مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 10/01/1997

من الذي يقبل الله طاعاته في شهر رمضان ؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

روى ابنُ خزيمةَ في صحيحه، والبيهقيُّ في سننهِ من حديثِ سلمانَ الفارسيِّ بسندٍ صحيحٍ أنّهُ قال: خَطَبنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في آخرِ يومٍ من شعبانَ فقال: "أيُّها النّاس: قد أظلّكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، شهرٌ جعلَ اللهُ سبحانهُ وتعالى صيامهُ فريضة، وقيامَ ليلهِ تطوُّعاً. وهوَ شهرُ الصّبر، والصّبرُ جزاؤهُ الجنّة. وهوَ شهرُ المواساة، من فطَّرَ فيهِ صائماً غُفِرت لهُ ذنوبُهُ وكانَ عتقاً لهُ من النّار". قالَ بعضُهم: يا رسولَ الله، ليسَ كلُّنا يقدرُ أن يفطّرَ الصّائم. فقالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام: "يعطي اللهُ ذلكَ الثّوابَ كلّهُ لمن فَطَّرَ صائماً بتمرةٍ أو بشربةِ ماءٍ أو بمذقةِ لبن".

هذا الحديثُ الذي ذكرهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من خطبةٍ لهُ في يومٍ كهذا اليومِ تقريباً، في آخرِ يومٍ من شعبان. يدلُّنا على الحكمةِ الكبرى من قيمةِ هذا الشّهرِ وفضيلته، وينبِّهنا إلى محورِ الثّوابِ الذي خبَّأهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى في هذا الشّهر.

إذا تأمّلنا أيُّها الإخوة، علمنا أنَّ محورَ الثّوابِ في هذا الشّهرِ لا يتمثَّلُ في كثرةِ الطّاعاتِ في مظاهِرِها التّقليديّةِ المعروفة. ولا يتمثّلُ في كثرةِ العكوفِ على قرائةِ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ في مظهرهِ الشّكليّ. وإنّما تتمثَّلُ قيمةُ هذا الشّهرِ فيما نبَّهَ إليهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من أنّهُ شهرُ المواساة، أي إنّهُ شهرُ تجديدِ الألفةِ والودادِ بينَ المسلمينَ بعضهم مع بعض. شهرٌ يهيبُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ عبادهُ بأن يجدّدوا نسيجَ المحبّةِ فيما بينهم. وبأن يطهّروا هذا النّسيجَ ممّا علقَ بهِ خلالَ العامِ المتصرِّم، من أحقاد، من ضغائن، من ترات، من حقوقٍ ضُيِّعت، من ألسنةِ نطقت بغيبةٍ أو نميمة. هذا هوَ محورُ المثوبةِ التي غرسَها أو خبّأها اللهُ سبحانهُ وتعالى لعبادهِ في هذا الشّهر.

فإن شَرَعَ اللهُ سبحانهُ وتعالى فيهِ الصّيام، فالصّيامُ خادمٌ لهذا الهدف. وإن أهابَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ عبادهُ بقيامِ ليله، فقيامُ ليلهِ أيضاً خادمٌ لهذا الهدف. وإن أمرَ فيهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ النّاسَ بالإكثارِ من تلاوةِ القرآنِ والابتعادِ عن المحرّماتِ، فمن أجلِ تحقيقِ هذا الهدفِ أيضاً. والأحاديثُ الأُخرى كلُّها تؤكّدُ هذا المعنى الذي نقول. وكأنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى جلّت رحمتهُ ينظرُ إلى عبادهِ وقد علمَ أنّهم خطّاؤون، وعلمَ أنَّ علاقاتِ ما بينهم تتسرَّبُ إليها لأسبابٍ كثيرة. كثيرٌ من البغضاء، وكثيرٌ من الأحقاد، وربَّما عدى البعضُ منهم على الآخرِ فاستلبَ منهُ حقَّه، سواءً كانَ حقّاً مادّيّاً أو حقّاً معنويّاً، علمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ عبادهُ معرّضونَ لهذا بسببِ ضعفٍ رُكِّبَ فيهم، وبسببِ أنّهم خطّاؤونَ كما قالَ عليهِ الصّلاةُ والسّلام. فجعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ بفضلهِ وسابغِ رحمتهِ من هذا الشّهرِ المباركِ فرصةً لترميمِ العلاقاتِ التي ساءَت وتفتّحت فيها الثّغراتُ خلالَ العام.

وكأنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى ينادي عبادهُ، بل هوَ يناديهم فعلاً بلسانِ رسولِهِ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن: أقبِلوا فرمِّموا هذا السّوءَ الذي وقعتم فيهِ في العامِ الماضي. سدّوا هذهِ الثّغرات. جدّدوا الألفةَ التي أقمتُ الإسلامَ على محورِها فيما بينكم. طهّروا صِلاتِ ما بينكم من السّخائم، ومن البغضاء. ليعُد كلٌّ منكم فليحاسب نفسه: كم ضيَّعَ من حقوقِ إخوانهِ خلالَ العامِ الماضي؟ وكم أساءَ إلى أناس؟ وكم حرَّكَ لسانهُ بقالةِ سوءٍ في حقِّ هذا وهذا وذاك؟

إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى أعلَنَها فرصةً في هذا الشّهر، يغفرُ اللهُ سبحانهُ وتعالى للتّائبين، وللمقبلينَ إلى اللهِ عزَّ وجلّ، ولمن يريدونَ أن يصلحوا علاقةَ ما بينهم وبينَ إخوانهم.

هذا المعنى هو الأساسُ الذي يدورُ عليهِ محورُ المثوبةِ والطّاعاتِ والعباداتِ التي يهيبُ اللهُ عزَّ وجلَّ بعبادهِ أن يقبلوا إليها خلالَ هذا الشّهرِ المبارك.

ولذلكَ فلتعلموا أنَّ الإنسانَ الذي دخلَ عليهِ شهرُ رمضانَ وهوَ مثقلٌ بحقوقِ الآخرين، وهوَ مُثقَلُ النّفسِ بمشاعرِ بغضاء، بمشاعرِ أحقاد، وترات أو نحوِ ذلك، لن يفيدَهُ شيئاً إقبالهُ على كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لن يفيدَهُ شيئاً أن يُهرَعَ إلى المساجدِ ويصلِّيَ في الصّفوفِ الأماميّةِ راكعاً ساجداً، لن يفيدَهُ شيئاً أن يُظمِئَ نهارَهُ ويجيعَهُ وهوَ صائمٌ متقرّباً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بزعمه.

حقوقُ اللهِ أيّها الإخوة مبنيّةٌ على المسامحة، أمّا حقوقُ العبادِ فمبنيّةٌ على الـمُشاحّة. ألم تسمعوا حديثَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو يحدّثُ عن فضيلةِ ليلةِ القدرِ التي هيَ خيرٌ من ألفِ شهر؟ وكيفَ يَطّلعُ اللهُ سبحانهُ وتعالى فيها على عبادهِ فينادي يقولُ: (ألا هل من مستغفرٍ لأغفرَ له؟ ألا هل من داعٍ فأجيبه؟). ويُرجئُ أهلَ الأحقادِ على ما هم عليه، أي: لا يستجيبُ لهم، ولا يحقّقُ سؤلهم، ولا يجيبهم إلى دعائهم بشكلٍ من الأشكالِ وإن أمضوا الليلَ راكعينَ ساجدينَ مبتهلينَ متضرّعين. وكأنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يقولُ لهم: لو صَفَت نواياكُم لدفعكم هذا الصّفاءُ إلى أن تطهّروا صلةَ ما بينكم، فأنتم تعلمونَ أنّني قد أعلنتُ أنَّ النّاسَ كلَّهم عيالٌ للهِ سبحانهُ وتعالى، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يغارُ على عيالهِ أي على عباده.

ومن ثمَّ، فالأمرُ كما قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الخلقُ كلُّهم عيالُ الله، فأحبّهم إلى اللهِ أنفعُهم لعياله".

شهرُ رمضانَ هذهِ هي مهمّته: فرصةٌ لتطهيرِ العلاقات. فرصةٌ لإزالةِ السّخائمِ ومشاعرِ البغضاءِ والأحقادِ منَ النّفوس. فرصةٌ لأن يعودَ الإنسانُ إلى حسابهِ لا معَ اللهِ - فاللهُ غفور- ولكن معَ النّاس: كم من حقوقٍ أكلَها أو ضيّعها؟ وكم من كلماتٍ افتراها لسانهُ غيبةً أو كذباً أو نميمة؟ شهرُ رمضانَ فرصةٌ للرّجوعِ إلى هذا الحساب. ولذلكَ يقولُ المصطفى صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "وهوَ شهرُ المواساة". ما قيمةُ أن أُفَطِّرَ صائماً أو أن تُفَطِّرَ أنتَ صائماً؟ ما قيمةُ أن ألقاكَ بتمرةٍ أُفَطِّركُ عليها وأنتَ تستطيعُ أن تفطّرَ نفسكَ بتمراتٍ لا بتمرة؟ قيمةُ ذلكَ: أنّها تفتحُ الأفئدةَ لتجديدِ الحبّ. قيمةُ ذلك: أنَّ الإنسانَ عندما يلقى أخاهُ الإنسانَ وقد أُذِّنَ لصلاةِ المغربِ ودخلت لحظةُ الإفطارِ وجاءَ فَهُرِعَ إليهِ بكأسٍ من الماء، قيمةُ ذلك: أنَّ هذا العملَ يفتحُ الأفئدةَ مجدّداً للحبّ. ما قيمةُ أن أفطِّرَ صائماً على مزقةِ لبنٍ ممزوجٍ بماء؟ كلُّ النّاسِ يستطيعونَ أن يفعلوا ذلك. ولكنَّ المعنى الذي رمى إليهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ الإنسانَ مدعوٌّ في هذا الشّهرِ إلى أن يطرقَ أبوابِ قلوبِ إخوانه، لكي يلجَ إليها من جديدٍ بالحبّ، بالوداد. كيفَ أطرقُ بابَ قلبكَ وكيفَ تطرقُ بابَ قلبي بمثلِ هذهِ المواساةِ ولو كانت شكليّة؟ ولكنَّ هذا يأتي بعدَ أداءِ الحقوق. أمّا أن أكونَ قد نهبتُ مالكَ أو افتريتُ عليكَ أو نهشتُ عرضكَ بغيبةٍ ثمَّ آتي لأقدّمَ لكَ شربةَ ماءٍ تفطرُ عليها.. لا. هذا أشبهُ ما يكونُ بالسّخرية.

ابدأ قبلَ كلِّ شيءٍ فطهّرِ العلاقة، أزل أسبابَ هذهِ البغضاء، أعد الحقوقَ إلى أصحابِها، هذا هو التّخلية. ثمَّ ابدأ بالتّحليةِ بعدَ ذلكَ بالمواساةِ التي عبَّرَ عنها رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بهذا الذي قال.

إذا عرفنا هذا أيّها الإخوة، فاعجبوا لأناسٍ يجعلونَ من شهرِ رمضانَ المباركِ مناسبةً لحشوِ الأفئدةِ بمزيدٍ من أسبابِ البغضاء، بمزيدٍ من الضّغائن. اعجبوا لأناسٍ يجعلونَ من شهرِ رمضانَ المباركِ مناسبةٍ لتقطيعِ بقايا نسيجِ الحبِّ والودِّ بينَ المسلمين. إذا دخلَ هذا الشّهرُ جرَّدَ الكثيرُ من هؤلاءِ النّاسِ من لسانهِ حساماً أو سيفاً ليقارعَ وليخاصمَ بهِ المسلمين، يخاصمُهم في كلِّ شيء. يتّخذُ من قيامِ الليلِ الذي جعلهُ رسولُ اللهِ تطوُّعاً أداةً لإثارةِ البغضاءِ بينهُ وبينَ إخوانهِ المسلمين: (لا تصلّوا عشرين ركعة - أنتم مبتدعون - أنتم ضالّون - أنتم مشركون).. إلى آخرِ ما تعرفون.

وكم من خصوماتٍ قامت في المساجدِ بينَ إخوةٍ مسلمينَ في شهرِ رمضانَ المباركِ الذي جعلهُ اللهُ فرصةً لتجديدِ الحبّ. كم من أناسٍ جعلوا هذا الشّهرَ فرصةً لتجديدِ البغضاءِ على عكسِ ما أمرَ بهِ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم. والمسلمُ الذي وعى إسلامهُ وأخلصَ لربِّهِ وعرفَ أنَّ الحبَّ في اللهِ هو محورُ هذا الدّينِ كلِّه، يعلمُ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "الصّلاةُ خيرُ مشروع"، فأكثِر منها أو أقِلَّ. يمرُّ أمامَ هذا الاجتهادِ ولا يبالي ويباركُ لكلٍّ اجتهاده: صلِّ عشرين ركعة، صلِّ ثماني ركعات، عشراً، لا تصلِّ أكثرَ من الفريضة، أنتَ أخي، أنتَ مسلم، وصلةُ ما بيني وبينكَ من حبٍّ أجلُّ وأجلُّ وأجلُّ من التّطوّعاتِ كلِّها، فضلاً عن الخصامِ في سبيلِها.

اعجبوا أيُّها الإخوة لأناسٍ يجعلونَ من هذا الشّهرِ المباركِ مثابةَ جدلٍ لا يمكنُ أن يسكتَ عنهُ أصحابهُ حتّى يوصلَ المجادِلِينَ إلى البغضاء، إلى الأحقادِ والضّغائن. وإسلامُنا إنّما جاءَ لنقيضِ ذلك، وقد قلتُ لكم مرّةً إنَّ في الدّينِ الإسلاميِّ مبادئَ لا مجالَ للاجتهادِ فيها، ينبغي أن نتّفقَ جميعاً عليه. وفيها حواشٍ كثيرة من الجزئيّاتِ الاجتهاديّةِ قد يختلفُ فيها المجتهدونَ ولكلٍّ أجرُه، والأجيالُ السّابقةُ من المسلمينَ اجتهدوا واختلفوا ولم يتشاحنوا، ولم يتباغضوا، ولم يتّهم أحدٌ منهم أحداً إطلاقاً. ويأتي في المسلمينَ اليومَ ثلّةٌ عجيبةٌ تحاولُ أن تجعلَ من تلكَ الاجتهاداتِ التي ما كانت في يومٍ من الأيّامِ سبباً لخصام، تحاولُ أن تجعلَ منها سبباً لخصامٍ وشقاقٍ وفُرقة. كأنَّ الوسائلَ التي يتّخذُها أعداءُ الدّينِ مشرّقينَ ومغرّبينَ لتفتيتِ وحدةِ المسلمين، ولتمزيقِ بقايا المودّةِ القائمةِ بينهم كأنَّ تلكَ الوسائلَ غير كافية. ومن ثمَّ فيأتي هؤلاءِ النّاس لينفخوا في نيرانِ أولئكَ الأعداءِ وليستثيروا مزيداً من اللهب.

ألا فلتعلموا أيُّها الإخوة أنَّ شهرَ رمضانَ المبارك شهرُ الوحدة، شهرُ المواساة، شهرُ تجديدِ الألفة، شهرُ ترميمِ العلاقاتِ الودّيّةِ بينَ المسلمين، قيامُ الليلِ في المساجد، الإكثارُ من تلاوةِ القرآن، الصّيام، كلُّ ذلكَ وسائلُ تصبُّ في هذا المعنى..

تحميل



تشغيل

صوتي