مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 13/12/1996

قتل الإنسان ما أكفره

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلٍّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى .

أمّا بعدُ فيا عباد الله ..

ليس غريباً أن يستمر الخالق الكريم سبحانه وتعالى في إمداده لعباده بالنعم والآلاء التي لا تنقطع مع استمرار إعراضهم عنه سبحانه وتعالى، ومع استمرار نسيانهم لفضله، بل مع استمرار إشراكهم لغيره معه سبحانه وتعالى، ولكن الغريب حقاً أن يكون العبد وهو يعلم أنه عبدٌ لله سبحانه وتعالى مستمراً في عكوفه على إعراضه عن الله، ونسيانه لفضل الله سبحانه وتعالى، مع ما يرى من النعم التي تستمر في مجيئها وفي تطوافها من حوله في كل حالٍ وفي كل وقتٍ وآن؛ أن لا ينقطع رفد الله عن عباده سواءٌ كانوا طائعين أو عاصين ليس غريباً، لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرحمة لعباده جميعاً وهو القائل سبحانه وتعالى: (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).

ولكن العجب الذي لا ينتهي .. أن يعلم العبد أن مولاه وخالقه هو الله سبحانه وتعالى، وأن يتأمل فيدله عقله على أنه لا يوجد مصدرٌ للنعمة التي تفد إليه من سماءٍ أو من أرض إلا من عند الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هذه الألطاف وهذه النعم لو انقطعت عنه لهلك هذا الإنسان، يعلم هذا كله ويرى مائدة الله مبسوطة أمامه لا ينقطع رفدها ولا ينقطع خيرها، ومع ذلك تجده معرضاً عن الله سبحانه وتعالى، مستكبراً على أوامره؛ يأمره فيتأبى، ينهاه فيتمرد على نهيه، يحذره من الالتفات إلى أعدائه وأعداء دينه فلا يلتفت إلا إليهم، ولا يأخذ وصاياه ونصائحه إلا منهم. ذلك هو العجب العجاب يا أيها الأخوة.

وهذه هي حالنا .. ننظر فنجد أن السماء تمطر ولا ينقطع رفدها عن الإنسان أبداً، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى لو قطع رفده هذا مدةً من الزمن لآل هؤلاء الناس إلى ما يشبه البعوض الذي يبحث عن المستنقعات.

ويرى هذا العبد كيف أن الله سبحانه وتعالى مستمرٌ في تسخير أرضه لتتفجر رزقاً وطعاماً رغيداً وخيراً وفيرا وكنوزاً لا تنقطع لهذا الإنسان الذي ميزه الله على عباده وكرمه بكل مظاهر التكريم، يرى العبد هذا وهو معرضٌ عن الله عز وجل.

يُدعى إلى شرعة الله فيشمئز منها ويبحث عن قمامات الشرائع لدى أمثاله من الناس بل لدى أعدائه من عباد الله سبحانه وتعالى.

يُذكره الله سبحانه وتعالى بألوهيته له وفضله السابغ عليه وبضرورة اعترافه وشكره له، ولكنه يُلوي رأسه ذات اليمين وذات الشمال ويتناسى أو يتجاهل أن لله عليه فضلا، هذا إن لم يُكابر في إنكاره لربوبية الله سبحانه وتعالى.

هذا الواقع الذي نراه بأعيننا هو أغرب ما يمكن أن يتصوره أحدنا عن واقع الإنسان، ذلك لأننا منذ أن عرفنا الإنسان وحقيقته عرفنا أنه ذا شعور وأنه ذا إدراك وأنه ذا حساسية وذوق. فأين هي حساسية هذا الإنسان وذوقه وشعوره أمام هذا الواقع العجيب؟

انظروا إلى سماء الله عز وجل كيف يتصل خيرها بالأرض دون انقطاع، وانظروا إلى عباد الله أو أكثرهم الذين يتحركون في مناكب الأرض كيف يسعون لاهثين إلى عصيان الله! إلى الوقوف في وجه حدود الله سبحانه وتعالى محادين ومكابرين!

انظروا إلى هؤلاء الذين يُدعون إلى الاصطلاح مع الله عز وجل، فيشمئزون ويكابرون ويستمرون في إعراضهم واستكبارهم على الله سبحانه وتعالى، وكلٌ منهم يعلم أنه لولا هذه النعمة التي تهمي من السماء والتي تتفجر من الأرض؛ لولا هذه النعمة لغدا هذا الإنسان المستكبر على الله سبحانه وتعالى أحقر مخلوقٍ يسير في جنبات الأرض! فهل من أمرٍ أعجب من هذا!!..

ومع ذلك فلو أن خطاب الله عز وجل لم يكن يذكرنا بين الحين والحين بضرورة الرجوع إلى الله والاصطلاح معه، بضرورة الاعتراف بربوبية الله عز وجل والشكر لنعمه، لو لم تكن آيات الله تترى، ولو لم تكن مذكراته تقرع آذاننا بين الحين والآخر، لقلنا إن الإنسان قد ينسى، وما سمي الإنسان إنساناً إلا لأنه ينسى، ولكننا نعلم أن المذكرات تقرع آذاننا صباح مساء، ومع ذلك فإننا نأبى أن نتذكر.

وإذا لاحقَنا من يريدون أن يذكرونا بذلك، ثرنا وتأبينا وأعلنا عن الاشمئزاز، واتجهنا إلى شطر أولئك الذين يعادوننا ويستعبدوننا ويحاولون أن يسومونا سوء العذاب بكل الوسائل، نجعل منهم أولياء لنا من دون الله عز وجل.

أغربُ ما تراه من حال الإنسان أنه يستمر في نهجه المنحرف اللئيم هذا وخطاب الله يلاحقه قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) خطاب الله يلاحقنا ونحن نفر هاربين معرضين وقد تلبسنا بأشنع مظاهر اللؤم، ولاؤنا نعطيه لأعداء الله عز وجل، والإله المتفضل علينا المتكرم الذي لا يقطع عنا رفده في ليلٍ ونهار نواجهه بالتمرد، نواجهه بالإعراض، لا بل في كثيرٍ من الأحيان نواجهه بالحرب لشرائعه وأحكامه ووصاياه ونصائحه. وهو مع ذلك وقبل وبعد ذلك لا يقطع عنا رفده؛ مائدته مبسوطة، نعمه عليها وفيرة، ومعظم من يتحلقون حول هذه المائدة لؤماء، بل ما وجدت لؤماً أشنع من هذا اللؤم أيها الإخوة.

يأمرنا الله بالأخلاق الراشدة الحميدة التي يعود مآلها إلينا فنحارب هذه الأخلاق الحميدة.

يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نكون قوامين على حدود الله وأوامره؛ حارسين لها في بيوتنا وأسواقنا، فنعرض عن هذا الذي أمرنا به الله ونسعى جاهدين للاستمساك بنقيض هذا الذي يأمرنا به الله سبحانه وتعالى.

ويذكرنا الله بلطف بأن نعلم فضله، وأن ندين له بالولاء والشكر، فنعرض عن هذا الذي يوصينا به ويتلطف في تذكيرنا به ونمعن في الاسترسال في غينا وأهوائنا وشهواتنا.

ومع ذلك فإن نداء الله يقول: (كُلًا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).

لا وسيلة أيها الأخوة لكي نتخلص من هذا الداء العضال الذي نعاني منه إلا وسيلة واحدة، هو أن تلتجئ القلة الصالحة من عباد الله سبحانه وتعالى إلى أعتاب الله وإلى ألطاف الله سبحانه وتعالى تستجديه أن يلهم هؤلاء التائهين بل هذه الكثرة الكاثرة من التائهين حسن الرجوع إلى صراطه، حسن الإنابة إلى ساحة عفوه، ليس لنا من سبيلٍ إلا هذا أيها الإخوة.

والله إن الإنسان ليعجب عجباً يُذيب الحشاشة، عندما يسير في هذه الشوارع في هذه الأيام فيرى آثار نعمة الله عز وجل منبسطة حوله أنّى ذهب، وكيفما التفت ثم ينظر إلى هؤلاء الذين ما يزال مولانا وخالقنا مستمراً في إكرامهم وفي إعطائهم وفي إرسال النعم التي لا تنقطع إليهم؛ ينظر إليهم وإذا بهم مستكبرون عليه وإذا بهم متأبون على شرعه، وإذا بهم ربما يسخرون من وصاياه وكلامه.

انظر إلى ما يعامل الله به عباده ثم التفت إلى ما يعامل العباد به مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى.

أما الله سبحانه وتعالى فهو القوي وهو العزيز وهو الجبار وهو الذي إذا أخذ، أخذ أخذ عزيز مقتدر، لا يمنعه أي مانع من أن يُذهب كل هذه النعم وهذه الآلاء، وأن يمطر علينا بدلاً من ذلك كل ألوان السخط وأسباب الهلاك. ما الذي يمنعه من هذا؟ هو القوي .. أما نحن الذين نستكبر على الله والذين نتأبى على وصايا الله سبحانه وتعالى، فنحن الضعاف مثال الضعف مثال الذل مثال الوهن اللاشيء.

لو أن الله سبحانه وتعالى تخلى عنا، ولو أن الله سبحانه وتعالى قطع رفده عنا. من هو الإنسان؟ من هو هذا الإنسان المستكبر على الله عز وجل؟ هو ذاك الذي قال الله عنه: "وخُلق الإنسان ضعيفاً" هذا الإنسان عندما تنقطع عنه عناية الله سبحانه وتعالى، والله لبعوضةٌ تجوب المستنقعات أقوى من هذا الإنسان. أجل. وها أنتم ترون الدلائل البعيدة التي تنبهكم إلى هذه الحقيقة عندما يسلط الله سبحانه وتعالى على أحدنا حشرةً من هذه الحشرات، ما الذي يستطيع أن يعمل الله سبحانه وتعالى؟

يكرمنا ويعطينا على الرغم من لؤمنا وهو القوي، أما نحن ... فنواجهه باللؤم ونواجه إكرامه بالتمرد والتأبي والثورة على نصائحه ووصاياه ونحن الضعاف، لو أننا كنا أقوياء نستند إلى هذه القوة في لؤمنا، نستند إلى هذه القوة في استكبارنا، إذاً لربما خنع المنطق لشيء من هذا التصرف. لكن يا هذا ما هو رأسمال لؤمك؟ ما هو رأسمال استكبارك؟ ما هو رأسمال تأففك من وصايا الله عندما يأمرك؟ يوصيك لمصلحتك أن تسير على النهج الذي شرعه الله لك، ما هو رأسمالك؟

إذا شاء الله عز وجل أن يتجلى عليك بجبروته. ترى هل ستستمر في لؤمك لحظة واحدة؟ هل ستقوى على الثبات على استكبارك ثانية واحدة؟ إذاً فيما يستكبر الإنسان التافه الضعيف! فيما يثور ويتمرد على الله القوي! هذا المخلوق التافه الذي لا قيمة له، ومع ذلك فانظروا إلى القوي كيف يعامل هؤلاء المستكبرين الضعفاء، لا تنقطع رحمات الله عنهم، وانظروا إلى هؤلاء الضعفاء كيف يعاملون الله سبحانه وتعالى.

أسأل الله عز وجل أن يجعل من القلة الصالحة التي لا تزال مستمرةً بفضل الله سبحانه وتعالى، أسأل الله عز وجل أن يجعل منها سبيل هدى ورشد وسر إعادة لأولئك الكثرة التائهة الضالة إلى صراط الله سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم .

تحميل



تشغيل

صوتي