مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 05/06/1987

العصبية .. آفّة تتربص بالعلم والدين

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أمَّا بعدُ.. فيا عبادَ الله:

حدَّثتكم في الأسبوع الماضي عن الآفةِ الكبيرةِ التي تتربَّصُ بالعِلمِ وتتربَّصُ بالدّين .. ألا وهي آفةُ الهوى، وإذا ذُكِرَ الهوى فلابدَّ أن يتذكَّرَ الإنسانُ العصبيّة .. فهما شقيقان، بل هما توأمان في التربّصِ بالعلمِ والدّين، وفي أنَّ كلاً منهما آفةٌ أخطرُ من الأولى، تقفُ في وجهِ التمسُّكِ بالدِّينِ الحق، كما تقفُ في وجهِ التمسّكِ بقواعدِ العلم، كما تفوِّتُ على الإنسانِ إخلاصهُ لوجهِ اللهِ سبحانهُ وتعالى، وإذ قد تكلمنا عنِ الهوى وآفاتهِ وخطورته، فلنتكلم بعد ذلك عن العصبيّةِ وخطورتها، عسى اللهُ أن يحجزنا عن أخطارِ كلٍّ منهما، وعسى اللهُ عزَّ وجلَّ أن يرزقنا بصيرةَ قلبٍ تبعدنا عن مطارح الهوى وعن منزلقات العصبيّة.

العصبيّةُ: هي أن ينتصرَ الإنسانُ لجماعتهِ أو قومه، أو قبيلتهِ، أو عشيرته، أو مذهبهِ الذي ينتمي إليه، أو شيخهِ الذي يأخذُ منه، غيرَ مبالٍ في ذلك بأن يتنكَّب عن الحق، وأن يبتعدَ عن نبراسِ العلمِ وضيائه، تلكم هيَ العصبيّةُ التي بُعِثَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمحاربتها، ولتحريرِ الإنسانِ من غوائلها، بل تلكم هي العصبيّة التي أوذيَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم سنواتِ دعوتهِ الطويلةِ من أجلها، وتلكم هي العصبيّة، التي نبَّهَ القرآنُ إلى ضرورةِ الترفُّعِ فوقها، وأخذِ الحِذرِ منها، وهي التي نوَّهَ القرآنُ بها مراراً وتكراراً، وذلكَ في مثلِ قولهِ عزَّ وجلّ:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ). وفي مثلِ قولهِ عزَّ وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِير). هذهِ العصبيّةُ يا عبادَ الله هي الآفةُ الثانية، التي تتربّص بإيمان المؤمنين، والتي تحجب الإنسان عن معرفة الحق، وتضعُ العصائب على العقل، فلا يفرقُ بينَ حقٍّ وباطل، ثمَّ إنها الآفة التي تحجب الإنسان عن الوصول إلى لذة الإخلاص لوجهِ اللهِ عزَّ وجلّ، إذ كيفَ يخلصُ هذا الإنسان لوجهِ ربِّه؟ وقد منحَ قلبَهُ وإخلاصه للجماعةِ التي يتعصّبُ لها؟ سواءٌ _ كما قلت لكم _ كانت هذه الجماعةُ قبيلةً يعتزُّ بها، أو قوماً يتباهى بهم، أو أهلَ ملّةٍ ومذهبٍ يشدُّ أوصِرتهُ بالانتسابِ إليهم، أو شيخاً يتباهى بالانتسابِ إليه، غيرَ مبالٍ في هذا الاتباع أن يبتعد عن طريق الحق، وأن يخاصم العلم، وأن يخاصم موازين المنطق، ومنهج كتاب الله سبحانه وتعالى وسنّة رسوله.

وهذه العصبيّة يا عباد الله، فرعٌ من الكبر الدنيء. فهو نوعٌ من أنواع الكبر.والكبرُ نوعان اثنان:

كبرٌ أساسه الأنانية الفرديّة، إذ يرى الإنسان من خلاله ذاته فوق كل شيء، هذا هو النوع الأول من الكبر "الأنانيّة الفردية".

النّوعُ الثاني: "الأنانية الجماعيّة". أن يتباهى الإنسان ولكن لا بشخصه المفرد، وإنما يتباهى بنسبته إلى القوم الذي هو منهم. الجماعة الذي هو عضوٌ فيهم، الفئة التي تنامت عصبيّته بالارتباط بها، فهذا نوعٌ من أنواع الكبر والأنانية، إلا أنها أنانيةٌ جماعيّة وليست أنانيّةً فرديّة، فالشخص المفرد الذي لا ينتمي إلى أحدٍ من الناس إن تكبّر فكبرياؤه في ذاته، وتعاليه على الآخرين بشخصه، وذلكم هو شأن الفراعنة ومنهم فرعون موسى الذي ذهب به الكبر مذهباً قال فيه للناس: "أنا ربكم الأعلى"، تلك هي الأنانية الفردية.

أما العصبية فهي نوعٌ آخر خطير من الكبر .. ولكنه لا يتمثل في أنانية الفرد في ذاته ..

إنها الأنانية التي يتباهى الإنسان بها إذ ينتسب إلى قوم فئة، إلى جماعة، إلى نِحلة، إلى مذهب، إلى شيخٍ من الشيوخ، وإذا كان هذا الإنسان المنتمي إلى هذه الجهة ينتمي إليها بناءً على بصيرة العلم وبناءً على دلائل الحق؛ فإن هذا الإنسان في حقيقة أمره متِّبعٌ للحق، وليس متعصّباً لقوم، ذلك لأن هذا الإنسان إن رأى ذات يومٍ أن ميزان الحق يدعوه إلى الانصراف عن هذه الجماعة وإلى الابتعاد عنها، لم يتردد في أن يستجيب لميزان الحق. فهذا ليس متعصّباً وإنما هو متبع للحق.

أما المتعصب الذي نتكلم عنه ونسأل الله عز وجل أن يعافينا من آفة هذا البلاء الخطير، فهو ذاك الذي يجعل انتماءه للجماعة بديلاً عن انتمائه للحق. بديلاً عن تمسكه بميزان العلم ومعرفته، ومن هنا تأتي الخطورة، وهذا ما فعله المشركون عندما بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كانوا يتعصبون لآبائهم وأجدادهم، الذين كانوا يعبدون الأصنام ويشركون بالله عز وجل بشكلٍ لا يقرّهُ عقلٌ ولا منطق، فلمّا نبّههم رسولنا صلى الله عليه وسلّم إلى الحق ونبَّههم إلى قرار العقل وموازين المنطق والعلم. ماذا كان مصيرهم؟

وجدوا أنفسهم على مفترق طرق، إمّا أن يتبعوا الحق ويتحرروا من العصبية المقيتة، ويتمسكوا بالحق الذي لا ثاني له. وإمّا أن يركبوا رؤوسهم في التعصّب لآبائهم وأجدادهم وإن اقتضاهم ذلك أن يسحقوا العلم والحق وقرار العقل تحت أقدامهم. وهذا ما فعلوه؛ ولذلك نعى الله عز وجل عليهم تلك العصبية الشنعاء وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)، وهم الذين عناهم البيان الإلهي في قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).

يا عجباً ... ما هو هذا الشعور الغلّاب الذي يتغلب على العقل فيحجبه عن صاحبه، ويتغلب على نور البصر فيصبح البصر وكأنه قد عشي وعمي، ويتغلب على قوة السمع فلا تعود الأذن تسمع. ما هي هذه القوة العجيبة؟ إنها العصبيّة.

العصبيّة التي تشلُّ فاعليّةَ العقل، وتشلُّ فاعليّةَ السمع، وتشلُّ فاعليّةَ البصر .. فيغدوا هذا الإنسان وهو لا يسبّح إلا بحمد من يتعصَّبُ له.

قد تجد هذه العصبيّة مقنّعةً بأقنعةٍ شتّى ... قد تجدها مقنّعةً بقناع القوم، وقد تجدها بقناع الانتصار للعشيرة، وقد تجدها مقنعةً بقناع الدين ذاته، وهذا أمرٌ خطيرٌ جداً، يقنّعُ عصبيّتهُ بالدين ولكنه لو تنبّه إلى ذاته لرأى نفسه يحارِب الدين بقناع الدين ذاته، يقنّعُ عصبيّته باسم الدين، ثمَّ إذا ذُكِّرَ بموازين الدين - وليسَ للدين سوى ميزان واحد - هو العلم، أعرضَ عن العلم.

إذا ذكِّرَ بكتاب الله وبسنّةِ رسول الله عليه صلى الله وسلم، لوى الرأسَ معرضاً عن كتاب الله وعن سنّة رسول الله؛ يفضّلُ على ذلك عصبيّته .. وهكذا فهو يقنّعُ عصبيّته ربّما باسم الدين.. ثمَّ إنه يند عن الدين بهذه العصبيَّةِ ذاتها...

ولحكمةٍ بالغة نزل البيان الإلهي عامّاً يشمل حتى الدين ذاته يقول فيه ربنا جلَّ جلاله:

(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

ولكم وقفتُ يا عبادَ الله أمامَ كلمةِ "ما" أداةِ العمومِ هذه، ولا تقفُ: أي لا تتبع شيئاً ما لم يدلك العلم على أنه الحق، أرأيتم كيف أن الدين ذاته دخل في هذا العموم، أرأيتم كيف أن العقائد الدينية ذاتها كيف دخلت بهذا العموم، أرأيتم كيف يحرر كتاب الله عقل الإنسان من التبعيّة، ويصعدُ به إلى سدّة الفكر الإنسانيّ العقليّ الكامل المطلق؟

معنى هذا الكلام، أنَّكَ إن تمسَّكتَ بالدين فلا تتمسّك به عن عصبيّةٍ عمياء، فربّما أضلَّتكَ هذه العصبيّة، لا تتمسّك به في عقائده الأساسيّة عن تقليد، لأنَّ هذا التقليد ربَّما أتلفك وأهلكك، ولكن انظر إلى ميزانِ العلم الذي متّعك الله به وأكرمك به، فسر وراءَ قرارِ العلم، وإن غُمَّ عليك السّبيل ولم تعلم حقائق العلم، فدونك كتاب الله فكتاب الله هو النبراس لمن لم يكن يعلم من حقائق العلم شيئاً، وإن رأيت أن كتاب الله في عموماته لا تفقهه كما ينبغي، فدونك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضعُ لك النقاطَ على حروفها وتشرحُ لكَ الغوامضَ وتبيّنُ لك المجملَ والموجز .. هكذا يأمرنا ربُّنا سبحانه وتعالى..

ولو التفتنا إلى آفة المجتمعات الإنسانية، تلك التي تمزق المسلمين فئاتٍ شتّى وتنبّهنا إليها لرأينا أن السكين التي تمزق جسم المجتمع الإسلامي إنما يتمثل في سلاحين اثنين:

إما أن يكون سلاح الهوى، أو سلاح العصبية .. ولن تجد سلاحاً ثالثاً أو سكيناً ثالثةً تمزق وحدة المسلمين في أي عصرٍ من العصور...

انظر إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بُعِثَ فيه والعرب فئاتٌ شتّى تتخاصم وتتعارك. ما الذي كان يدعو إلى هذا الخصام؟ العصبية والهوى.

عندما اتحد شمل هذه الأمة وأصبحت كالجسد الواحد فعلاً.. كيف تمَّ ذلك؟

لـمَّا نجحت هذه الأمة في أن تتخلى عن عصبيتها وتتخلى عن أهوائها وتتحرر إلا من العقل والعلم. اتحدت.

فلمَّا عاد هذا الوباء مرَّةً ثانية، وباء الأهواء ووباء العصبية يفعل فعله في الأفكار والنفوس، عادت الأمة الواحدة أمماً شتَّى وعادوا فئاتٍ متخاصمةً متهارجة، وكان بوسعهم أن يظلوا متحدين، أن يظلوا متآخين، متسالمين. لو أنهم أووا إلى عقولهم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا من حرارة الإخلاص لدين الله ما يذيب وباء هذه العصبية وذلك الهوى .. وأن يجعلنا من الصادقين كما أمر فاستغفروه يغفر لكم.

تحميل



تشغيل

صوتي