مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 22/12/1995

لهذا ملأ الله سبحانه وتعالى الدنيا بالغصص والمنغصات

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

ينبغي أن يعلم كل إنسانٍ وافدٍ إلى هذه الحياة الدنيا، أن يعلم طبيعة هذه الحياة والشأن الذي أقام الله سبحانه وتعالى هذه الدنيا عليه، حتى لا يفاجئ منها بما لم يكن يتوقع، وحتى ينسجم سلوكه مع النهج الذي أقام الله هذه الدنيا عليه؛ فكم من إنسان فتح عينيه على هذه الحياة وتوهم أنّه يعيش منها في جنة وارفة الظلال، فكان هذا الوهم سبباً من أهم أسباب شقائه فيها، ولو أنه بادئ ذي بدءٍ تعرف على هذه الحياة وشأنها وما أقامها الله عز وجل عليه لما شقي منها بمفاجأة، ولأدرك أن الله سبحانه وتعالى لحكمة أقامها على النهج الذي أقامها عليه. ينبغي أن نعلم أنّ هذه الدنيا مهما ذخرت بالنعيم، فإنّ نعيمها مشوبٌ بالغصص الدائمة لحكمةٍ سنذكرها ونتحدث عنها.

ينبغي أن نعلم أنّ الصيف الذي يبعث الله سبحانه وتعالى فيه الخير وأسباب النماء للثمار التي جعلها الله نعمةً لعباده فوق هذه الأرض، لابد أن يحمل معه أيضاً آلاماً من حرارته، والشتاء الذي جعله الله سبحانه وتعالى موئلاً لبركة السماء ولنبات الأرض، ينبغي أن نعلم أنه لابد أن يحمل معه قوارص أيضاً من برده؛ وينبغي أن نعلم أن الهواء الذي جعله الله سبحانه وتعالى سرّ استمرار الحياة من وراء صدورنا لابد أن تتسرب إليه العواصف ولابد أن تتسرب إليه أسباب الآلام بين حينٍ وآخر، والطعام الذي فَجَّر الله سبحانه وتعالى الأرض به، أو أنزله ذخراً من السماء أو سَخّر به كثيراً من الأنعام والدواب - هذا الطعام ذاته لا يصل إلى الإنسان ولا يستمرئه إلا عبر غصص.

والحياة التي يعيشها الإنسان لا يمكن أن تستقر معه حالٌ دون أن تتنقل إلى حالٍ أخرى، إن أعجبته الصبوة في مرحلة حياته الأولى فلسوف يودعها إلى شباب، وإن أعجبه الشباب في مظهر الصحة والعافية والمشاعر التي يشعر بها الإنسان الشاب لابد أن يودعها إلى كهولة تملؤ قلبه بذكريات وغصص، وإن ركنَ إلى الكهولة واستأنس بها وتعود عليها لا بد أن يودعها إلى شيخوخة، وإن أعجبته الصحة والعافية لا بد أن يتسرب إلى هذه الصحة فيما بعد ذلك الآلام والأمراض والأوجاع.

ينبغي أن يعلم الإنسان أنّ شأن هذه الحياة الدنيا هكذا، مع كلِّ إنسانٍ مهما كانت قوته صاعدةً أو هابطة، ومهما كان شأنه في هذه الحياة الدنيا ومهما كان له من الغنى وطول اليد. ألم تقرأوا قول الله سبحانه وتعالى "ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات" ألم تقرأوا قول الله عز وجل "لتُبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور". ينبغي أن يعلم الوافد إلى هذه الحياة الدنيا أنّ هذه هي هوية هذه الحياة لا مجال ولا سبيل لتغيير نظامها قط، لكن ما الحكمة؟

ها هنا يكمن الأمر الخطير الذي ينبغي أن يعرفه كل إنسان.

الحكمة أيها الأخوة من هذا الذي أقام الله الحياة عليه من الأنظمة والنهج الذي ذكرناه يتصل برحمة من رحمات الله سبحانه وتعالى، فهو مظهرٌ دقيق لعظيم رحمة الله عز وجل بعباده. لقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الحياة ممراً إلى مقر، ولم يجعل هذه الحياة مقراً قط. جعل الله هذه الحياة الدنيا ساحةً يمر بها الإنسان يؤدي بها وظائف كُلّف بها، يبرز من خلال هذه الوظائف ما قد اعتلج بداخل قلبه وفي طوايا سريرته من إيمانه بالله ومن دينونته لحقائق العبودية بالله أو من نقيض ذلك، من كفرانه بالله وعناده أمام حقائق عبوديته لله. جعل الله هذه الحياة الدنيا عبارة عن ساحة يمر بها الإنسان فيكتشف أو تظهر من خلال هذه الساحة التي يمر بها؛ تظهر طوايا نفسه وتتجلى دقائق ما يكمنه فؤاده وتنطوي عليه نفسه.

أرأيتم إلى هذا الجهاز الذي تمر عبره الأمتعة التي يسافر بها الإنسان إلى مكان ما، إن هذا الجهاز من شأنه أن يكشف ما بداخل هذه الأمتعة، كذلكم هذه الحياة الدنيا التي يمر بها الإنسان كهذا الجهاز يمر الإنسان بهذه الحياة فتتجلى من خلال سلوكه ومن خلال تعامله مع هذه الحياة ومن خلال انصياعه أو عدم إنصياعه إلى أوامر الله تتجلى من خلال هذا الجهاز الذي هو الحياة الدنيا نفسياً تتجلى كوامن قلبه، يتجلى مدى شعوره واستسلامه لحقائق العبودية لله، أو يتجلى مدى تمرده على ذلك في جنب الله سبحانه وتعالى هذه هي الحياة الدنيا. هذه الحياة معبر وليست مقراً.

أرأيت لو أن الله عز وجل جعل هذه الحياة القصيرة في عمرها التي هي معبر كما قلت لكم وجسر، أرأيتم لو أن الله عز وجل ملأها بنعم لا غصص فيها، وجعلها تفيض بألوان من المتع لا معكرات تتسرب إليها، إذاً لتعلق الإنسان بها أيّما تعلق، ولعشق هذه الحياة، ولتقطعت آماله عما هو مقبل عليه ولحصرت آماله وأحلامه في هذه الساحة التي تذخر بكل أنواع النعيم صافية عن الشوائب والغصص؛ فلا أمراض ولا أوجاع ولا آفات تحيط به من سماءٍ ولا في أرضٍ ولا إبتلاء من الناس بعضهم ببعض. إذاً فإن الإنسان يتعلق بهذه الحياة الدنيا. ولكن هذه الحياة معبر وجسر وليست مقراً، ولا بد في لحظة من اللحظات أن يدعوك الداعي إلى الرحيل.

أرأيت لو أن قلبك تعلق بهذه الحياة وتعشقها بسبب ما فيها من متع. كم يكون ألمك وأنت تودعها؟ كم يكون عذابك وأنت تستجيب للملك الذي يقول لك قد حان أن تلقى الله سبحانه وتعالى راحلاً عن هذه الحياة الدنيا؟ عندئذٍ سواءٌ كنت من الصالحين أو الطالحين أو الأولياء أو المستقيمين أو المنحرفين، ستجد أنك تنقلع أو تنخلع من هذه الحياة الدنيا كما يخلع الإنسان أو يقتلع جذور شجرةٍ ضربت بجذورها في باطن الأرض؛ فأنت لا تستطيع أن تمتلخها إلا وقد تقطعت جذورها ههنا وهناك. هكذا يكون شأن الإنسان. فهل هذا يكون مظهر رحمة من الله لعباده؟

كلكم يعلم أن الأمر ليس كذلك، اقتضت رحمة الله عز وجل إذاً أن يشعرك أن هذا المعبر هو معبر ليس إلا، إذاً ما ينبغي أن تتعلق به. هو جسر تمر عليه، إذاً ما ينبغي أن ترى في هذا الجسر من المشتهيات والمتع ما يجعلك تنسى ما أنت مقبلٌ عليه. هكذا تقتضي رحمة الله سبحانه وتعالى.

وانظروا أيها الأخوة كيف شاء الله عز وجل أن يختم حياة أكثر الناس بالمشيب. لماذا لم يكن المشيب أولاً والشباب ثانياً؟ حكمة باهرةٌ من وراء ذلك، عندما يودع الإنسان شبابه ويستقبل شيخوخته يجد نفسه يتبرم من هذه الحياة يوماً بعد يوم، يجد نفسه وقد ملّ من هذه الحياة يوماً بعد يوم، هذا مظهر رحمة، رحمة من الله عز وجل بعباده، أمّا لو كان الشباب هو نهاية الحياة التي يعيشها الإنسان وجاءه الموت بعد ذلك فكم تكون آلامه شديدة، وكم يشعر بأنه متعلق بهذه الحياة التي يودعها، من أجل هذا ملأ الله سبحانه وتعالى هذه الحياة الدنيا بالمنغصات والغصص كما ملأها بالمتع والنعم، ومزج هذا بذاك حتى لا تركن إلى هذه الدنيا، وحتى لا تحبس مشاعرك بها، وحتى تُعلّق آمالك بما أنت مقبل عليه من بعد.

ينبغي لكل وافدٍ إلى هذه الحياة أن يعرف هذا النظام الذي أقام الله سبحانه وتعالى هذه الحياة عليه حتى لا يُفاجئ منها بشقاء وبيل، وحتى يعلم أنه مهما تقلب في نعم أو ابتلاءات فإنه لا يرى من خلالها إلا مظاهر رحمة الله، لا يرى من خلالها إلا مظاهر حكمة الله سبحانه وتعالى.

وكل هذا الكلام إنما يأتي مقيداً بأن يكون الإنسان مؤمناً بالله، مؤمناً بأن لهذا الكون خالقاً أقامه على هذا النظام. فأمّا من لا يفهم ارتباط الكون بالمكون ولم يدرك ارتباط هذا النظام بالمًنظّم، فما أطول شقاءه، وما أصعب عليه الحياة التي يعيشها، ولا والله ليست حياته التي يعيشها إلا موتاً مستمراً، وليس حياته فوق هذه الأرض إلا سيراً في نفقٍ مُظلم. ولسنا نتحدث عن أولئك الناس الذين نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولهم العفو والعافية، ولكني أتحدث عن الإنسان المؤمن بالله عز وجل المدرك لكلام الله سبحانه وتعالى. هذا هو العزاء الأكبر لمصائب الدنيا.

فالإنسان لابد أن يكرمه الله بنعم ولا بد أن يبتليه الله بغصص أيضاً، إذا أدرك هذه المعنى لم ينس فضل الله عز وجل عليه في أيّ حالٍ من الأحوال، هو دائماً مع منن الله، هو دائماً مع عطاء الله سبحانه وتعالى، هذا هو شأن الجسر الذي يمر به الإنسان.

كثيرون هم الذين يعودون في المساء من أعمالهم إلى قراهم أو إلى مدنهم فيمرون في الليل المظلم بجسر، قد يكون هذا الجسر صعب العبور، قد تكون فيه بعض الصعوبات، ولو أن إنساناً سأل عن هذه الصعوبات قال: هذا أمرٌ يسير، جسرٌ نمر عليه، وليس الشأن أن يجلس أو يقيم أو يستوطن الإنسان في هذا المكان، حياتنا هكذا ...

ومع ذلك فإن الإنسان الذي آمن بالله وأدرك معنى قول الله عز وجل "إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً" الذي أدرك هذه الحقيقة هو دائماً في سعادة ودائماً في غِبط، نعم إن عوفي شكر الله وحمده، وإن مرض علم أنه راحل وأنه يمر في معبر شكر الله سبحانه وتعالى وحمده أيضاً، ومع ذلك فإنا نسأل الله العفو والعافية، ولكن لا بد أن يدرك الإنسان هذا النظام لهذه الحياة الدنيا، حتى إذا رحل الإنسان منها قال له الله عز وجل: الآن حان أن تجد النعيم الصافي عن الغصص، الآن حان أن تمتع بالمتع البعيدة عن المعكرات، والبعيدة عن المشوشات.

لا بد أن يظهر الفرق بين المقر الذي هو الجنة، وبين الممر الذي هو هذه الحياة الدنيا.

اللهم اختم حياتنا بأحب الأعمال إليك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا، وحتى نشكرك على كلِّ ما يصدر إلينا منك يا مولانا يا رب العالمين من نعمك الظاهرة والباطنة، واللهم إنا نسألك أن تعرفنا نعمك بدوامها وأن لا تعرفنا إيّاها بفقدها. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي