مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 12/02/1999

متى يدرك الإنسان حقيقة الدنيا؟!

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن كتاب الله سبحانه وتعالى مليءٌ بالآيات البينات التي توضح لنا تفاهة هذه الحياة الدنيا والتي تؤكد أنها ظلٌ زائل وأنها عرضٌ باطل، وكم يتفنن كتاب الله سبحانه وتعالى في عرض هذه الحقيقة على أسماع الناس.

فهو يقول آناً: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا".

ويقول آناً: "إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ".

ويضرب الأمثلة الموضحة والمقربة لهذه الحقيقة، فيقول: "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا".

ومع ذلك فإن الإنسان يظل نزّاعاً إلى الدنيا وشهواتها، يظل على الرغم من سماعه لهذه القوارع مشدوداً إلى هذه الدنيا وما فيها من شهواتٍ وأهواءٍ ومتعٍ وملاذ. فهل هنالك من دواءٍ ينبه الإنسان إلى معاني هذه الآيات والنذر؟ هل هنالك من دواءٍ يصغر الدنيا في بصيرة الإنسان ويريها فعلاً كما يصورها الله سبحانه وتعالى؟

أجل أيها الإخوة هنالك دواءٌ ناجع ألا وهو: الإطلال على الموت الذي يتربص بالإنسان. مادام الإنسان معرضاً عن الموت الذي ينتظره فلا بد أن يظل مشدوداً إلى الدنيا بكل ما فيها مهما سمع ومهما صورت الآيات له تفاهة هذه الدنيا، ولكن إذا توجه الإنسان ببصيرته إلى الموت والأحداث التي تلي الموت، وتأمل في ذلك وأخذ العبرة ممن يسبقونه وممن كانوا إلى الأمس القريب يعانقون الدنيا بكل ما فيها من شهوات وأهواء، وإذا هم اليوم قد أعرضوا عنها وألقوها ورائهم نسياً منسياً، واتجهوا إلى النهاية التي تنتظرهم، تلك النهاية التي تنسيهم كل الملاذ التي كانوا يتقلبون فيها، كل ذلك النعيم الذي كانوا يذوقونه، عندما يُطل الإنسان ببصيرته على الموت الذي ينتظره ويتربص به ويرى تجسيد ذلك في الناس الذين يسبقونه، فإن ذلك هو الدواء الذي يجعله يستصغر الدنيا وينظر إليها وهي فعلاً تافهةً كما أوضح الله سبحانه وتعالى، هذا الدواء هو الذي يذيب ضرام الشهوات والأهواء كما تذيب النار الثلج.

ولكن ما أكثر ما يتيه الإنسان عن مصيره وهو مقبلٌ إليه! وما أكثر ما يشد القرآن الإنسان إلى تذكر الموت ولكنه يظل يضع الحجب والحجب بينه وبين هذا الذي هو متجهٌ إليه، ولكن أليس هنالك من دواء يجعلنا نضع الموت نصب أعيننا؟

هنالك أدوية كثيرةٌ جداً أيها الإخوة، منها هذا الموت الذي يتخطف أصدقائنا وأقاربنا من حولنا، فهذا جزءٌ من العلاج وجزءٌ من الدواء وهو في الظاهر مصيبة وفي الباطن رحمة، لأنها توقظ النائم وتنبه الغافل وتجعل الإنسان يستيقظ ببصيرته ليتأمل مصيره.

الدواء الآخر هو أن يصغي الإنسان جيداً إلى أحداث ما بعد الموت كما يصفها بيان الله سبحانه وتعالى، عندما يتلو الإنسان كتاب الله بتدبر ويقف عند المشاهد التي يرسمها بيان الله عز وجل لأحداث ما بعد الموت ويتدبر ذلك بعقله فلسوف يغيب عن الدنيا وشهواتها وأهوائها.

ألم تتدبروا مرةً هذه الآيات وتقفوا على معانيها التي تأخذ بالألباب؟ "وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28 )هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" لاحظوا هذا التصوير الذي يضعه بيان الله عز وجل أمام بصائرنا، إنه ليس خيال كاتب، ولكنها الحقيقة التي ستفاجئ الإنسان، إنها الحقيقة التي ستنسيه الدنيا بكل ما فيها من شهواتٍ وأهواءٍ وأطايب وملاذ أو مصائب وآلامٍ ومآسٍ وأسقام.

أجل ... ألم تقفوا عند قول الله سبحانه وتعالى وهو يضع لنا صورةٌ أخرى للأحداث التي كلنا مقبلون عليها "ونضع الموازين القِسط ليومِ القيامة" هذا كلامٌ يضعه أمامنا بيان الله سبحانه وتعالى بأسلوب الحاضر وإن كان مستقبلاً، ولكنه للتأكيد على أن هذا الأمر المستقبل في حكم الواقع يعبر عنه بالأمر الواقع الذي أراه أمامنا "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ"

ألم تتدبروا بيان الله وهو يصف لنا الناس كيف ينقسمون إلى طائفتين، طائفة تعض أكف الندم ويحرقها لظى الخزي والألم، وطائفة ثانية أشرق وجهها بنور الرضا عن الله ورضا الله سبحانه وتعالى عنها فهو يقول عن الطائفة الأولى: "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ"، ثم يتحدث عن الفريق الثاني فيقول: " وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ".

إذا تأمل الإنسان في هذه الصور التي يضعها بيان الله عز وجل أمام بصائرنا تذوب الدنيا كلها، ويدرك الإنسان الحقيقة التي يصفها بيان الله يصف بيان الله الدنيا من خلالها "إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ". يقف الإنسان ببصيرته عندئذٍ أمام نداء الله عز وجل القائل: "الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ".

تأملوا أيها الإخوة علاقة أولئك الناس في ذلك اليوم بالدنيا التي تركوها، بالشهوات التي كانوا يتقلبون فيها، تأملوا حال أولئك القادة والطغاة الذين كانوا يتلاعبون بحقوق الناس في دار الدنيا والذين كانوا يخدعون الأمم والشعوب ويدعونهم إلى التفريط بحقوقهم الدنيوية والأخروية بأسماء خدّاعة زائفة باطلة، تأملوا في حال أولئك الطغاة في ذلك اليوم، ما علاقتهم بدار الدنيا التي تركوها؟ إنهم يجترون الألم، يجترون الندامة ينظرون إلى ماضي علاقاتهم بتلك الدنيا كما ينظر إنسانٌ إلى سواد ليلٍ مظلمٍ مكفهر تأخذ الوحشة منه بمجامع فؤاده ونفسه.

متى متى يدرك الإنسان حقيقة الدنيا أيها الإخوة ومن ثم يتحرر من أخطبوطها؟ عندما يذكر الموت في مظهر الذين يسبقونه من شتى الفئات ومن شتى الطبقات ويتأمل حالهم، بالأمس كانوا يسكرون بالنعيم والآن يسكرون بالنهاية التي قد أقدموا عليها.

ثم عندما يتصور أحدهم واقعه بعد يوم أو يومين أو شهر أو سنوات وقد صدق عليه قول الله عز وجل: "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ". عندئذٍ ندرك أن هذه الدنيا التي نتقلب في فجاجها هي لعب أطفال، ندرك تماماً أن الدنيا ليست في حقيقتها إلا صورة مجموعة أطفالٍ تفرقوا عند سفح جبل أو على قارعة طريق رصفوا حجارةً بعضها فوق بعض واتخذوا من ذلك أبنية تلهوا بها، إلى أن جاء ظلام الليل تركوا كل شيء في مكانه وساقتهم وحشة ذلك الليل إلى أن يذهب كلٌ عائد إلى داره. وجاءت الرياح لتسفي تلك اللعب ولتجعل منها أثراً بعد عين. تلك هي حقيقة الدنيا لا يستطيع الإنسان أن يزيد عليها شيئاً إلا شيئاً واحداً هو أن يغرس الإنسان في هذه الدنيا ما يجد نتيجته في العقبى. هذه هي حقيقة أخرى.

فإذا ما اتجه الإنسان ليجعل من هذه الدنيا فرصة يزرعها بما يحب الله، يشغل نفسه بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فلسوف يلاحقه عمله ليستقبله مؤنساً مسعداً عندما يقوم الناس لرب العالمين. أما أن يتلهى الإنسان بهذه الدنيا وأن يجعل منها شراباً بشهواته وأهوائه أو لظلم الآخرين فو الله الذي لا إله إلا هو سيجتمع الكل عما قريب تحت مظلة السلطان الإلهي ولسوف يجدون أنفسهم أمام قول الله عز وجل: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ".

أرأيتم إلى قادة العالم الغربي وهم يحاولون أن يتأبطوا الدنيا كلها تحت آباطهم وأن يسوقوا الشعوب كلها طبق أمزجتهم وأهوائهم، وأن يخدعوهم بالاستسلام بدلاً عن السلم، وأن يخدعوهم بالكلمات الباطلة، وأن يخدعوهم عن دين الله سبحانه وتعالى بكل ما يمكن أن يضعوه من خطط باطلة معوجة زائفة، أرأيتم إلى هذا؟ أرأيتم إلى الذين ينساقون وراءهم ويخدعون بهم، كل هؤلاء سيفدون إلى الله سبحانه وتعالى ولسوف تجد مظهرهم وقد تجلى عليهم قول الله عز وجل "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا".

يا عجباً لمن يسمع كلام الله وهو يعلم أنه موجود، ويعلم أن الله صادق لا يلحق كلامه خلف، كيف لا يفيض قلبه خشيةً من ذلك اليوم؟ وكيف يعرض عن ذلك اليوم ليمارس لهوه بالنسبة للاهين أو ليمارس ظلمه بالنسبة للظالمين أو ليمارس ظغيانه في حق الأمم بالنسبة إلى هؤلاء الطغاة؟

عجبت لمن يسمع هذه الآيات ثم لا يستيقظ من سباته: "إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الاَْثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ (45) كَغَلْىِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" أتذكر يوم كنت تتباهى بعزتك؟ أتذكر يوم كنت تتباهى بطغيانك؟ أتذكر يوم كنت تمسك من الدنيا زماماً تسوق من وراءه الناس والأمم في مطارح الظلم كما تشتهي وتريد، ذق إنك أنت ذلك العزيز الكريم. عجبت لمن يسمع نداء الله هذا وبيان الله هذا ثم لا يستيقظ من سبات ولا يعود إلى رحاب القدس ولا يسير مستقيماً على صراط الله سبحانه وتعالى.

اللهم أيقظنا من سباتنا، اللهم ألهمنا رشدنا وسيرنا بلطفٍ منك على صراطك إلى أن يحين قيام الناس لرب العالمين إلى حين أن تكرمنا مع من أكرمت من عبادك الصالحين. فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي