مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 25/11/1994

السبيل إلى الحُبٌّ الذي تفتقر إليه الأمة

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.


أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إن أركان هذا الدين القويم تتأسس وتوجد في كيان الإنسان بواسطة العلم، وأداة العلم في كيان الإنسان إنما هو العقل والتفكير، ومن هنا فقد كان العقل هو رأس مال الإنسان في طريقه إلى معرفة الله عز وجل، وكان العلم هو أعظم كنز يعتمد عليه الإنسان في طريقه هذا، وكلكم قرأ كتاب الله سبحانه وتعالى ووقف عند الآيات التي يعظم الله عز وجل فيها من شأن العلم، وحسبكم من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقوله عز وجل: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات".

وما يكاد بيان الله عز وجل ينبه عقولنا إلى برهان ساطع من براهين وجوده إلا ويربط فاعلية هذا البرهان بالعلم وبالإدراك كقوله سبحانه وتعالى : "إن في ذلك لآيات للعالمين" هذا عن السبيل إلى استقرار أركان الاسلام في كيان الانسان.

أما الدافع الذي يحمل الإنسان على السلوك طبق ما أمر الله سبحانه وتعالى، والالتزام بالنهج الذي اختطه الله سبحانه وتعالى لعباده، فإن أساس ذلك شيء آخر، هو حب العبد لله سبحانه وتعالى وتعظيمه لخالقه ومولاه عز وجل، ومن هنا ندرك أن لكل من العلم والحب لله عز وجل وظيفة لا يقوم أحدهما مقام الآخر أبداً:

أما وظيفة العلم فهي مجرد الإدراك، ويقين العقل بوجود الله ووحدانيته وعظيم إبداعه لهذا الكون، وأعتقد أننا إن وقفنا عند هذا الحد فلسوف نجد أن معظم الناس مؤمنون ومسلمون باليقين المهيمن في قلوبهم، ولا تستطيع أن تستثني من هذا إلا أولئك الذين اهتزت منهم المدارك والعقول، فسقطت مسؤلياتهم بسبب أنهم لا يملكون في أدمغتهم رشداً وإدراكاً.

أما من عرف حقيقة هذه الدنيا، ومن أكرمه الله عز وجل بشيء من المعرفة وأصولها، فلا بد أن يكون ممن يؤمن في سريرته بالله سبحانه وتعالى، ولكن المهم ليس هذا، ليس المهم أن يدرك الإنسان بعقله أن له صانعاً، وإنما المهم أن يتفاعل كيانه مع هذا الإدراك، وأن يدين بعد هذا اليقين بمعنى العبودية لله عز وجل، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قد وصف المارقين ووصف الكافرين والجاحدين بأنهم مؤمنون ومستيقنون وذلك عندما قال: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً".

وما أكثر الذين يؤمنون اليوم وتستيقن عقولهم بوجود الله عز وجل ووحدانيته، ولكنهم بألسنتهم يستنكرون ويجحدون للسبب ذاته الذي يقوله لنا الله عز وجل، وهو التباهي والعلو واللجوء إلى مقتضيات العصبية في الكيان والذات، وهاهنا يكمن الداء الوبيل فما علاجه؟

علاجه الحب، علاجه أن يوجد في كيان الإنسان معنى محبة العبد لربه وخالقه، ثم أن يتوَّج هذا الحب بالتعظيم لله سبحانه وتعالى، وعندئذٍ يتغلب شعور الحب هذا على دوافع الكبرياء والعصبية والفخار، وتتحطم هذه المشاعر الحيوانية كلها ويتغلب عليها معنى حب العبد لربه وتعظيمه لخالقه، وهذا هو السبيل الأوحد لنجاح الإنسان في الامتحان الذي خلقه الله له في هذه الحياة الدنيا.

إن معنى قوله عز وجل "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" هذا الإبتلاء لا تستطيع أن تؤدي حقوقه بواسطة العلم أبداً، على إن العلم شرطٌ كما قلت لثبوت أركان الإسلام في كيان الإنسان، أما هذا الإبتلاء الذي خلقنا الله عز وجل لنخترق حجبه إلى الله، فلا يمكن أن ينجح الإنسان فيه إلا بسلاح آخر، بعد تحقق العلم، ألا هو حب العبد لربه وخالقه عز وجل.

إن الذين يفقده هؤلاء التائهون عن الله، إن في مشرقنا العربي والإسلامي أو في بقاع الغرب عموماً، هؤلاء الذين تاهوا عن الله لم يتيهوا عنه لأن شرائح العلم قاصرة في حياتهم، ولأن عقولهم لم تدرك وجود الله عز وجل، لا أبداً .. ليس هذا هو السبب، وإنما السبب أن قلوبهم فارغة عن محبة خالقهم ومولاهم، ومن ثم هي فارغة عن تعظيم هذا الخالق سبحانه وتعالى، ولما فرغت أفئدتهم عن محبة الله كان لابد أن تمتلئ بمحبة أشياء أخرى، كان لابد أن تمتلئ بمحبة ما تدعو إليه الغرائز، وما تدعو إليه الأهواء والعصبيات، فهذا هو الذي حجزهم عن الله سبحانه وتعالى.

كثيرون هم أيها الأخوة الذين إن ناقشْتهم أقصوا الحديث معك وقالوا إنهم مؤمنون بالله عز وجل، ولكنك تنظر إلى سلوك أحدهم فتجده غريق آثامه، وتجده ضحية أمواج من الصراعات التي تتناوشه عن يمين ويسار، هي صراعات غرائزه شهواته أهوائه، ربما تجده واحداً من المدمنين، ربما واحداً من السُكارى ربما تجده واحداً من ممن يرعى النوادي الليلية، إذا أقبل الظلام في كل ليلة، وربما تجده واحداً من الذي ابتلاه الله عز وجل بمكائد في التجارة، وأنواع من الغش والخديعة للناس، وهو يعلم أنه مخطئ، وهو يعلم أنه منحرف، العقل معه، والعلم سلاح بيده، ولكن العقل ما أفاده، والعلم ما أفاده، وذلك لأنه افتقد الدواء الذي لابد أن يستعمله بعد ذلك، لأن قلبه فارغ من محبة الله سبحانه وتعالى.

وأنا أعلم أن في أصقاعنا العربية والإسلامية القريبة منا والبعيدة عنا، أناساً كان من الممكن أن يكونوا المثل الأعلى في السلوك الإسلامي كان من الممكن أن يكونوا أساتذة المسلمين في التوجيه إلى الله عز وجل، ولكنك تنظر إلى الواحد منهم فتجده صريع شهواته وأهوائه، تجده غريقاً في إدمانه وفي مسكراته أيضاً، ترى ما السبب وما الدواء؟ السبب ما قد قلته لكم، والدواء هو أن نطرق الباب الذي إذا فتح لنا دخلنا من أرجائه إلى حقيقة محبة العبد لله عز وجل، والذي إن سلكناه وصلنا إلى معنى تعظيم العبد لله سبحانه وتعالى.

وانظروا أيها الأخوة في هذه الآية التي ما رأيت أخطر منها في كتاب الله قط، مما يخاطب الله به المؤمنين - لا الكافرين ولا الجاحدين - ما رأيت أخطر منها قط "قل إن كان آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" هذا الكلام خاطب الله به من أعلنوا إيمانهم بالله عز وجل ذلك لأن الإنسان كثيراً ما يؤمن بالله عن طريق عقله، لكنه يزيغ عن سبيل الله عن طريق قلبه، وتلك هي المصيبة الكبرى.

والابتلاء الأطم والأخطر في هذه الحياة هي أن يملك الإنسان قلبه فيجعله محباً لله عز وجل حتى يستطيع بهذا الحب أن يندفع إلى صراط الله عز وجل، ولا ينحرف إلى الطرق التي تقتنصه الشياطين إليها بواسطة حب آخر.

قليلون هم أيها الأخوة الذين يدركون هذه الثغرة الخطيرة في حياة المسلمين، بل ما أكثر الذين يتفلسفون عن الإسلام وحقائق الإسلام ومبادئ الإسلام والمكفرات في الإسلام والبدع وما يتعلق بالسنة كلاماً عقلانياً جافاً، حتى إذا وصولوا إلى حافة الحديث عن القلب وحب الله وحب الأغيار تقاسر كلامهم، وسكتوا عند ذلك؛ لأنهم ليسوا من هذا الوادي في شيء أبداً، والنتيجة أيها الأخوة أننا ننظر ونجد أناساً .. أما ألسنتهم فتخوض كلاماً عجيباً في وصف الإسلام ودقائقه وحقائقه، وأما سلوكاتهم فأبعد ما يكون عن السير الذي يعبِّر عن حب صاحبه لله عز وجل.

وأنتم ترون هذا التهديد الرباني .. هو ليس تهديداً لعقول تزيغ، لأن العقل لن يزيغ بعد أن يهديه الله أبداً، ولكنه تهديدٌ لأصحاب قلوب جعلوا من أفئدتهم أوعيةً لحب الزوجة، لحب المال، لحب الشهوات لحب العشيرة التي ينتمي إليها أو القوم الذين ينتسب إليهم، لحب التجارة لحب المساكن لحب هذه الأهواء. هذه الآية تتهدد هؤلاء ونحن المعرّضون لهذا كله.

وكأني بكم تسألون فما العلاج؟ وما هو السبيل إلى أن تفيض أفئدتنا حباً لله عز وجل؟

سبيل ذلك بينٌ أيها الأخوة في كتاب الله وفي سنة رسول الله، ولم يكن يوماً ما معقداً أبداً، سبيل ذلك أن تكثر من ذكر الله عز وجل، وأول خطوات الذكر أن يكون قلبك يقظاً إلى مراقبة الله، وكمال الذكر أن يكون لسانك جنداً مع قلبك في مراقبة الله عز وجل، محبة الله تتحقق بأن تتدبر عن طريق ذكره بنعمه وآلائه وعظيم إحسانه وكامل قدرته، وما من إنسان أدرك مدى فضل الله عليه وتبين النعم التي لا تحصى التي تفد إليه كما قال عز وجل، " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ما من إنسان فكر في هذا وأطال التفكير، إلا واتجه قلبه بالحب إلى الله، جبلت النفوس على حب من أحسن إليها.

فإذا راقبت الله وتدبرت صفاته وعشت مع هذه الصفات التي هي صفات الكمال في ذات الله، تُوّج حبك لله بالتعظيم وبالمهابة وبالإجلال، هذا السير على هذا الطريق هو الذي يضمن لك أن يفيض قلبك حباً لله، ومن ثم يطرد هذا الحب حب الآخرين وحب الأغيار، وتكون عندئذٍ ممن قال الله عنهم: "والذين آمنوا أشد حباً لله" أشد حباً لله.

هذا المنهج ما اسمه أيها الأخوة؟ لا تسألني عن الاسم وإنما اسألني عن المسمى، سمه بما شئت، قل هو الطريق الوجداني إلى الله اسم سليم، قل: هو علم السلوك إلى علام الغيوب هو اسم سليم، قل: هو سبيل الإحسان كما سماه جبريل عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. هو اسم صحيح. سمه التصوف كما سماه المتأخرون مادام المسمى هذا هو، فإنها تسمية صحيحة ولا مشاحة في الاصطلاحات، وبالكلام إنما المهم أن تكون خطواتك التي تحقق بواسطتها المسمى سليمة، أن تذكر الله عز وجل وتتخذ لنفسك ورداً من تذكر الله عز وجل، وتكون مظهراً لقوله عز وجل: "واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولاتكن من الغافلين "

اتخذ لنفسك المنهاج إلى ذلك خالياً أو مع أخوة من أصحابك وإخوانك، نفذ ما كان الصحابة يفعلونه عندما كان الواحد منهم يجد نفسه مع ثلة من الصحابة يقول أحدهم: تعالوا بنا نؤمن ساعة، يجلسون ليذكروا الله بأفانين من الذكر لو حدثتكم عن سبلها لضاق الوقت عن ذلك، ولكن إياكم أن تتصوروا أن السبيل إلى هذا مرتبط في هذا العصر بطريق؛ يأخذ البيعة عن طريقه مريد على شيخ، ليس هذا حتماً لذلك أبداً، فما كانت الطرق بمعناها التقليدي المألوف شرطاً للسلوك إلى الله أبداً، ما كان الطريق بمعناه التقليدي ارتباط مريد بشيخ يسلّكه إلى الله عز وجل ما كان ذلك شرطاً لما يسمى بعلم السلوك أو الإحسان أو التصوف بشكل من الأشكال، وما أذكر أنني أخذت طريقاً على شيخ، وكم في الناس ربانيون وصلوا لله عز وجل، وما أخذوا طريقاً على شيخ لا سيما في هذا العصر الذي آلت فيه المشيخة إلى حرفة، وآلت المشيخة فيه إلى وسيلة لطرق باب الدنيا، لا أنت في غنىً عن ذلك كله. اسلك السبيل الذي كان يسلكه أصحاب رسول الله التابعون ومن بعدهم، ولكن إياك أن تترك قلبك هذا وعاءً تتسرب إليه محبة الأغيار، فتهلك عندئذٍ وتكون من شر الهالكين، وإياك أن تصغي إلى من يهولون من شأن هذا الطريق، فلا والله لا يستطيع الإنسان أن يأخذ العبرة من حياة إنسانٍ تفلسف كثيراً في الحديث عن الإسلام، ثم كان هو أول التائهين في السلوك إلا من هؤلاء الذين يحذّرونك عن طرق إن سميناه التصوف فالتصوف أو السلوك فالسلوك أو الإحسان فالإحسان.

انظر إلى أحدهم إنه لقادر أن يفلسف لك الحديث عن الإسلام من الصباح إلى المساء، ولكن انظر بعد ذلك وراقب سلوكه هل تجد له عيناً تدمع خشية من الله، هل تجده يلتجئ إلى الله في ساعة يتيه فيها عن الناس جميعاً ليناجي الله بقلب واجف، وليحدثه بقلب وفؤاد محب، هو أبعد ما يكون عن ذلك، هو أبعد ما يكون عن ذلك، بل أسألك راقبه في بكوره وآصاله وغدوه ورواحه في كل الأوقات هل تجده يمد يده هكذا بتضاؤل وصغار ليدعو، لن تجده يفعل هذا أبداً, هذا هو الإسلام الذي أصبح حديث العقل وأصبح ترجمانه الفلسفة والكلام الذي لا يدفعه إلى سلوك، حتى إذا رأيت وبحثت عن السلوك رأيت الدنيا هي التي تهيمن، ورأيت وسائل كثيرة من أسباب اللهو والابتعاد عن الله سبحانه وتعالى هي التي تتسرب.

ليت شعري لماذا لا يستطيع أولئك المتفلسفون أن يعالجوا الداء الوبيل الذي يستشري في بلادهم، من مدمنات استشرت - وياليت أن التعبير يستطيع أن يضع ويحجم مقدار هذا الاستشراء - لماذا لا يستطيعون أن يعالجوا ذلك؟ لماذا لا يستطيعون أن ينتشلوا شبابهم من وأدة هذه الموبقات؟ لماذا؟

لأن الترجمان أو اللغة التي تنجح في هذا الطريق لا يملكونها، اللغة التي تنجح في هذا السبيل هي لغة القلب لغة الفؤاد الملتاع، لغة الحب. ومن لم يملك هذه اللغة يأتي كلامه ثقيلاً على الأسماع لا يمكن أن يفيد شيئاً، وهذه عبرة كافية، وهذا دليل كاف أيها الأخوة. ولتعلموا أن السبيل الأوحد للدعوة إلى الله أن يملك الإنسان بعد رشده العلمي والعقلي قلباً يتوهج بحب الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، فمن ملك هذا القلب اخترق السدود، ولتعلموا أن السبيل الذي يجمع شمل هذه الأمة أن تكون نبضات الإسلام لا فكراً عقلانياً في الدماغ، وإنما حباً يهيمن على الفؤاد، ولتعلموا أن السبيل الذي يجعل هذه الأمة تعتز بدينها ومن ثم تصبح المثل الأعلى للآخرين، هو هذا الحب الذي تفتقده هذه الأمة، كما قال محمد إقبال في عصر من العصور قال ذلك وهو يتحرق على الإسلام الذي كان يفيض به الشرق في يوم ما كان إسلاماً يتوهج بنار الحب، ولكنه غدا اليوم عبارة عن ثلج بارد لا تترجمه إلا الفلسفات الكلامية. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجدد وقود إسلامنا في أفئدتنا حباً وتعظيماً لله فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي