مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/03/1997

عندما يغدو الحب شركاً خفي

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

رأيت حكمةً لابن عطاء الله السكندري، يقول فيها: "ما أحببت شيئاً إلا كنت له عبداً، وهو عز وجل لا يريد أن تكون عبداً لغيره"، وقد علمتم أن حكم ابن عطاء الله هذه أجمعت الأمة على أنها قبسٌ مقبسٌ من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم هي أثرٌ من آثار شهود هذا العالم الرباني لمولاه وخالقه عز وجل.

ووجد من قال من العلماء: لعل الصلاة لو جازت بقراءة غير القرآن، لجازت الصلاة بقراءة حكم ابن عطاء الله. رأيته يقول: "ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، وهو عز وجل ما يريد أن تكون عبداً لغيره"، وتأملت فوجدت أن هذا الكلام ترجمة دقيقة لنهي القرآن بل لنهي الله سبحانه وتعالى في قرآنه في آياتٍ كثيرةٍ عن الشرك بالله سبحانه وتعالى.

والشرك ليس محصوراً في أن يتخذ الانسان آلهة من دون الله عز وجل يبايعها ويدين لها بالولاء والسجود مع الله سبحانه وتعالى، كما كان دأب المشركين العرب قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الشرك له معنى أوسع من ذلك بكثير، وإلا لما صح قول الله سبحانه وتعالى " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا"

وهذا يعني أن هنالك من يؤمنون بالله، ويعملون عملاً صالحاً، ولكنهم يشركون مع الله سبحانه وتعالى غيره، وهؤلاء يقيناً ليسوا هم المشركون التقليديون الذين تعلمون، وهذا هو أيضاً معنى قول الله عز وجل: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ"، وهذا ينطبق على أمثالنا وعلى كثيرٍ من الناس الذين زعموا أنهم آمنوا بالله عز وجل وآمنوا بوحدانيته وعاشوا في ظلال توحيده.

ما معنى الشرك الذي يحذرنا الله عز وجل منه؟ معناه أن يزاحم محبة الله في فؤادك حب أي شيءٍ سواه، هذا هو الشرك الخفي الخطير. أن يزاحم محبة الله سبحانه وتعالى في فؤادك محبة أي شيءٍ سواه، فمن أحب نفسه وبلغ بحبه درجة الكبرياء ودرجة العصبية والأنانية، فقد أشرك بالله عز وجل، أشرك مع الله ذاته، وجعل من نفسه إلهاً لذاته؛ اتخذ من هواه إلهاً لنفسه، ومن أحب ماله .. تجارته .. داره حباً جعله ينافس حب الله سبحانه وتعالى فقد أشرك بالله عز وجل، ذلك لأن الذي يحب شيئاً ما فهو عبده كما يقول ابن عطاء الله. ذلك لأنه لابد أن يخضع لهذا المحبوب، ولابد أن يدين له بالولاء، ولا بد أن يتبعه اتباعاً أعمى كما يقولون، ومن ثم فقد جعله شريكاً مع الله سبحانه وتعالى.

ومن أحب أولاده هذا الحب المنافس لحب الله عز وجل أو أحب أهله أو زوجه هذا الحب المنافس لحب الله سبحانه وتعالى، فقد أشرك مع الله سبحانه وتعالى غيره، ولو أننا نظرنا إلى قلوبنا وفحصنا مشاعرها الخفية لرأينا في أنفسنا مصداق قول الله عز وجل: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ".

وهنا يجدر بنا أن نقف أمام هذا المعنى الجليل الذي ينبهنا إليه ابن عطاء الله رحمه الله تعالى: "ما أحببت شيئاً إلا كنت له عبداً" هل هنالك شك في هذا؟ إذا كان حبك للشيء لذاته، فلا بد أن يستعبدك هذا الشيء، ودرجات الاستعباد متفاوتة، هذه حقيقة لا شك فيها، والله عز وجل لا يريد منك هذا، يريد أن تكون عبداً له فقط. والدليل على ذلك تلك الآيات الكثيرة التي يحذرك الله فيها من أن تشرك مع الله غيره، ومعنى أن تشرك مع الله غيره أي أن يكون قلبك مكاناً لمحبة غير الله سبحانه وتعالى، حتى ولو كان على أساس الشركة، هذا هو الشرك. وهذا يُذكرنا بقول الله عز وجل وكم نتذكر هذه الآية ونستشهد بها: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ". هذا هو المقياس الذي يميز الموحد الحقيقي عن المشرك مع الله سبحانه وتعالى.

إلا أن الإنسان قد يتساءل مستشكلاً فيقول: ولكن الإنسان مطبوعٌ على أن يحب كل ما قد يحتاج إليه؟ بل هو مطبوع بغريزته على أن يحب الأهل والأولاد والزوجة والأصدقاء. ألم يقل الله عز وجل "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ". فكيف يمكن للإنسان أن يخالف غريزته أو أن يثور على فطرةٍ فطره الله سبحانه وتعالى عليها؟

والجواب عن هذا: أن الإنسان إذا عرف الله سبحانه وتعالى حق المعرفة اتجه قلبه بالولاء له دون غيره، واتجه فؤاده بالحب له دون محبة سواه، إذا عرف الله بصفاته الكاملة، وبآلائه التي لا تحصى .. ومن ثم فإنه يحب كثيراً وكثيراً من الأشياء من غير الله عز وجل، ولكنه إنما يحبها لأنها توصله إلى الله سبحانه وتعالى، هو يحب المال بعد أن أحب الله لأنه يرى فيه مطيةً يتبلغ بها ويصل بها إلى كل ما يرضي الله عز وجل.

هو يحب الزوجة والأهل والأولاد لكنه إنما يحبهم ليجعل منهم رأس مال جهادي يبني من خلال رأسماله هذا الأسرة التي أمر الله بها، ومن ثم يتحبب إلى الله عز وجل برعاية هذه الأسرة التي أقامه الله عز وجل قيِّماً عليها، يتقرب ويتحبب إلى الله برعاية أولاده وتربيتهم.

يحب أصدقاءه ومن يلوذون به، ولكنه في هذه الحالة لا يحبهم مع الله وإنما يحبهم في سبيل الله، يحبهم لكي يكون حبه لهم مظهراً لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتقديم النصيحة لهم كلما اقتضت المناسبة، ثم هو يحبهم لأنهم مثله يعرفون الله، ولأنهم مثله يتقربون إلى الله عز وجل فبينهم وبينه رحم، رحمٌ يتمثل في معرفة الله عز وجل ويتمثل في السير على صراط الله سبحانه وتعالى.

وخلاصة القول أن هنالك حباً مع الله وهنالك حبٌ في سبيل الله، أما الحب مع الله فهو الشرك الذي يحذر الله عز وجل منه وهو المعني بقوله سبحانه وتعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ". الحب مع الله ينافس محبة الله عز وجل، وصورة ذلك كثيرة وواضحة ولا داعي إلى ضرب الأمثلة.

أما الحب في سبيل الله فهو ذروة التوحيد، الحب في الله .. إذا أحب العبد ربه سبحانه وتعالى أصبح عبداً له وحده، ثم إنه ينظر فيجد أنه لا بد أن يتخذ سبيلاً إلى رضا الله إلى محبة الله إلى تنفيذ أوامر الله إلى النهوض بالواجبات التي أمر الله عز وجل بها، وينظر فيجد أن هنالك وسائط ووسائل لا بد من اتخاذها سيراً إلى مرضاة الله عز وجل فهو يبحث عنها في سبيل وصوله إلى الله، وإذا عثر عليها أحبها لأنها توصله إلى الله، وتعلق بها لأنها المطية التي اختارها الله عز وجل له، لكي يتبلغ بها في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى.

تماماً كالإنسان الذي أحب مطيةً أكرمه الله عز وجل بها، إنه لا يحبها لذاتها، ولكنه يحبها لأنه يتبلغ بها إلى أهدافه، لأنه يتوسل بها للوصول إلى أغراضه وأمانيه، والمؤمن له هدف واحد في هذه الحياة كلها أن يصل إلى مرضاة الله وأن يكرمه الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والرضا، ولا شك في أن لذلك سبلاً والمال من جملة السبل، والأهل والأولاد من جملة السبل، والأصدقاء من جملة السبل، وربما كانت الزعامة من جملة السبل. فمن اتخذها مطايا إلى الله فبحبه لله أحبهم، وتلك هي ذروة التوحيد، ومن نسي الله في جنبها وأعرض عن الله والتفت إلى هذه الأمور فقد أحبها مع الله، وهو المعني بالشرك الذي يحذر الله عز وجل منه.

هذه خلاصة ما يعنيه ابن عطاء الله: "ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً وهو عز وجل لا يريد أن تكون عبداً لغيره " . فاللهم اجعلنا عبيداً لك واللهم اجعل علاقتنا بالأغيار وسيلةً إليك وطريقاً لبلوغ مرضاتك .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي