مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 16/06/1989

من هو أغنى الناس؟

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

هل علمتم من هو أغنى النّاس؟ كثيرونَ هم السُّذّجُ الذينَ يتصوّرون أنَّ أغنى النّاسِ من وضعَ يدهُ على كنوزٍ من المال، أو ارتقى فتبوّءَ عرشاً من العزّةِ والسّلطان.

ولكن لو تأمّلَ الإنسانُ بعقل، وأدركَ بوعيٍ وفكرٍ لعلمَ أنَّ أغنى النّاسِ غنىً هوَ من عرفَ ربّهُ فلاذَ بهِ في كلِّ حال، والتجأَ إليهِ في كلِّ الظّروفِ والأحوال، هذا هو أغنى النّاس، وهذا هو أعلى النّاسِ درجةً وشأناً.

الإنسانُ في واقعهِ وفي حقيقةِ أمرهِ فقيرٌ لا يمكنُ أن يتحوَّلَ إلى غنيّ، لأنَّ ذاتَ الإنسانِ قائمٌ على معنى العبوديّة، والعبوديّةُ مظهرٌ من مظاهرِ الفقرِ بينهما تلازمٌ دائم، فالعبدُ دائماً فقير، والفقيرُ الـمُطلَقُ عبدٌ دائماً، ولكنَّ هذا الإنسانَ الفقيرَ يتحوّلُ بينَ النّاس وبالنّسبةِ إليهم إلى أغنى الأغنياء عندما يعرفُ ربّه، وعندما يمدُّ بينهُ وبينَ ربّهِ جسوراً من الالتجاءِ ومنَ الطّلبِ والرّجاء، هذا الإنسانُ هو الذي يصدقُ عليهِ قولُ اللهِ عزَّ وجلّ: ((ذلكَ بأنَّ اللهَ مولى الذينَ آمنوا وأنَّ الكافرينَ لا مولى لهم)).

لو أنَّ الإنسانَ وقفَ عندَ هذه الآيةِ بدقّةٍ ودراية ثمَّ نظرَ إلى نفسهِ فوجدَ أنَّ اللهَ أكرمهُ بأن عرّفهُ على ذاتهِ العليّةِ لرقصَ فرحاً ولسَكِرَ طرباً، ولأصابهُ ما أصابَ عُتبةَ الغلام يومَ رأتهُ رابعة وهو طَرِبٌ جذلان، قد أخذَ منهُ الطّربُ مأخذهُ في الطّريق، قالت لهُ رابعةُ: ما بالُكَ يا عتبة؟ ما الذي حصل؟ قالَ لها: كيفَ لا أفرح وكيفَ لا أطرَب وقد نسبنيَ اللهُ إلى ذاته، فأصبحَ مولايَ وأصبحتُ عبداً له؟ هذا هو الغنيّ، هذا هو الغنيُّ الذي يمكنُ أن يُشارَ إليهِ بالبنانِ بمعنى الغِنى الحقيقيّ. من الذي يغنيكَ من فقرٍ غيرُ الله؟ من الذي يكشفُ عنكَ الضُّرَّ غيرُ الله؟ من الذي إذا ابتُليتَ بألمٍ وضيقٍ في الصّدر كشفَ ذلكَ كلّهُ عنكَ غيرُ الله؟ من الذي أضحكَ وأبكى غيرُ الله؟ من الذي أماتَ وأحيا غيرُ الله؟ من الذي إذا مرضتَ عافاكَ من كلِّ الأسقامِ والآلام غيرُ الله؟

فإذا عُذتَ بهذا الإله، وإذا انتسبتَ إليه وصحّت نسبةُ عبوديّتُكَ له، تحوّلتَ من أفقرِ الفقراءِ إلى أغنى الأغنياء.

وعندما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ: ((يا أيّها النّاسُ أنتمُ الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد))، ألمحَ البيانُ الإلهيُّ في هذه الآيةِ العجيبةِ العظيمة إلى النّافذة الوحيدة التي يتخلّصُ بها الإنسانُ من الفقرِ وينتقلُ إلى الغنى، ما هي؟ هي أن تلوذَ بالغنيِّ المطلق، هي أن تنتسبَ إلى هذا الغنيِّ الـمُطلق، إذا مددتَ يديكَ لا تمدّهما إلا إلى هذا الغنيِّ الـمُطلق، إذا وضعتَ الأملَ بينَ جوانحك لا تمدُّ جسورَ الأملِ من قلبكَ إلا إلى هذا الغنيِّ الـمُطلق، إذا فاضَ قلبُكَ حبّاً ما ينبغي أن يسريَ هذا الحبّ إلا للغنيِّ الـمُطلَق، إذا شعرَ قلبُكَ بخوفٍ ورعبٍ ما ينبغي أن تكونَ جذورُ هذه المخافةِ إلا من الغنيِّ الـمُطلَق.

هذه كلماتٌ لا أراني بحاجةٍ إلى شرحٍ لها. واللبيب يدركُ أبعادَ كلِّ ما أقول، ويَسعَدُ بالتّحقّق من معاني ما أقول.

أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يجعَلَنا ممّن صحّت نسبةُ عبوديّتهم إليه، وأن يدخلنا بكرمهِ وجوده في هذا الفريقِ الذي قالَ عنهم: ((ذلكَ بأنَّ اللهَ مولى الذينَ آمنوا)). وأن لا يجعلنا ممّن قالَ عنهم بعدَ ذلك: ((وأنَّ الكافرينَ لا مولى لهم)).

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ فاستغفروه...

تحميل



تشغيل

صوتي