مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 02/10/1992

ذكر الله يورث الأدب مع عباد الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنني لم أجد فيما بينه لنا الله عزَّ وجل في محكم تبيانه، وفيما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه، دعوة إلى عبادة من العبادات كالدعوة إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، ولم أجد في كتاب الله وفي سنة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما يدل على أهمية ذكر الله عزَّ وجل وتميزه عن سائر العبادات والطاعات الأخرى، ما رأيت شيئاً في كتاب الله عزَّ وجل ولا في سنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم أدل على أهمية الذكر وخطورته بين سائر العبادات والطاعات، وحسبنا من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)، وإن أردنا أن نضيف إلى ذلك فحسبنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي نقلاً عن ربه عزَّ وجل: (أنا جليس من ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملأه)، وأقف قبل ذلك مع آيات في كتاب الله سبحانه وتعالى تلح على العبد المؤمن أن يكون ذاكراً الله عزَّ وجل في كل حال، انظروا إلى قول الله عزَّ وجل: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)، بل انظروا كيف يبين الباري سبحانه وتعالى أن للذكر، ذكر الله عزَّ وجل أثرين قد يبدوان متناقضين ولكن بينهما كمال التناسق فيقول مرة: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، ويقول في مكان آخر وهو يصف المسلمين الصادقين والمؤمنين السائرين على صراط الله بحق وصدق يقول عنهم (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وأول الكلام (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وذلك عندما نزلت آيات جواب عن سؤال سأله بعض الصحابة عن كيفية تقسيم الغنائم، فأنزل الله قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فانظروا كيف أوضح أن الذكر يبعث في القلب الاضطراب والوجل عندما ينبغي أن يكون القلب متصفاً بذلك، وأن الذكر في الوقت ذاته يبعث في القلب السكينة والطمأنينة عندما ينبغي أن يتصف القلب بذلك، أجل لم أجد دعوة إلى طاعة من الطاعات لا في القرآن ولا في السنة كالدعوة إلى الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، ولم أجد ما يدل على أن الذكر هو الدواء الناجع ضد الأدواء كلها التي قد تتسرب إلى كيان الإنسان وتتوضع في قلبه كما يقولون كذكر الله سبحانه وتعالى، ومع هذا فأنا أنظر وأتأمل فأجد أن المسلمين اليوم في شغل شاغل عن ذكر الله عزَّ وجل، وأنا لا أتكلم عن التائهين ولا أتحدث عن الشاردين والفاسقين، وإنما أتكلم عن المقبلين على الله عزَّ وجل بحسب الظاهر، قد تجدهم يتلاقون ويتناقشون في قضايا الإسلام، وقد تجدهم يتجادلون في أحكام هذا الدين، وقد تجدهم يتحدثون عن آيات في كتاب الله يستخرجون منها المعاني والأحكام، وقد تجدونهم يتكلمون عن حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تجدونهم يتحرقون على الأحكام الإسلامية والمجتمع الإسلام أين غاب ولماذا لا يعود؟، ولكن قلَّ ما تجد بين هؤلاء الناس من ينبض قلبه بذكر الله عزَّ وجل غالباً أو دائماً أو من يتعهد قلبه بورد دائم من ذكر الله سبحانه وتعالى، ولما كان حال المسلمين اليوم هكذا، فقد رأينا في واقعهم الذي نتأمله فنراه جلياً نرى الشيء الذي يؤلم والذي يحير الألباب، ألباب من لا يعلمون أهمية هذا الذكر، فانظر فتجد المسلمون بحسب الظاهر يصولون ويجولون ويفورون تحدثاً عن الإسلام وحماسةً لإعادة بنيان الإسلام راسخاً كما كان، ولكنك تجدهم لا يتحركون إلا في أماكنهم، كذلك الذي يتحرك ويراوح في مكانه تماماً، وما أكثر ما رأيت من يسأل ويستشكل كيف أن المسلمين يهتاجون من أجل الإسلام ويتحرقون في سبيل الإسلام، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يوفقهم لتطبيق شيء، ولا يستقدمون خطوة واحدة في الطريق الذي يحلمون به قط، فما السبب ؟؟ السبب أيها الأخوة أن هؤلاء الناس مسلمون بأعضائهم، بمظاهرهم، بألسنتهم، بل بقناعتهم العقلية أيضاً، ولكنهم - وأرجو أن لا أكون مبالغاً ولا متطرفاً في الكلام – غير مسلمين ومؤمنين بقلوبهم التي هي مكمن العواطف والأهواء، أجل، لو أنك نبشت سرائرهم وكشفت عما تحتويه أفئدتهم وقلوبهم، لرأيت أن أفئدة تنطوي على حب للدنيا، على حب للشهوات والأهواء، تنطوي على رغبة عارمة في الزعامة، تنطوي على عصبيات، تنطوي على أحقاد، تنطوي على ضغائن، كل هذا هو الثابت والمستقر في أفئدة كثير منهم، العقل مؤمن ومصدق، ولذلك فإن هذه الأدواء؛ بل مظاهر الزغل هذه التي تكمن في القلب لا تبرز ظاهرة؛ بل تبرز مقنعة ومستورة بغلاف الإسلام، مستورة بغلاف الدعوة إلى الله، فأنا لا أعبر عن حقدي بالتعبير المكشوف الواضح الذي يدل على أن في قلبي مرضاً بل أغلف حقدي بالغيرة على الإسلام، وأغلف عصبيتي بالدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى، هذا المرض مرض خطير وكثير كثير في مجتمعاتنا الإسلامية، ولو أن كل واحد من هؤلاء الناس عاد إلى قلبه وفحص سريرته فحصاً موضوعياً كما يقولون لرأى أن بين عقله المقر بدين الله عزَّ وجل وبين عواطفه المتجهة إلى الدنيا وأهوائها حاجزاً حصيناً، هذا الحاجز الحصين كثفته الأهواء، كثفته الشهوات، كثفته الطبيعة الحيوانية في كيان كل منا، كل منا معرض لهذا، فما الذي يذيب هذه الأمراض والأوباء؟ وما الذي يزيل هذا الحاجز مما بين العقل الذي يؤمن بالله فعلاً والقلب المتجه إلى أهوائه المنحطة الدنيوية المختلفة التي تتنوع إلى أنواع كثيرة ما السبيل؟ لا سبيل إلا الإقبال إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، ذكر الله عز وجل هو الذي يذيب هذه الأدران من القلب، أنا واحد من البشر وأعلم يقيناً أنني إذا نسيت الله عزَّ وجل، ونسيت مراقبته لي، ونسيت وقفتي بين يديه فلسوف أعامل الناس من منطلق الترفع عليهم، من منطلق استغلالهم، من منطلق اتخاذهم جنوداً لأهوائي وشهواتي، وأنا أعلم أنني سأتعامل عندئذٍ مع الناس أياً كانوا طبقاً للعصبية التي أجترها في فؤادي وأحتضنها في فكري ونفسي، ولكن في حالة واحدة أستطيع أن أتحرر من هذا كله، عندما أكثر من ذكر الله عزَّ وجل، ولست أعني - قلتها مراراً - بذكر الله عزَّ وجل ترداد اللسان عندما يكون محجوباً عن الجنان - معاذ الله – وكذلك طبعاً لا أعني بالذكر فرقعة السبحة في اليد، وقد أصبحت السبحة شعاراً استبدل به كثير من المسلمين استبدلوا الذكر به، يمسك أحدنا بالسبحة يتجمل بها، إن سار في طريق سبحته بيده، إن وقف يتكلم سبحته تتدلى من يده، إن جلس في مجلس سبحته في يده يتجمل بها ولسانه أبعد عما يكون عن ذكر الله فضلاً عن أن يكون القلب يلهج بذكر الله عزَّ وجل، ليس هذا ما أعنيه بالذكر، إنما الذي أعني أن يكون القلب يقظاً لمراقبة الله، أن يكون القلب متجهاً إلى صفات الله سبحانه وتعالى وعظمته، هذا الذكر القلبي هو الذي يحيي كوامن توحيد الله عزَّ وجل في الفؤاد، ويطرد كل معاني العصبية، كل معاني الأحقاد والضغائن، كل مظاهر الشهوات والأهواء التي تهيمن على الإنسان عندما يعافس الدنيا ويتعامل معها، أين هم هؤلاء الذاكرين الله عزَّ وجل كثيراً والذاكرات !! أين هم !! انظر وتأمل تجد أكثر من يشتغلون بالدعوة إلى دين الله جعلوا من هذه الدعوة الحركية عوضاً عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ولعل أحدهم إذا عاد إذا منزله أوى إلى فراشه متعباً فإذا ذُكِّر بأن عليه أن يجلس ليذكر الله قليلاً أو يقوم قُبيل الفجر ليذكر الله قليلاً، ربما قال: حسبي أنني قد أتعبت نفسي النهار كله في سبيل دين الله عزَّ وجل، وقد آن لي أن أستريح، كانت النتيجة أيها الأخوة، نتيجة إعراضنا عن أهم ما أمرنا الله عزَّ وجل به من الطاعات - ألا وهو الذكر - أننا في الظاهر دعاة إلى الله، وفي الباطن نحمل قلوباً مليئة بالحقد والضغينة على عباد الله سبحانه وتعالى، هذه هي النتيجة التي آب كل منا إليها، قلت البارحة في درس البارحة في مسجد دنكز قلت: آخر ما وقعت عيني عليه كلام تقشعر له الجلود، تقشعر له جلود كل من آمن بالله وكل من كان في قلبه مثقال ذرة من مراقبة الله ومن الخوف من الله، رأيت من ينعت الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي ألف كتابه المشهور المعروف في شرح صحيح البخاري، الذي ألف كتاب فتح الباري، ينعته بالتذبذب أصح ما يمكن أن يقال فيه أنه متذبذب في عقيدته، كيف أتصور أن مسلماً يقول هذا الكلام؟ ترى لو أن هذا الإنسان راقب الله، وجعل لنفسه حظاً من ذكر الله ساعة في كل أربع وعشرين ساعة، ترى لو أنه جعل لنفسه حظاً من ذكر الله عزَّ وجل ولو حظاً يسيراً أفكانت تتركه مراقبته لله يقول هذا الكلام؟ أفلا يأتي ذكر الله عزَّ وجل لينبهه إلى كلام الله عزَّ وجل في الحديث الصحيح: (من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، أفلا يتصور هذا الإنسان احتمال عشرة في المائة أن يكون الحافظ ابن حجر من أولياء الله عزَّ وجل، غبَّر حياته كلها يخدم دين الله يحفظ حديث رسول الله، ألف أعظم كتاب ترتفع به هامة العالم الإسلامي فخراً، أفلا أتصور أن يكون هذا من أولياء الله عزَّ وجل؟ أنعته بالتذبذب !! عندما أكون ذاكراً الله وعندما أشعر بأن الله يراقبني لا يمكن أن يتحرك لساني بمثل هذا الكلام أبداً، ولا يمكن أن يتحرك قلمي بكتابة هذه الكلمة مطلقاً، ذلك لأن خوفي من الله يمنعني، وخوفي من الله لا يأتي إلا من خلال الإكثار من ذكر الله، ومن مراقبة أن الله يراقبني سبحانه وتعالى، كيف يكون هذا؟ ابن حجر العسقلاني الحافظ صاحب عقيدة متذبذبة، ومن الذي يقول هذا الكلام نجدي يتظاهر في الغيرة على الإسلام، يتظاهر بالدعوة إلى دين الله عزَّ وجل، والله إنني لأقول كما قال المثل العربي (طفَّ الصاع طفَّ الصاع)، بل كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عزَّ وجل قبل ذلك، أجل فلقد طفَّ الصاع طفَّ الصاع، ذكر الله عزَّ وجل نعرض عنه، وإذا ذكرنا بذكر الله حاربناه لكي تكون قلوبنا متجهة إلى أهوائنا، ولكي نكون قادرين على أن نطيل ألسنتنا بالسوء وبقالة السوء بحق السلف الصالح من هذه الأمة، بل ليت أن الأمر وقف عند ابن حجر، لقد كانت قائمة طويلة، أسماء هذه القائمة كلها منيت بالسباب والشتائم، هذا البلاء أيها الأخوة داء، ولا دواء لهذا الداء إلا الإكثار من ذكر الله عزَّ وجل، إلا الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى فاذكروا الله كثيراً وراقبوه كثيراً، إذا ذكرتموه وراقبتموه، أو جعلتم لأنفسكم حظاً من ذكر الله عزَّ وجل في كل يوم وليلة فإن أمرين يتحققان في حياتكم وتشعرون بهما في طوايا أفئدتكم، الأمر الأول: الحب في الله، حب عباد الله سبحانه وتعالى بمجرد أن تجدوا فيهم رائحة التوجه إلى الله، هذه هي النتيجة الأولى، أي أنكم ستكونون ممن صدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه معاذ بن جبل نقلاً عن رب العزة ، (وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ، وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)، هذه هي النتيجة الأولى، النتيجة الثانية للإكثار من ذكر الله عزَّ وجل الأدب مع عباد الله، فمهما رأيت من دواعي الانتقاد، ومهما رأيت من دواعي التقاط العيوب والثغرات فإن الأدب مع الله يجرك إلى الأدب مع عباده، قد تنتقد انتصاراً لبيان الحق، ولكنك تقف عند النقد فقط، ولا يجرك النقد إلى انتقاص لمن تنتقده، لا يجرك إلى سب وشتم لمن تنتقده، لعل الرجل آب إلى الله سبحانه وتعالى تائباً، لعل هذا النقد رأيٌ لك وأنت مخطئ وهو المصيب، ولكنك تجتهد وتدلي باجتهادك، هذا هو أدب الخطاب، وهذا هو أدب التعامل مع عباد الله سبحانه وتعالى، ولكن إذا لم يكن لنا حظ من ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا الحب في سبيل الله، يتحقق من أين يأتي حبي لعباد الله في سبيل الله عزَّ وجل؟ إذا لم يكن فؤادي يحتضن حب الله، إذا لم يكن يحتضن تعظيم الله عزَّ وجل، فهيهات أن ينعكس عن هذا الفؤاد الفارغ حبٌ لعباد الله، أحبهم لمصالحي، أحبهم لأهوائي وشهواتي، وإذا انقلب الأمر انقلب الحب إلى حقد، وهذا ما نراه اليوم.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي