مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/04/1997

حتى لا تُأخذوا بما يسمى الفكر الإسلامي

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

إن الله سبحانه وتعالى جعل العلم ميزاناً لهذا الدين، وحاكم عباده جميعاً لمعرفة حقائقه إلى موازين العلم، وأذن بل أمر عباده بأن يجادلوا الآخرين والمبطلين احتكاماً إلى ميزان العلم هذا، ونعى على الذين يجادلون بغير علم وأكد المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه إنما بُعث معلماً، وكم أكد أن المسلم لا يبلغ رضا الله سبحانه وتعالى إلا بعد أن يسلك مسالك العلم، (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، والفقه في الدين هو خلاصة العلم بدين الله سبحانه وتعالى، وعندما يناقش كتاب الله سبحانه وتعالى المبطلين يحاكمهم إلى موازين العلم فيقول لهم: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) وعندما يُنكر على الذين يجادلون في دين الله لا يُنكر عليهم ذلك لأنهم يجادلون فيه، ولكنه يُنكر عليهم أنهم يجادلون في دين الله وفي الله بغير علم فيقول عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ).

والخلاصة أن هذا الدين الذي شرّف الله عز وجل به عباده إنما يدور على محور العلم، العلم الحقيقي.

وللعلم موازيه، وللعلم قواعده، وللعلم منهجه ... فلا بد لمن أراد أن يلتزم بهذا الميزان الذي جعله الله حكماً بينه وبين عباده لمعرفة الحق من الباطل، لابد لهذا الإنسان أن يعكف على معرفة موازين العلم ودقائق قواعده وضوابط منهجه، ومن ثم فيلتزم بهذا المنهج بل بهذا العلم، ولاشك أنه لن يصل من وراء ذلك إلا إلى الحق، ولسوف يحجزه هذا الحق عن الوقوع في أودية الضلال والتيه.

هذه الحقيقة غدت بداهية معروفة، وكم وكم في مناسبات أوضحناها، وكم تحدثنا عن التلازم القائم بين الإسلام والعلم كلما وُجِد الإسلام بحقائقه لابد أن يوجد العلم بضوابطه، وكلما وُجد العلم بموازينه وضوابطه لابد أن يهدي هذا العلم صاحبه إلى هذا الدين، إلى هذا الدين الحنيف القائم على دعائم العلم والمنطق والبيان.

ولكن لعلكم جميعاً تلاحظون أيها الإخوة أن شيئاً آخر بدأ يتسرب شيئاً فشيئاً ليحل محل العلم بدين الله سبحانه وتعالى، ولكي ينسخ هذا الميزان الذي جعله كتاب الله حكماً بين الله سبحانه وتعالى وعباده المرتابين أو المتشككين أو المجادلين، هذه الكلمة التي بدأت تزحف زحفها الخفي لتحتل محل العلم هي كلمة الفكر. لعلكم أصبحتم تسمعون هذه الكلمة أكثر مما كنتم تسمعون كلمة العلم من قبل.

كنا نسمع دعوة إلى العلم بالإسلام إلى معرفة حقائق الإسلام بالعلم، وكنا نتداعى فيما مضى إذا تناقشنا أو تذاكرنا نتداعى إلى العلم وموازين العلم، ويُذكر بعضنا البعض بإلحاح كتاب الله وبإلحاح المصطفى صلى الله عليه وسلم على العلم في كل مناسبة، واليوم اختفى هذا الأمر أو كاد يختفي، حل محله الفكر الإسلامي.

إن نظر إلى المكتبات وجدت نفسك أمام عشرات الكتب التي عُنونت جميعها باسم الفكر الإسلامي على تنوع هذا الاشتقاق والعنوان، الفكر الإسلامي.

وإن نظرت إلى الكتاب والباحثين الجدد رأيت كلامهم يطوف حول محور جديد ألا وهو محور الفكر الفكر الإسلامي.

بل إن كلمة الفكر هذه أصبحت عنواناً على اختصاص علمي، فأصبحنا نرى من يعلن عن اختصاصه العلمي الذي نال عليه الإجازات والشهادات بأنه مختص بالفكر الإسلامي.

ترى هل يمكن أن يحل الفكر الإسلامي محل العلم؟

هل بين هاتين الكلمتين علاقة ترادف، فالفكر هو بمعنى العلم والعلم هو بمعنى الفكر؟

ينبغي أن تعلموا أن بين هاتين الكلمتين بُغد ما بين المشرقين.

الفكر أيها الإخوة هو حركة الذهن، هذا هو الفكر، والواقع أن كلاً منا يتمتع بهذه المزية كل إنسانٍ عاقل سواء كان عامياً من الناس أو مثقفاً أو عالماً أو متخصصاً، وأياً كانت مهنته لابد أن يسمى مفكراً، لابد أن يتمتع بالفكر، ذلك لأن الفكر كما قلت لكم هو حركة الذهن، وحركة الذهن هذه يمكن أن تتجه اتجاهاً سليماً منضبطاً بقواعد العلم، ويمكن أن تتجه اتجاهاً منحرفاً شارداً عن قواعد العلم، كل ذلك تفكير، وأصحاب هذا التفكير كلهم مفكرون. فالملحد مفكر .. والمؤمن مفكر .. ومن يتحرك شارداً بينهما هو الآخر مفكر، والذي يضع الإسلام موضوعاً لتفكيره هو مفكر إسلامي سواءٌ كان موقفه من هذا الإسلام موقف الناقد، أو موقف المطيع والمصغي والمُتبع يسمى مفكراً إسلامياً أي يفكر في الإسلام.

الملحد الذي يُلحد في دين الله عز وجل، والذي يرمي شباك الاصطياد اصطياد عقول الناس بالخداع والدجل مفكرٌ إسلامي، لأنه يفكر في الإسلام لكنه يفكر فيه ليبطله، يُفكر فيه ليقضي عليه.

كل إنسانٍ مفكر .. كيف يُمكن أن نتصور أن إنساناً يرقى لدرجة اختصاصٍ علميٍ يُعبر عن هذا الاختصاص بالمفكر الإسلامي، هذا الاختصاص يشترك معه الناس جميعاً.

البقال عندما يجلس ويصغي إلى كتاب الله عز وجل ويتأمله بقدر فهمه مفكرٌ إسلامي.

ورجل الشارع الذي يسمع في المذياع حديثاً عن الإسلام أو عن الشريعة أو عن دين الله أو عن رسول الله فيتأمل هذا الكلام بقبول أو برفض مفكرٌ إسلامي.

وهكذا فكلمة التفكير لا يمكن أن تُعبر عن اختصاص، لأن التفكير عبارة عن حركة الذهن كيفما كانت هذه الحركة، هذا هو التفكير. هذا التفكير السائب، هذا التفكير المُطلق عن ضوابط العلم هل يمكن أن يهدي صاحبه إلى الحق؟ لا يمكن.

وإذا علمتم هذا أيها الإخوة فينبغي أن تسائلوا أنفسكم هل يمكن لمن يأتي ليناقشنا في دين الله وقد أمسك بميزان ما قد يسميه ميزان الفكر الإسلامي بدلاً من ميزان العلم بدين الله عز وجل؟ هل يمكن أن تصل معه إلى نقطة لقاء؟ لايمكن بشكل من الأشكال؛ ذلك لأن هذا المفكر لم يضبط نفسه بالقواعد العلمية التي أمر الله في محكم تبيانه بها. وكم كرر وأعاد أن ينضبط المجادلون أن يضبط المجادلون أنفسهم بها.

إذا علمتم هذا فعودوا إلى هذه الظاهرة الإجتماعية أو الثقافية التي تلفت النظر بشكلٍ غريب. فيم حلت الفكر بالإسلام محل العلم بدين الله عز وجل؟ لماذا؟

لكي يسهل على المقتنصين لعقول المسلمين والدجالين الذين يريدون أن يصطادوا إيمان المؤمنين بالله عز وجل، والذين يريدون أن يُعكروا صفاء اليقين بالله عز وجل عند هؤلاء المسلمين، هؤلاء الذين يهدفون إلى هذا الأمر لا يتأتى منهم ذلك إن ضبطوا أنفسهم بضوابط العلم، لأن ضوابط العلم دائماً إنما تقف إلى جانب الإسلام، إنما تنتصر لدين الله عز وجل، تنتصر لحقائق كتاب الله، لِما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلو أن ملحداً ناقشك وكان ملتزماً بقواعد العلم، لا يمكنه إلا أن ينتهي إما إلى أن يعلن إيمانه بالله إن كان منصفاً، أو أن يصمت ويتخاذل إن كان جدلاً متكبراً، ومن ثم فلا بد أن يتحول هؤلاء الذي آلوا على أنفسهم أن يحملوا معاول سُلّمت إليهم بواسطة الغرب ورجاله، ومن خططوا لهدم دين الله عز وجل، هؤلاء الذي آلوا على أنفسهم أن يُمسكوا بهذه المعاول ليحطموا كينونة الإسلام وبناءه، كان لا بد لكي ينجح عملهم أن يتحولوا من اصطلاح العلم إلى اصطلاح الفكر، ومن ثم كان ينبغي أن يكون للفكر قداسته كما كان بالأمس للعلم قداسته، ينبغي أن تتحول القداسة من العلم إلى الفكر، وعندما يصبح الأمر ويتحول إلى هذه النهاية فما من أحد أفضل من أحد، أنت مفكر وأنا مفكر؛ أنت تفكر لتمضي ذات اليمين وأنا أفكر لأمضي بفكري إلى ذات الشمال، وكما أن فكرك يدعوك إلى سلوك هذا الطريق ففكري هو الآخر يدعوني إلى سلوك الطريق الآخر، وكل ذلك فكر.

الملحد لا يلحد إلا بفكر، والمؤمن لا يؤمن إلا بفكر، والوجودي لا يتبنى فلسفته الباطلة الخرافية إلا بفكر، والبهائي لا يجادلك في بهائيته إلا بفكر، والمبطلون كلهم وما أكثر فجاج البطلان وسبله المتعرجة كلهم لا يجادلونك إلا بفكر.

فكيف يمكن أن تمسك بإنسانٍ يتلاعب باسم الفكر؟

كيف يمكن أن تضبطه بقواعد العلم وهو هاربٌ من هذه القواعد؟

وانظروا أيها الإخوة بعد هذا ومع هذا إلى دقة الإعجاز في بيان الله عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ" كنت أقول في نفسي: كيف يتأتى للإنسان أن يجادل وبغير علم، إن جادل فلا بد أن يجادل بعلم، ثم إن هذا الواقع المخزي الذي نشاهده فسّر هذه الآية العجيبة في كتاب الله إنهم يجادلون بالفكر. "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ" يجادلون بفكرٍ سائب؛ يضعون الآيات تحت أشعة أفكارهم الغير منضبطة بشيء من قواعد العلم، هو عندئذٍ يتأتى لهم أن يفسروا هذه الآيات بما يشاؤون، يضعون حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سلطان أفكارهم السائبة اللا منضبطة بقواعد العلم، وعندئذٍ يتأتى لهم أن يفسروا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي يشاؤون، ذلك لأنهم لا يجادلون بعلم وإنما يجادلون بفكر.

أقول هذا أيها الإخوة حتى تضيفوا إلى وعيكم الإسلامي الذي متعكم الله به وعياً جديداً، وحتى لا تُأخذوا بمن يأتي ليناقشكم تحت مظلة ما يسمى الفكر الإسلامي، وحتى لا تُأخذوا بهؤلاء الدلالين على بضاعة الغرب لا بل على بضاعة إسرائيل والله يعلم ويشهد أنني أقول حقاً، نعم إياكم أن تُاخذوا بهؤلاء الذين يجادلونكم في الإسلام باسم الفكر، قولوا نحن نرحب بالجدال على أن ينضبط هذا الجدال بضوابط العلم، الفكر طريق إلى العلم، عندما يكون فكرك منضبطاً بالعلم منتهياً إليه فمرحباً بكل جدالٍ وبكل نقاش وهذا ما أمر الله عز وجل به: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"

اسمع إلى كلامهم الذي يظنون أنه كلامٌ علميٌ خاضعٌ لموازين العلم، طالما كان الحكم بينك وبينهم هو موازين العلم، ثم رد عليهم باطلهم بأن تبرز لهم كيف أن هذا التصور مخالف لضوابط العلم وميزانه، فإذا كان الذي يجادلك قبل دقائق قد أصغى للحق وخضع لهذا الحق وآمن به، هذا إن كان منصفاً.

ولكن إياكم أن تجادلوا إنساناً جاءكم بما يسمى الفكر.

أقول قولي هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا من شرور أنفسنا ومن شرور أعدائنا .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي