
العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي


فرصة قد لا تعود
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعدُ فيا عبادَ الله:
لئن كانَ شهرُ رمضان المبارك هو خيرُ شهورِ السنةِ على الإطلاق، فإنَّ العشرَ الأخيرَ من هذا الشهر هي أفضلُ أيامِ الشهرِ على الإطلاق، وذلك لأنَّ رحمةَ اللهِ سبحانهُ وتعالى تتضاعفُ في هذهِ الأيامِ لعباده، ولأنَّ اللهَ تعالى أودعَ في هذهِ الليالي ليلةً وصفها اللهُ تعالى بأنها خيرٌ من ألفِ شهر، ألا وهيَ ليلةُ القدرِ كما تعرفون، وليسَ صحيحاً ما يتصورهُ أو ما يتوهّمهُ بعضُ الناس من أنَّ ليلةَ القدرِ محصورةٌ في ليلةِ السابعِ والعشرينَ من هذا الشهر، فهم يحصرونَ احتفالاتهم واحتفاءاتهم بها في هذا الميقاتِ دونَ غيره، بل سئلَ عن ذلكَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فقال: "التمسوها في العشرِ الأخير التمسوها في ليالي الوتر، في ليلةِ واحدٍ و َعشرين، ثلاثٍ وعشرين، خمسٍ وعشرين، سبعٍ وعشرين، تسعٍ وعشرين".
هذهِ الليالي كلها مجالٌ واسع ومدارٌ لاحتمالٍ كبير أن تكونَ كلُّ ليلةٍ منها هيَ ليلةُ القدر، ولعلَّ الحكمة في إخفاءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى هذهِ الليلة وميقاتها من هذا الشهر بل منَ العامِ كله أن يحاولَ الإنسانُ جهدَ استطاعته أن يستغلَّ كلَّ ليلةٍ منَ الليالي التي تمرُّ بعمره، بل كلَّ ساعةٍ منَ الساعاتِ التي ملكهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إياها ليُقبِلَ فيها على اللهِ عزَّ وجلّ، وليصلحَ فيها من شأنه، وليقومَ فيها من اعوجاجه، وليتوبَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ من أيِّ ذنبٍ قد فرطَ منه. تلكَ هيَ الحكمة من إخفاءِ اللهِ سبحانهُ وتعالى ميقاتَ هذهِ الليلة أمامَ العبد بالنسبةِ لا لهذا الشهر فقط بل بالنسبةِ للعامِ كله.
وأحبُّ أن نعلمَ أيها الإخوة أنَّ فضيلةَ ليلةِ القدر، بل إنَّ فضيلةَ أيِّ ليلةٍ منَ الليالي ليست نابعةً من جوهرِ الوقتِ ذاته، وإنما هيَ آتيةٌ من تجلي اللهِ سبحانهُ وتعالى على عبادهِ بالرحمة في وقتٍ دونَ وقت أو في وقتٍ أكثرَ من أوقاتٍ أخرى؛ الأزمنةُ كلها في الأصلِ واحدة بالنسبةِ لجوهرها وبالنسبةِ لحقيقتها العلمية، والأمكنةُ كلها في الأصلِ واحدة بالنسبةِ لجوهرها وماهيّتِها الحقيقية. ولكنَّ المكانَ يشرف بتشريف الله عزَّ وجل له، والزمانُ يشرف بتشريفِ اللهِ سبحانهُ وتعالى له.
وإذا علمنا هذهِ الحقيقة، سُدَّتِ السُّبُلُ أمامَ من يريدونَ أن يستشكلوا أو يثيروا الشبهاتِ أمامَ بعضِ العقول، عندما يسألُ أحدهم: كيفَ يمكن أن نحددَ ليلةَ القدرِ مثلاً ومواقيتُ الأزمنةِ متخالفةٌ متناوبةٌ فوقَ هذهِ الأرض وميقاتُ الليلِ هنا ميقاتُ نهارٍ هناك؟ وكيفَ يمكنُ أن نتصورَ الأمرَ على هذا النحو و الأمرُ جارٍ على هذهِ الحقيقة؟ هذا الإشكال كانَ منَ الممكنِ أن يرسخَ في الذهنِ وأن يكونَ إشكالاً حقيقياً لو أنَّ سرَّ هذهِ الليلة نابعٌ منَ الليلةِ ذاتها، إذاً لقلنا كيفَ وجدَ هذا السرُّ هنا ولم يوجد هناك؟
ولكنَّ الأمرَ كما قلت لكم، تجلٍّ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ على عباده في مواقيتَ متنوعة، ومنَ اليسير أن يتجلى اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادهِ بالرحمةِ في ليلةٍ من ليالي هذا الشهرِ هنا، ويتجلى على عبادهِ في ليلةٍ أخرى من ليالي هذا الشهرِ في أيِّ مكانٍ آخر، وأن يتجلى على عباده بالرحمةِ ذاتها في أيِّ ليلةٍ أخرى في مكانٍ ثالث، والأمرُ كلهُ عائدٌ إلى رحمةِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وإلى مواقيت نثرها بينَ الأزمنة، بل إلى معالم نثرها بينَ الأمكنة ليجعلَ الناسُ من هذهِ المعالمِ الزمنيةِ وهذهِ المعالمِ المكانيةِ فرصاً يقبلونَ فيها إلى اللهِ سبحانهُ وتعالى. معَ العلمِ بأنَّ هذهِ الفرص لا تتناهى، فما من معلمةٍ زمنيةٍ تمر ويغفلُ الإنسانُ عنها إلا ويردفها اللهُ جلت رحمتهُ بمعلمةٍ أخرى ينادي العبد: ألا هلمّ إن كنتَ لم تستطع أن تنتهزَ الفرصةَ التي خلت، فإذا ذهبت الفرصةُ الثانية أعقبتها الرحمةُ الإلهية بفرصةٍ ثالثة، والأمرُ كله عائد إلى أبوابٍ منَ الرحمةِ الإلهية المفتحة أمامَ عبادِ اللهِ جميعاً. وكلُّ عبادِ الله مدعوّون للدخولِ في هذهِ الأبواب إلا من أبى، الذي أبى أن يلجَ هذهِ الأبوابَ الربانية فقد حكمَ على نفسه بالشقاء، وهوَ القاسي في حقِّ ذاته. انهالت عليهِ الرحمةُ الإلهية وطافت بهِ من كلِّ جانب ولكنهُ ابتعدَ عنها، ثمَّ ابتعدَ عنها، ولا يبتعدُ الإنسانُ عن رحمةِ اللهِ عزَّ وجل إلا بعاملٍ واحد هو التكبرُ على اللهِ سبحانهُ وتعالى.
إنني أدعو نفسي وأدعوكم يا عبادَ الله إلى أن ننتهزَ هذهِ الفرص السانحة التي قد لا تعود، قد لا تعودُ لا لأنَّ أبوابَ الرحمةِ الإلهية توصد، ولكن لأنَّ الأجلَ ربما كانَ قد أزف. من منا يدري أنَّ أجلهُ بعيدٌ وبعيد، وأنَّ مزرعةَ عمرهِ يمكن أن تغرسَ فيها فرصٌ كثيرةٌ أخرى؟ من منّا الذي يعلم أنَّ الموتَ لا يكمنُ خلفَ أذنه، و أنَّ بينهُ وبينَ حَينِه ولقائه معَ اللهِ عزَّ وجلَّ ساعات بل ربما دقائق؟
ومن ثمَّ فإنَّ على الإنسان إذا وجدَ أمامهُ فرصةً سانحة، وأبواباً من رحمةِ اللهِ مفتّحة، عليهِ أن ينتهزَ هذهِ الفرص وهوَ يفترضُ أنها ربما كانت آخرَ فرصةٍ في حياته.
هذا شيء، وشيءٌ آخر ينبغي أن أذكرَ نفسي وأذكركم به هوَ الشعيرةُ الكبرى لهذا الشهرِ المبارك، هيَ الشعيرةُ الكبرى بالنسبةِ لأجرها وبالنسبةِ لأهميتها في ديننا الإسلاميِّ الحنيف، ولكنّها شعيرةٌ صغيرة بالنسبةِ لكلفتها وبالنسبةِ للجهد الذي ينبغي للإنسانِ أن يبذلهُ في سبيله، إنها شعيرةُ زكاةِ الفطر، شيءٌ افترضهُ اللهُ سبحانهُ و تعالى على الناس، وعلّقها اللهُ عزَّ و جلَّ في رقابِ الناسِ جميعاً. فأما المستقلُّ بأمرِ نفسهِ فهوَ مسؤولٌ عن إخراجها بذاته. وأما من كانت مسؤوليّتهُ عائدةً إلى من أمرهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بالإنفاقِ عليهِ والولاية، هو الذي يُكَلَّفُ بإخراجها عنه، هو من كلّفهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى بالإنفاقِ عليه. وإذاً، فهذهِ الشّعيرةُ منوطةٌ بعنقِ النّاسِ جميعاً، ويسترُّ وجوبُها بمغيبِ شمسِ آخرِ يومٍ من أيّامِ شهرِ رمضانَ المبارك. ولكنَّ الإنسانَ يملكُ أن يخرجَها بدءاً من أوّلِ الشّهرِ إلى صباحِ عيدِ الفطر.
زكاةُ الفطرِ هذهِ هي في الأصلِ عبارةٌ عن صاعٍ من غالبِ قوتِ البلد، وأنتم تعلمونَ أنَّ غالبَ قوتِ البلدِ عندنا هوَ البُرّ، والصّاعُ عبارةٌ تقريباً عن أربعِ حفَناتٍ كبير، وإذا قدّرنا هذهِ الحفناتِ الأربعَ بالوزنِ فهيَ لا تزيدُ عن ألفي غرام. فانظروا يا عبادَ اللهِ إلى قيمةِ ألفي غرامٍ من البُرِّ كم هيَ؟ تلكَ هي زكاةُ الفطرِ التي افترضها اللهُ سبحانهُ وتعالى على كلٍّ منّا ممّن يستقلُّ بأمرِ نفسه. وفرضَها اللهُ عزَّ وجلَّ علينا لكلِّ من وكلَ اللهُ إلينا أمرَ الإنفاقِ عليه.
إذاً، الأصلُ أن يخرجَ الإنسانُ هذا القوت. ولكن قالَ العلماء، أو قالَ كثيرٌ منهم: إذا كانتِ المنفعةُ للفقيرِ كاملةً في قيمةِ هذا القوتِ فليكن إخراجُ زكاةِ الفطرِ منَ القيمة، أي من أحدِ النّقدينِ أو ما يقومُ مقامه.
ومن عجبٍ أنّني أسمعُ في هذا العامِ سؤالاً يتكرّرُ لم أسمعهُ في السّنواتِ الماضيةِ من قبل: هل يجوزُ إخراجُ زكاةِ الفطرِ متاعاً من الأمتعة؟ صاحبُ المكتبِ يقترحُ أن يُخرجَ كتباً يوزّعُها كزكاةِ فطر، وصاحبُ محلٍّ تجاريٍّ يبيعُ فيهِ الأقمشةَ يتمنّى أو يقترحُ أن لو جازَ أن يخرجَ أقمشةً كزكاةِ فطر، هذهِ الأسئلةُ تنمُّ عن رغبةٍ في التّحايلِ على دينِ اللهِ عزَّ وجلَّ. زكاةُ الفطرِ متعلّقةٌ في الأصلِ بغالبِ قوتِ البلد، ينبغي إخراجُ هذا القوت. ولكنَّ الضّرورةَ اقتضت في عصرنا هذا أن نستبدلَ بالقوتِ ثمنه، والثّمنُ هو القيمة ولا شيءَ غيرُ القيمة. ينبغي أن نعلمَ هذهِ الحقيقةَ يا عبادَ الله.
والمعنى الكبيرُ الذي ينبغي أن ننتبهَ إليهِ من هذهِ الشّعيرةِ التي افترضها اللهُ عزَّ وجلَّ علينا بل شرّفنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها: هو التّضامنُ الاجتماعيُّ الذي هو من الأوامرِ الإلهيّة. هذهِ الأوامرُ الإلهيّةُ على اختلافها تصبُّ في هدفٍ واحد: أن يكونَ المجتمعُ الإسلاميُّ مجتمعاً متضامناً متكافلاً، وأن يتحمّلَ بعضهم مسؤوليّةَ بعض. ولقد ابتلى اللهُ سبحانهُ وتعالى عبادهُ بثغراتٍ من أجلِ أن ينظرَ إليهم هل ينهضونَ إلى سدِّ هذهِ الثّغرة؟ أم إنّهم يتقاعسونَ ويعرضونَ ويحصرونَ أنفسهم منَ الإسلامِ في ركعات، أو في تسبيحاتٍ وصلوات؟ هذا المعنى ينبغي أن ندركه.
وينبغي أن نعلمَ جيّداً أنّهُ لا يمكنُ أن يتسرَّبَ جوع إلى المجتمعِ الإسلاميّ، ولا يمكنُ أن يتسرَّبَ إليهِ فقرٌ إلا بتقصيرٍ فرطَ من كثيرٍ من المسلمينَ الذينَ كلّفهم اللهُ بأوامرَ محدّدةٍ فتقاعسوا عن هذه الأوامر. ألم تسمعوا قولَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "إنَّ اللهَ جعلَ في مالِ الأغنياءِ بالقدرِ الذي يسعُ فقراءه، ولن يُجهَدَ الفقراءُ إذا جاعوا أو عروا إلا بما يفعلُ أغنياؤهم، وإنَّ اللهَ محاسبهم على ذلكَ فمعذّبهم عذاباً كبيراً".
ومرّةً أخرى وأخرى أجدُني مضطرّاً إلى القول: أسألُ عن أعدادِ الجمعيّاتِ الخيريّة: فلا أرها إلا في تزايد، عشراتُ الجمعيّاتِ الخيريّة. وأسألُ عن أعمالِ هذهِ الجمعيّاتِ الخيريّةِ وآثارِها في هذهِ البلدة: فلا أرى من هذهِ الآثارِ شيئاً، بل لعلّي لا أرى من آثارِها إلا النّذرَ اليسير. جمعيّاتٌ خيريّة تضعُ أيديها على أموالٍ وفيرةٍ وكثيرة، ماذا تصنعُ بهذهِ الأموال؟ ولماذا لا نجدُ هذهِ الجمعيّاتِ تمتصُّ الفقرَ والفقراءَ الذينَ يطرقونَ كلَّ بابٍ إلا أبوابَ هذهِ الجمعيّات؟ ويسألونَ النّجدةَ أمامَ كلِّ مظنّةِ خيرٍ إلا أمامَ هؤلاءِ النّاس؟ ونسألهم: لماذا لا تذهبونَ إلى هذهِ الجمعيّات؟ هم المكلّفونَ بكم، هم القائمونَ على أمركم، هم المتفرّغونَ لشؤونكم، أموالُكم بينَ أيديهم. وتأتينا الشّكوى أنّهم لا يلتفتونَ إليهم قَطّ، وأنّهم عندَ الشّدّةِ وعندَ الإكثارِ عليهم والضّغطِ الشّديدِ يعطونهمُ النّذرَ اليسيرَ كما يعطي الإنسانُ لقيمةً من أجلِ أن يسكتَ إنساناً يلاحقهُ بالسّؤال.
فالشّكوى إلى اللهِ أوّلاً من هذا الواقعِ المرير، والنّصيحةُ إلى هذهِ الجمعيّاتِ ثانياً أن يتّقوا اللهَ وأن لا ينيموا أموالَ عبادِ اللهِ بينَ أيديهم، ولا في أدراجِ بُنوك. ليتّقوا الله، وليسدّوا بهذهِ الأموالِ وإن كانَ ذلكَ بينَ عشيّةٍ وضُحاها، ليسدّوا بهذهِ الأموالِ الثّغراتِ وما أكثرها وما أخطرها.
ثغراتُ الفقر: متمثّلاً في جوعٍ وسَغَب، متمثّلاً في حاجةٍ ماسّةٍ إلى سكن، متمثّلاً في حاجةٍ ماسّةٍ إلى زواج، متمثّلاً في حاجةٍ ماسّةٍ إلى استشفاءٍ من أمراض. أينَ هؤلاءِ النّاسِ من هؤلاءِ الفقراءِ الذينَ ترتفعُ شَكَاتُهم إلى السّماءِ ولا مجيبَ لهم؟ أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ، فاستغفروهُ يغفر لكم.