مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/05/1997

هذه مشكلاتنا .. حقائق وحلول

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمّا بعدُ فيا عباد الله..

إن من الأسئلة التي تنطوي على مغالطة كبيرة، سؤال أحدهم للمسلمين الذين يحلمون بعودة المسلمين إلى حظيرة الإسلام، ورجوعهم إلى التمسك بمنهج الإسلام والسير مجدداً على صراط الله سبحانه وتعالى، يقول أحدهم لهؤلاء المسلمين الذين يحلمون بعودٍ حميد إلى الإسلام والسير على صراط الله سبحانه وتعالى: ما هو المنهج الذي أعددتموه؟ ما هو البرنامج الذي هيأتموه لكي يسعد المجتمع في ظل الإسلام الذي تحلمون به؟

ونظراً إلى أن كثيراً من المسلمين الذين يتحركون في ساحة الدعوة إلى الله لا يعلمون المغالطة التي ينطوي عليها هذا السؤال، بل ربما كان نصيبهم في معرفة الإسلام والثقافة الإسلامية نصيباً يسيراً جداً؛ نظراً إلى ذلك فأكثر هؤلاء المسلمين يُحرجون عندما يستمعون إلى مثل هذا السؤال، وربما لم يحيروا جواباً ولا يعلمون كيف يُجيبون، لأنهم ينظرون إلى ما بين أيديهم فلا يجدون أنهم قد هيَّأوا منهاجاً ورسموا خطة، بينما الآخرون أصحاب المذاهب الأخرى يُهيِّئون مناهجهم ويرسمون خططهم ويلوحون بها دعايةً لأنفسهم. فما هو وجه المغالطة أيها الإخوة في هذا السؤال؟

هؤلاء الذين يسألون مثل هذا السؤال، يُخيل إليهم أن هنالك مشكلات معقدة في قاع المجتمع العربي اليوم، وأن هذه المشكلات تحتاج إلى حلها وحل رموزها وطلاسمها إلى عباقرة يخططون وإلى علماء ومخترعين يُبدعون ويمنهجون، ومن ثم يسألون المسلمين هذا السؤال.

ولكن الواقع أنه لا توجد مشكلات سحرية من هذا القبيل في أيٍ من مجتمعاتنا.

مشكلات المجتمعات العربية والإسلامية اليوم تتمثل في أن هؤلاء المسلمين لا يُخلصون للإنسانية قبل أن نقول لله عز وجل في أعمالهم، يمدون أيديهم إلى حقوق الآخرين إن عن طريق الظلم والاستلاب والاقتناص، أو عن طريق الرشاوي أو عن طريق الخداع.

مشكلات المسلمين نابعةٌ من واقع المسلمين، من سوء حالهم، من عدم إخلاص كلٍ منهم لرعاية الإنسانية التي أناط الله مسؤوليتها في عنقه، تلك هي المشكلات.

مشكلاتنا تتمثل في التسيب، ونحن أبطال التسيب.

مشكلاتنا تتمثل في أن الواحد منا إذا وُظف بعمل فإنه يضع نصب عينيه أن يخدم نفسه، وأن يُسخر عباد الله بدلاً مما يقوله الله عز وجل له أن يخدم عباد الله ويسخر لهذه الخدمة نفسه.

مشكلاتنا تتمثل في أنني لا أقوم بعملٍ كُلِّفت به إلا من بعد أن آخذ الإتاوة - أي ضريبة - التي يأمرني الشيطان أن آخذها.

مشكلاتنا تتمثل في ظلم الإنسان للإنسان.

فإذا أقبل المسلمون إلى قيادة المجتمع، هل هنالك حاجةٌ إلى أن يضعوا خطةً سحرية للتخلص من هذه المشكلات؟! لا.

المشكلة تُحل بأن يحل في هذه الأماكن محل هؤلاء الغاشين والخادعين والظالمين والمتسيبين، حل المشكلة أن يحل محل هؤلاء الناس أناسٌ يخافون الله، يخلصون لدين الله سبحانه وتعالى، ويراقبون الله عز وجل في أعمالهم.

وتنظر وإذا بالأمر استقام بعد اعوجاج، وإذا بالمشكلات قد حُلت دون وضع خطة ودون رسم بيانٍ ومنهاج ونحو ذلك، الخطة تنبع من الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

انظر إلى هؤلاء المسلمين المخلصين لدين الله الذين يحلون محل أولئك الذين كانوا يخدمون أنفسهم ويستغلون عباد الله عز وجل، فسوف تجد أن الغش قد اختفى، وحل التناصح في مكانه، وأن التسيب قد اختفى وحل في مكان ذلك الخدمة التي تنبع من الغيرة على عباد الله سبحانه وتعالى، تنظر فتجد أن الأيدي التي كانت تمتد لطلب الرشوة اختفت وظهرت الأيدي التي تمتد لتخدم، ظهرت الأيدي التي تمتد لتضحي براحتها ونفسها في سبيل خدمة عباد الله سبحانه وتعالى، تنظر وإذا بالمشكلة قد انجابت، وإذا بالحل قد ساد. من أين كان حل هذه المشكلة؟ هل تم هذا الحل بخطة وُضعت في ليالٍ مظلمة في سهرات متوالية؟ لا. وما كان لهذه الخطة أن تفعل شيئاً إن لم يوجد الإخلاص لله عز وجل بين جوانح المنفذين.

لو أن المسلمين الذين يحلمون بعودة المسلمين إلى إسلامهم الحق كانوا من الثقافة الإسلامية بمكان، لأدركوا المغالطة الفجة في هذا السؤال الذي يسأله كثيرون من الناس، ولعل فينا من يقول فهل هنالك نموذجٌ تطبيقي يدلنا على أن حل المشكلة لا يحتاج إلى كل هذا الاهتمام؟

نقول: أجل وفي كل عصرٍ هنالك نماذج تُذكرنا بهذه الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها، أجل في كل عصرٍ بوسعكم أن تجدوا أن حلول المشكلات الاجتماعية تكمن في تربية المسلم، ما من مشكلة مهما كانت عسيرة إلا وسوف تُحل عندما يقود المجتمع مسلمون رُبوا على عين الله عز وجل، رُبوا التربية الإسلامية الحقيقية بدءاً من القلب فما وراء ذلك إلى الظاهر. والنموذج التطبيقي اليوم واقع المجتمع التركي أيها الإخوة، قبل سنوات كيف كان ذلك الواقع الاجتماعي؟ كان مليئاً بالفساد كان مليئاً بالتخريب، كان مليئاً بالأثرة بدل الإيثار كانت الرشاوي هي التي تقود كان التسيب هو الذي يُهيمن لماذا؟ لا لأنه لم تكن هنالك خطة رشيدة، لا، ولكن لأن الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور في الدوائر وهنا وهناك كانوا لا يعبدون إلا أنفسهم، كانوا لا يتصورون أن لهم حظٌ في خدمة عباد الله عز وجل إذ كانوا محجوبين عن معرفة الله، كانوا محجوبين عن معرفة دين الله عز وجل ومن ثم فلم يكن يحلو للواحد منهم إلا أن يستغل وظيفته في خدمة نفسه. وهكذا تراجع ذلك المجتمع في سائر مظاهره إلى أنواعٍ متنوعة من الخراب والفساد والتسيب والرشاوي، ما الذي آل إليه الأمر بعد ذلك؟ ظهر المسلمون على الساحة وحلوا أو حل الكثير منهم محل أولئك الذين حيل بينهم وبين الإيمان بالله عز وجل، حيل بينهم وبين معرفة لذة العبودية لله عندما تظهر هذه العبودية في خدمة عباد الله عز وجل، ظهر هؤلاء الناس رؤساء لبلديات أو قائمين بأعمال ووظائف مختلفة، ومرت أيامٌ وأيام وأيام ونظر الناس فإذا بظلام الفساد بدأ ينقشع وإذا بالتسيب بدأ يتحول إلى عمل جاد لخدمة الأمة، وإذا بالمرافق التي كانت مهدرة ومتروكة ازدهرت بالعمل، وإذا بالناس الذين ضاعوا بين ظلم هؤلاء وهؤلاء الناس من قبل إذا بهم ينالون حقوقهم.

انظر إلى المجتمع التركي اليوم، انظر إلى أعمال رؤساء البلديات ومن دونهم تجد نموذجاً لأعلى درجات الخدمات الإجتماعية الباهرة تجد أن كل ذلك التسيب قد اختفى، وتجد أن أولئك الناس الذين كانوا يقبلون متخوفين إلى شبح الفقر والحرمان والبطالة يفتحون أعينهم ليجدوا أنفسهم يقبلون إلى آمالٍ مزدهرةٍ بالغنى والعمل والتقدم والرفاه الاجتماعي والاقتصادي. والسؤال هل اقتضى هذا وضع خطة؟ هل اقتضى هذا كله رسم بيان؟

كما يُطالِب هؤلاء المتشدقين عندما يقولون للمسلمين الذين يتألمون من أن المسلمين حادوا عن منهج ربهم: أرونا منهاجكم؟ أرونا بيانكم الذي هيأتموه. هل احتاج أولئك الناس وقد فعلوا ما فعلوا من تحويل الخراب إلى عمار والتسيب إلى جدٍ وخدمة؟ وتحويل اليأس لدى الذين يعانون البطالة ويعانون الفقر والشظف ونحو ذلك إلى أملٍ وازدهار؟ هل احتاج أولئك الذين أصلحوا الفساد وقوموا الاعوجاج إلى بيانٍ يضعوه؟

البيان مرسوم في القلب البيان موجود حرقة بين اللواعج، عندما كان هؤلاء المخلصين لله يعلمون أنهم آيلون إلى الله ويريدون أن يملأوا صحائف أعمالهم بما يرضي الله عز وجل، وعلموا أن أعظم القربات إلى الله إنما يتمثل في خدمة عباد الله سبحانه وتعالى نجحوا، الخطة طُبقت قبل أن تكتب والبيان نُفذ قبل أن يرسم وأن يُعلن عنه، هذا هو النموذج أيها الإخوة.

أليس من الغريب أيها الإخوة وهذا هو الواقع المرير أن تجدوا من يُضحي بمصلحته ويُضحي بمجتمعه ويضحي بمنهاج تقدمه في سبيل أن لا يصافح دين الله عز وجل، كأنه يقول: إذا كان ثمن هذا الازدهار، إذا كان ثمن هذا التقدم إذا كان ثمن هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي المتفوق المزدهر أن أصافح الإسلام فلن أصافحه، ولسوف أُضحي بكل مصالحي، دعني أتقلب في ظلام التخلف، دعني أتقلب في ظلام التسيب، دعني أتقلب في ظلام الفساد بكل ألوانه وأنواعه، لكن على أن لا تحرجني في أن أصافح دين الله عز وجل.

أما نحن فنقول إن علينا أن نكون إنسانيين بمعنى الكلمة وأن لا نكون مسخاً للحقيقة الإنسانية، فهذه واحدة، ثم علينا أن نبذل كل ما نملك من جهد وعرق ومالٍ في سبيل أن ننتشل مجتمعنا من الفساد في أن ننتشل مجتمعنا من الضيعة والهوان في سبيل أن نرقى به إلى سدة الازدهار، فهذه ثانية. ولما عرفنا برأي العين أن سبيل ذلك هو الإيمان بالله والالتزام بحدود الله والالتزام بشرعة الله عز وجل كان لابد أن نستعمل المفتاح الذي لا ثاني له ألا وهو مفتاح العودة إلى الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي