مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 18/09/1998

عندما غابت المرجعية

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن أساس هذا الدين الذي هو الدين الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء جميعاً إنما هو العلم. فلم ينهض الإسلام في عصرٍ من العصور نهضةً سليمةً مستقيمةً قويمةً إلا بواسطة العلم، وكلما كانت الأمة أكثر عكوفاً على معرفة دين الله عز وجل من خلال موازين العلم كانت هذه الأمة أكثر استقامةً على صراط الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فقد كانت أكثر منعة وأمضى قوةً وأكثر عزة، وكلما كانت هذه الأمة أكثر إعراضاً عن موازين العلم التي هي أساس هذا الدين كما قلنا، عادت هذه الأمة القهقرى وعادت إلى ما كانت عليه ذات يوم من الذل والمهانة والتفرق والشتات.

وإنكم جميعاً تقرأون كتاب الله سبحانه وتعالى، أو ينبغي أن تقرأوا كتاب الله سبحانه وتعالى وتربطوا حياتكم دائماً بهذا الكتاب، فمن كان على صلة مستمرة بكتاب الله عز وجل علم هذه الحقيقة وعلم أن المحور الذي تدور عليه حقائق هذا الدين إنما هو العلم، وإذا كانت هنالك أديان شتى تأخذ أحكامها من الأمزجة ومن الشهوات والأهواء والمصالح الشكلية المتطورة، فإن المحور الأساسي لهذا الدين إنما هو العلم، ومن ثم فإن العلم هو الذي يكشف عن المصالح الحقيقية للإنسان ويميز هذه المصالح عما قد يلتبس بها من المضار والمفاسد المختلفة.

وأنا أعلم أن في المسلمين جمهرة كبرى تدرك هذه الحقيقة وتتجه لا سيما في هذا العصر ولا سيما في هذه البلدة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله تتفقه في دينها عن طريق هذين المصدرين.

وأنا أعلم أن هنالك لا مئات بل آلافاً من أصحاب الوظائف المتنوعة من الذين لا يحتاجون إلى شهادةٍ علمية يستثمرونها من أجل مصالحهم الدنيوية ولكنهم مع ذلك ينفقون الكثير من أوقاتهم في سبيل تعلم دين الله عز وجل، أعلم هذه الحقيقة.

ولكن هنالك مشكلةً أخرى، فيما مضى كانت هنالك مرجعية هي التي تنطق باسم كتاب الله سبحانه وتعالى، هي التي تفتي إذا استفتى الناس وهي تحل المشكلات العلمية إذا تساءل الناس عن هذه المشكلات وحلها، كانت هذه المرجعية هي المعتمدة ومن ثم فقد كانت هي الناطقة، وكانت هذه المرجعية قد توفرت فيها الشروط كلها من العلم الغزير الجم، والإخلاص لدين الله سبحانه وتعالى، والتسامي فوق الشهوات والأهواء وفوق التعامل بالدين من أجل الدنيا، ومن ثم فقد كان الناس في مأمن وطمأنينة من أن تلتبس عليهم الحقائق باسم العلم، ومن أن تلتبس عليهم الأحكام المزاجية بالأحكام المنبثقة من حقائق العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى، وكانت هذه المرجعية مكلوءة بعناية الدولة الإسلامية التي كانت مهمتها الأولى رعاية دين الله عز وجل.

أما اليوم فقد غاضت وغابت هذه المرجعية المعتمدة، لم تعد هنالك مرجعية تتصف بالإخلاص لدين الله والعلم الغزير الجم بكتاب الله وسنة رسوله والشروح التي تستتبع ذلك، غابت هذه المرجعية ومن ثم فقد غدا كل لسانٍ ذا حرية في أن ينطق باسم الإسلام، غدا كل من يدعي أنه قد غدا وأصبح من العلماء أصبح ذا حقٍ في أن يفتي إذا استفتي وفي أن يفند الفتاوى التي لا تعجبه، وفي أن يذهب يميناً وشمالاً في تصور الإسلام كما يشاء، يسير وراء ذلك بدافعٍ من مزاجه، ولكنه يغلف هذا المزاج بالدلائل العلمية والموازين العلمية المنطقية.

كثر في الناس اليوم بعد أن غابت تلك المرجعية هؤلاء الذين تتدجى بهم المجتمعات الإسلامية، ومن ثم فإن العامة من الناس يقعون في اضطرابٍ قتّالٍ في كثيرٍ من الأحيان. يلتفتون يميناً وشمالاً فيجدون عشرات الأجوبة المتناقضة عن أسئلتهم، يسألون فيحارون من الذي يصغون السمع إليه ويولونه ثقتهم؟ ومن الذي ينبغي أن يكونوا على حذرٍ منه؟ لا يعلمون ولهم الحق أن لا يعلمون، ذلك لأن المرجعية التي كانت تحمل الشهادة بأنها الفئة المخلصة لدين الله التي بلغت من العلم درجةً تملك بها أن تفتي إذا استفتيت وتملك أن تجيب عن الأسئلة وانتشرت الثقة بها في المجتمع كله، هذه المرجعية غابت.

هذه المشكلة أيها الإخوة هي المشكلة الكبرى التي يقوم ويقعد بها المجتمع الإنساني الإسلامي لا في هذه البلدة وحدها بل في كثير من البلاد الإسلامية التي تحيط بنا.

ولقد كان من آثار هذا الواقع أن كثيراً من العلماء - الذين هم علماء حقاً - والذين هم أهلٌ لأن يجيبوا إذا سُئلوا، ولأن يبينوا إذا استفتوا، أصبح كثير من هؤلاء الناس يتخوفون من ألسنة الآخرين الذين لا يعجبهم إلا الإسلام المزاجي لا يعجبهم إلا الإسلام الذي يمر من أقنية رغباتهم الذي يمر من أقنية شهواتهم وأهوائهم وأمزجتهم.

العالم الذي إذا سُئل أراد أن يجيب فكر مليا ًترى ماذا سيقف مني هؤلاء العوام الذين يَزِنون العلم بموازين الأمزجة الذين يزينون الحقائق العلمية الصريحة الواضحة في كتاب الله أو في سنة رسول الله أو في القواعد المتفق عليها في دين الله عز وجل. ترى ماذا عسى أن يكون موقف هؤلاء المزاجيين؟ إنهم سينكرون .. إنهم سيثورون ويهتاجون .. وما أكثر الذين يتلجلج منهم اللسان خوفاً من هؤلاء الرقباء، وما أكثر الذين يغيرون أحكام الله عز وجل وهم يعلمون أنهم يغيرونها خوفاً من ألسنة هؤلاء الناس.

وكم قيل لأناس من هؤلاء الناس كيف تجيبون عن هذه الأسئلة بهذا الشكل ودين الله ينطق بعكس ذلك؟ فماذا يكون الجواب؟ يكون الجواب أن الناس لا يتقبلون إلا هذا، وأن الناس لا يمكن أن يتقبلوا الحق الذي يوجد في بطون الكتب الفقهية، سيثورون ولسوف ينهشون لحمي إن في غيبتي وإن أمامي، إذاً فينبغي أن أغير دين الله في سبيل أمزجة الناس، هذا جزءٌ مما آل إليه وضعنا أيها الإخوة في هذا العصر.

وأنا كنت ولا أزال أعزي نفسي وأرغب لكل أخ مسلم كان له نصيب من العلم بدين الله عز وجل أن يعزي نفسه بهذا الحديث النبوي القدسي العالي، وأن يسير على نهج هذا الحديث وأن يعض عليه بالنواجذ، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الترمذي وغيره من حديث عائشة: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، وَ مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ" هذا هو العزاء عندما تجد أن الإسلام المزاجي قد كثر وأن العلم قد سُخِّر عند كثيرٍ من الناس للإسلام المزاجي، بل أكاد أقول: عندما تجد أن حقائق العلم بكتاب الله قد غدت أشبه ما تكون بالكرة التي يتقاذفها الرجال بأقدامهم فيما بينهم في سبيل أن تنتصر الأمزجة وفي سبيل أن تنتصر الأفكار والرغائب، وما أكثر ما تكون الرغائب من أجل مصالح وشهوات آنية، عندما تجد المجتمع قد آل حاله إلى هذا الأمر فقف تحت مظلة هذا الحديث وكن من الفريق الثاني لا من الفريق الأول. "مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ".

إياك أن تكون من هؤلاء الناس واعلم أن قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، إن سخط الناس عليك اليوم في سبيل الله فلسوف يرضيهم الله عز وجل عنك غداً، ولكن اصبر غير أنك إن ضحيت بما تعلم وما تتيقنه من أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهييه ومن قواعد الشريعة الإسلامية كما هي ثابتةٌ مقررةٌ في بطون كتب الشريعة الإسلامية وعلى ألسن أئمتها الموثوقين، عندما تُضحي بهذه الحقائق في سبيل أن يرضى الناس عنك فلا والله ستجد نفسك في مآلٍ افتقدت فيه رضى الناس وافتقدت فيه رضى الله سبحانه وتعالى.

هذه جزءٌ من المشكلات المدلهمة التي عصفت بواقع حياتنا الإسلامي، العلم أيها الإخوة كانت له مرجعية معتمدة وكان الناس في ظل هذه المرجعية مطمئنين آمنين غابت هذه المرجعية أصبح لكلٍ أن يتلكم كما يشاء اعتماداً على ظاهرٍ وغلافٍ من العلم ولكنه بالواقع اعتمادٌ على الأمزجة والرغائب والنظريات والشهوات والاجتهادات الشخصية، تمزق العلم بل مزق هذه العلم حقائق هذا الدين، وبدا الدين من خلال ذلك مذاهب شتى بعد أن كان مذهباً واحداً وحقيقةً واحدة، ولكن فلنحاول أن نُذيب هذه المشكلة بالإخلاص لدين الله عز وجل، الإخلاص فيه حل معظم مشاكلنا، عندما أكون مخلصاً لله لا يمكن أن أجعل من مزاجي قائداً لديني، يستحيل لا يمكن أن أجعل العلم مطية لرغائبي وشهواتي، ذلك لأن الإخلاص سيحجزني عن ذلك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينتشلنا من واقعنا هذا بحلٍ هو أدرى به، وهو القادر على أن ينجدنا بهذا الحل وأسأله عز وجل أن يرقى بنا إلى أن نكون أهلاً لاستجابة دعائنا هذا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي