مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 26/02/1999

لذا .. لن أذكركم بفريضة الحج

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

لقد دأب كثيرٌ من المرشدين والخطباء أن يُذكِّروا الناس في مثل هذه الأيام بالآيات التي تدعو الناس إلى الحج إلى بيت الله الحرام، كما يذكروهم بالأحاديث النبوية الكثيرة التي تهيجهم شوقاً للحج إلى بيت الله الحرام ولأداء المناسك التي هي جزءٌ لا يتجزأ من دين الله سبحانه وتعالى، ولكني أعتقد أننا لسنا بحاجة بهذا العصر في هذه السنوات إلى أن نذكر الناس بشيءٍ من الآيات أو الأحاديث التي تأجج الشوق إلى زيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك الحج، ذلك لأن الناس بدون هذه المشوقات يتسابقون ويتنافسون ويسلكون كل السبل الممكنة وربما غير الممكنة في سبيل أداء هذا النسك. وأعتقد أن المسلمين لو تسابقوا وتنافسوا إلى أداء ما ترتبت عليهم من حقوقٍ للعباد كما يتسابقون ويتنافسون في طريق الحج إلى بيت الله الحرام، لأصلح الله عز وجل شأن المسلمين، ولجمع شملهم ولسدت الثغرات الخطيرة المتفتحة فيما بينها.

ولكن يا عجباً لحال كثيرٍ من المسلمين اليوم، تتجمع لواعج الدين في نفوسهم وتهتاج الأشواق الربانية بين جوانحهم لتتخذ خطاً واحداً لا ثاني له، ألا وهو السير حجاجاً إلى بيت الله الحرام، فإذا نظر الإنسان إلى مظاهر أشواقٍ في التصرفات الأخرى في الأعمال الأخرى، في الوصايا الأخرى من الله سبحانه وتعالى لعباده، وجدت أكثر هؤلاء الناس بعيدين تائهين لا تتحرك جوانحهم بشيءٍ من ذلك الشوق الذي يعتلج بين جوانحهم كلما دنى موسم الحج إلى بيت الله الحرام.

وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن القصد ليس وجه الله سبحانه وتعالى، وإنما هنالك أغراض أخرى يتأبطها أكثر هؤلاء الناس الذين يتجهون في الظاهر حجاجاً إلى بيت الله الحرام، وإلا فإن الشوق إلى الله عز وجل لا يتجزأ، إن الشوق إلى الله عز وجل لا يمكن أن يترجم إلا بأداء سائر الواجبات التي خاطب الله سبحانه وتعالى بها هؤلاء المتشوقين وهؤلاء الذين تلتاع قلوبهم شوقاً إلى رؤية بيت الله الحرام كما يقولون.

الشوق إلى دين الله لا يتجزأ .. والإنسان الذي اشتد به الشوق إلى أن يرى بيت الله الحرام إنما اشتد شوقه في الحقيقة إلى الله سبحانه وتعالى، والذي اشتد حبه لله واشتياقه إليه لا بد أن يترجم ذلك بأداء حقوق العباد، لا بد أن يترجم ذلك في السير بكل شؤونه وفي كل أعماله على النحو الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.

الإنسان الذي حركه وهيجه الشوق إلى الحج لا يمكن - إن كان مخلصاً لله عز وجل - أن يخطو خطوة لأداء هذه المناسك بشكل لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

ما أكثر الذين يصطنعون الحِرَف التي يخدم بها الحاج عباد الله هناك وهو لا يمت إلى تلك الحرفة بصلة. وإنما هي خطة ترسم ما بينه وبين المنتفعين بوسائل من الدفع والأموال من أجل أن يغطى هذا الإنسان بحرفة لا علاقة له به ومن ثم يتاح له أن يؤدي مناسك الحج.

وكم وكم أُسأل عن هذا الأمر الذي لا داعي ولا حاجة إلى السؤال عنه. لو كان الدافع هو وجه الله سبحانه وتعالى لعرف هذا الإنسان أنه بهذا العمل يغضب الله سبحانه وتعالى ولا يرضيه، كم من أناسٍ يعرفون أن الرشوة محرمة وأنها من الكبائر وأن الله عز وجل نهى عنها وأنه من أكل المال بالباطل وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)، ثم يُغمض الواحد منهم عينيه ويدفع الرشوة هنا والرشوة هنا، لماذا؟ لأنه شديد الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام. كيف يمكن لهذا الإنسان أن يكون صادقاً مع نفسه؟

كم من أطباء يذهبون باسم الطب ثم لا ينتفع الحجيج من طبهم شروى نقير؟

وكم من حرفيين وليسوا بحرفيين إلا بالاسم يغطون أنفسهم بهذه الحرفة ليتاح لهم أن يحجوا إلى بيت الله الحرام ولا يستفيد الحجيج من الحرفة التي ألصقت بهم شروى نقير،

بل كم من أناسٍ يذهبون باسم الإرشاد وباسم التوجيه والتعليم ولا يستفيد الحجيج من إرشادهم شروى نقير؟

كيف يمكن أن نفهم أن هذا العمل إنما يدفع إليه إخلاصاً لوجه الله عز وجل؟ أليس من الحق أن نقول لو أن الناس تنافسوا وتسابقوا سعياً إلى أداء ما ترتبت عليهم من حقوقٍ للعباد في نطاق التعامل كما يتنافسون ويتسابقون في مواسم الحج سعياً للحج إلى بيت الله الحرام لاجتمع شمل المسلمين ولصلح حالهم ولتجلى الله سبحانه وتعالى عليهم بالرحمة.

أيها الإخوة ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة من رواية الطبراني والحاكم على شرط الشيخين أن الرجل الذي يتجه إلى بيت الله الحرام بنفقة محرمة إذا وضع رجله في الغُرز - أي في ركاب الناقة أو الراحلة التي تقله إلى بيت الله الحرام – وقال: لبيك اللهم لبيك. نادى ملكٌ: لا لبيك ولا سعديك مالك حرام ونفقتك حرام. وكم يردد هذا الملك في هذا العصر هذا الجواب لكثيرٍ ممن يقولون لبيك لبيك؟

يا هذا الذي تعلن عن شوقك إلى بيت الله الحرام، هل ترجمت شوقك هذا إلى الله - وأنت تاجر - في الابتعاد عن الخديعة والغش والربا وألوان المكر المعروفة والمعهودة في الأسواق؟

هل ابتعدت عن الرشوة إعطاءً وأخذاً وأنت تعلن عن شوقك إلى بيت الله الحرام؟

هل عدت إلى كتب الشريعة الإسلامية ووقفت على الشروط التي لا بد منها لكي يتعلق الحج ركناً بعنق الإنسان المسلم؟

وهل عدت إلى الشروط التي يتحدث عنها علماء الشريعة الإسلامية لصحة الحج ولكي لا يتلبس الإنسان من خلال حجه بمعصيةٍ أخطر وأشد من هذا الحج الذي يريد أن يذهب إليه؟ ما أقل الذين يبحثون عن هذه الشروط وما أكثر الذين يغمضون أعينهم عنها. علماء الشريعة الإسلامية يذكرون أنه لا يجوز للإنسان الذي ترتبت عليه ديون في ذمته أن يسافر خارج بلده إلا إذا وفّى هذه الديون أو استمسح واستأذن أصحابها فأذنوا له. وكم وكم هم الحجاج الذين يتجهون حجاجاً لأداء مناسك الحج وقد أثقلت كواهلهم بالديون فلا هم يستأذنون ولا هم يوفون ذممهم. لا يمكن لمثل هؤلاء الناس إذا تلمسوا مكمن الإخلاص لله بين جوانحهم أن يجدوا أثراً لهذا الإخلاص.

المخلص لله يبحث دائماً عن مقومات الرضا عن العمل الذي يقوم به، هل قمتُ بهذا العمل كما أمر الله؟ هل أديته كما افترض الله سبحانه وتعالى علي؟ هل التزمت بالشرائط التي يأمرني بها الله عز وجل؟

نساءٌ أيها الإخوة يحرصن الحرص الشديد؛ يزعمن بأنه بدافع الشوق بدافع هياج عاطفي لزيارة بيت الله الحرام يخترقن حواجز الشروط كلها، يخترقن حواجز الآداب الإسلامية كلها، لا تبالي الواحدة منهم بحرامٍ أو حلال في سبيل أن تجد نفسها قد دخلت في مجموعة هؤلاء الحجيج.

قد تكون تمر بعدة ومع ذلك تغمض العين وتبحث عن وسيلة ما لتذهب.

قد لا تجد القريب الذي ينبغي أن تسافر معه أو لا تجد النسوة الثقات اللائي ينبغي أن تسافر معهن إذا كان الحج فريضة اللهم، ومع ذلك فهي لا تبالي بأن تخترق هذه الآداب والشروط لأنه الشوق يهتاج بها، أجل. المرأة التي أدت مناسك الحج وأدت الفريضة الأولى لا يجوز لها أن تسافر إطلاقاً إلا مع ذي رحم إلا مع قريبٍ لها، ولا يجوز أن تختلق القرابة إختلاقاً كما تفعل كثيرٌ من النساء. هذا شيء لم يأمرني له الله عز وجل به، لماذا أتكلف ورسول الله يقول: "أنا وأتقياء أمتي برءاء من التكلف".

لذا أيها الإخوة أنا لست ممن يذكركم بالأحاديث التي تؤجج مزيداً من الشوق بين جوانحكم لزيارة بيت الله، ولست ممن يذكركم بالآيات القرآنية التي تحرك أسباب الهياج وأسباب الالتياع للتوجه إلى بيت الله الحرام، بل أولى من هذا أن أذكركم بالكوابح، أُذكركم بالضوابط، أذكركم بالشرط الأساسي ألا وهو الإخلاص لوجه الله: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً"، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي زمان على الناس يحج أصحاب الحرف المختلفة إلى بيت الله الحرام ليجعل كلٌ من الحج خادم لحرفته، أجل هذا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وننظر فنجد مصداق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطبق اليوم ويتسع ولا يزال يتسع. اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم.

استغفروا الله سبحانه وتعالى يغفر لكم فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين.

تحميل



تشغيل

صوتي