبة مصيبة من المصائب، ولكن الأخطر والأدهى منها والتي تهدد بعذابٍ وبيل من الله عز وجل أن فينا من لا يزال يتقلب على عرش كبريائه، لا يريد أن يعترف بأنه لا بد من التذلل بين يدي الله سبحانه وتعالى.

ووالله الذي لا إله إلا هو لو أن هذه البلدة خرجت برؤسائها وقادتها وبقية الطبقات والفئات التي فيها أو خرجت الغالبية العظمى منها كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغفرةً تائبة معلنة عن إيمانها معلنة عن توحيدها معلنة عن أن لا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه وتعالى، إذن لوجدتم أن الله سبحانه وتعالى أبدل هذه الشدة رخاءً، ولوجدتم أن المياه الهاطلة من السماء قد غمرت أرضكم هذه من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

وأمامي شاهد على هذا قلت لكم إن المغرب كان يعاني من محلٍ وشدةٍ كهذه الشدة وصادف أن كنت هناك، فتداعى الرسميون في أجهزة الإعلام كلها إلى الخروج إلى صلاة الاستسقاء طبقاً لما أمر به رسول الله بكل آدابها وقيودها، وخرج الجميع على كل المستويات خرج القادة، خرج الوزراء، فاض المكان بضباط الجيش بملابسهم، فاض المكان بكل الفئات صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ودعو الله واستغاثوا وتضرعوا وأعلنوا عن التوبة والندامة، وكم هو جميل أيها الإخوة أن ترى المسؤول الكبير الكبير وقد ذل لله في هذا المكان، كم هو جميل هذا المنظر، وكم هو تاج عظيم جليل على رأس القائد أو المسؤول عندما يقف هذا الموقف متبتلاً بين يدي الله عز وجل؟ ما الذي حصل بعد ذلك، لعلكم تسمعون وكالات الأنباء التي تتحدث عن الأمطار في العالم العربي منذ ذلك اليوم وإلى الآن لم ينقطع رفد الله سبحانه وتعالى عن تلك البلدة.

أما نحن فعلى استحياء وخجل طلب من بعض المشايخ أقولها بهذا التعبير أن يصلوا للجميع صلاة الاستسقاء، ومالكم لا تخرجون، أنتم ما الذي يمنعكم ما الذي يمنعكم؟ ما الذي يصدكم عن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، هل المصيبة مصيبة المشايخ فقط؟ هل الشدة تطوف من حولهم فقط؟ أم هي شدة تعروا هذه الأمة كلها؟ أما آن أن نتفاعل مع سنة الله في عباده، جاءت الشدة صداها ينبغي أن تكون في حياتنا الالتجاء إلى الله الاستغفار التبتل، التذلل لله سبحانه وتعالى، إعلان الإيمان بالله سبحانه وتعالى وطلب الصفح عن الذنوب والمعاصي، والله يغفر الذنوب كلها، وجاء بعد ذلك الرخاء صدى الرخاء في حياتنا أن نشكر الله، أن نحمد الله عز وجل بألسنتنا وبأعضائنا وبسلوكنا، وهذا هو قرار الله عز وجل فقلت وهذا كلام سيدنا نوح لقومه بأمر من الله أن يقول لهم ذلك )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا( هذا ضمانة الله للعباد )وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(.

أسأل الله عز وجل أن يصلح حالنا وأن يطهرنا من كبرياء أنفسنا تلك هي المصيبة العظمى إذا انزاحت عن نفوسنا هذه المصيبة فالمصائب كلها ستنقشع.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي