مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 07/06/1985

نشاطنا المعكوس ما بين أوَّلِ شهرِ رمضان وآخره

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

إنَّ من عادةِ أكثرِ الناس، أنَّهُ إذا دخلَ شهرُ رمضانَ المبارك، هُرِعُوا إلى المساجد، وأقبلوا نشيطينَ إلى صلاةِ التَّراويح، و استأنسوا بهذا الشهرِ وقدومه، واتَّجهوا للقيامِ بحقّهِ على خيرِ وجه، حتَّى إذا مرَّ من هذا الشهرِ أسبوعٌ أو أسبوعان، فترَ النَّشاط، وتناقصَ الإقبال، وتنظرُ إلى المساجدِ التي كانت مكتظَّةً بالمصلِّينَ والقائمينَ في أوَّلِ الشّهر، وإذا بها قد أصبحت فارغةً إلا من نصفِ الذين كانوا يملؤونها، وإذا مضى الأسبوعُ الثّالث، وكادَ أن يدخلَ العشرُ الأخير، رأيتَ أكثرَ المساجد، وقد كادت أن تصبحَ فارغة، أينَ ذلكَ النشاط؟ وأينَ ذلكَ الإقبال؟ وذلكَ الاستئناسُ بإقبالِ شهرِ رمضان؟ أينَ هذا مما سمعناهُ عن المصطفى عليهِ الصلاةُ والسلام؟ ومن وصفهِ لهذا الشهرِ المبارك؟

كان النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلام فيما صحَّ عنهُ أجودَ الناس، وكانَ أجودَ ما يكونُ في شهرِ رمضان، وكانَ أجودَ ما يكون في العشرِ الأخيرِ من هذا الشهر، كانَ عطاؤهُ عليهِ الصلاةُ والسلام كالريحِ المرسلة، في هذه الأيامِ التي تفدُ إلينا، وقد صحَّ عنهُ عليهِ الصلاةُ والسلام أنهُ كانَ إذا دخلَ العشرُ الأخيرُ من هذا الشهرِ المبارك، طوى الفراش، وشدَّ المئزر، ولازمَ المسجد، وابتعدَ عن الدنيا وأسبابها، وكان يقولُ فيما يرويهِ الشيخان: "التمسوا ليلة القدر في العشرِ الأخيرِ من شهرِ رمضان، في ليلةِ إحدى وعشرين، أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمسٍ وعشرين، أو تسعٍ وعشرين، أو آخرِ ليلةٍ من ليالي رمضان"، وكان يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلام: "من قامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ من ذنوبه، مهما كانت ذنوبُه"، روى ذلكَ الشيخان، البخاريُّ ومسلم.

قارنوا يا عبادَ اللهِ بينَ واقعنا، نشاطنا المعكوس ما بين أوَّلِ هذا الشهرِ وآخره، وبينَ وصيَّةِ المصطفى عليهِ الصلاةُ والسلام وعمله، علامَ يدلُّ واقعُنا الذي وصفتْ؟

إنهُ إن دلَّ على شيء، فإنما يدلّ على أنَّ إقبالنا إلى المساجد، وسعيَنا لقيامِ ليالي رمضان، إنما هو من قبيلِ إمتاعِ النفسِ بشيءٍ جديد، ومن قبيلِ نشاطٍ نفسيٍّ لا استجابةٍ قلبيّةٍ للهِ عزَّ وجل.

شهرٌ جديد، لهُ طابعٌ معيّن، ولهُ تقاليدُ معروفة، والناسُ يحبُّونَ الجديد، ولذلكَ تجدهم شباباً وشيباً وأطفالاً يهرعونَ إلى المساجد، وتغصُّ بهم المساجد، ويرى الإنسانُ هذه الحال فيأملُ خيراً، ويتفاءَلُ بالكثيرِ من رحمةِ اللهِ عزَّ وجل، ولكن عندما تأتي الأيامُ الفضلى من هذا الشهر، وعندما تأتي تلك الليالي التي ينبغي أن يتعرَّضَ الإنسانُ فيها لرحمةِ اللهِ عزَّ وجل، إذ تتضاعفُ فيها الرحمة، فلئن كان في كلِّ ليلةٍ عددٌ كبيرٌ من العتقاءِ يعتقهمُ اللهُ منَ النيرانِ في شهر رمضان، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يعتقُ في ليالي العشرِ الأخير بمقدارِ ما أعتقَ في تلكَ الليالي المدبراتِ كلّها.

كيفَ يرضى المسلم أن يقبلَ في أوائلِ هذا الشهرِ نشيطاً مستأنساً إلى المساجد، ثمَّ يعلن بواقع حالهِ عن ملله وسآمته، فيتركُ صلاةَ التراويح، ويتركُ حضورَ الجماعات، ويتركُ ما كانَ مشتغلاً بهِ مقبلاً إليهِ منَ الطّاعات؟ ربّما كانَ يقبلُ على تلاوةِ القرآنِ بهمّةٍ في العشرِ الأوّلِ من هذا الشهر، فإذا انتصفَ الشهر، ترك أو تناقصَ إقبالهُ على التلاوة، أخشى أن يكون هذا دليلاً على أنَّ أعمالنا غيرُ صادقة، وأننا لا نبتغي بها وجهَ اللهِ عزَّ وجلّ، وأنَّ الهوى هو الذي يسوقُنا، وأنَّهُ هو قائدُنا، أخشى أن يكونَ الأمرُ كذلك، وعلى الإنسانِ أن يمحص نيّته، والإنسانُ كما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ عنه: ((بلِ الإنسانُ على نفسهِ بصيرة * ولو ألقى معاذيره)).

عبادَ الله: إنني أوصيكم وأوصي نفسي، بأن نضاعفَ من نشاطنا فيما تبقى من هذا الشهر، وأن نضاعفَ من إقبالنا على اللهِ عزَّ وجلّ في الليالي المتبقّيةِ منه، إن كانَ إقبالنا على الطاعات فلنضاعف ذلك بدلاً من أن ننقصَ هذا الإقبال، وإن كانَ ابتعاداً عن المحرماتِ والمكروهات، فلنحمل أنفسنا على مزيدٍ من الشدّةِ في هذه الأيّامِ والليالي المتبقّية، لا تَدَعُوا صلاةَ التراويحِ لسأمةٍ أو ملل، أذكرُ في أوائلِ هذا الشهر، أنَّ مسجدكم هذا كانَ يمتلئ بالمصلين، لا صلاة العشاء بل صلاة التراويح، أما اليوم فأنظرُ إلى الثابتين في صلاةِ التراويح، فلا أجدُ منهم إلا الثلث، والثلثُ كثير، لماذا هذه الظاهرة؟ لماذا هذا الزهد؟ رسولكم المصطفى عليه الصلاةُ والسلام، كان إذا أقبلَ العشرُ الأخيرُ يضاعفُ من طاعاته، يضاعفُ من جهوده، يضاعفُ من كلِّ خيرٍ يوفّقهُ اللهُ عزَّ وجلّ له، وأنتم تُدبرونَ وتنقصونَ وتعكسونَ ما كانَ يفعلهُ نبيّكم عليهِ الصلاةُ والسلام.

ليلةُ القدر، وحسبكم منها ما قالهُ اللهُ عزَّ وجلّ عنها في محكمِ تبيانه: ((إنا أنزلناهُ في ليلةِ القدر * وما أدراكَ ما ليلةُ القدر * ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر * تنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذنِ ربهم من كلِّ أمر * سلامٌ هي حتّى مطلعِ الفجر)).

خصيصةٌ من خصائصِ هذهِ الأمة كما وردَ في الصحيح، إكرامُ اللهِ لنا في هذهِ الليلة، مزيّةٌ ما أكرمت بها أمّةٌ غيرُ هذه الأمّة، فاحمدوا اللهَ عزَّ وجلَّ على هذه النّعمة، وحاولوا أن تنتهزوا هذه الفرصة وأن لا تفوتكم، ولئن كنّا عاجزينَ عن قيامِ ليلها حقَّ قيامٍ كما كانَ يفعلُ المصطفى عليهِ الصلاةُ والسلام، فلقد وردَ في الصحيح أنَّ اللهَ عزَّ وجل يعطي ثوابَ القيامِ الكامل لمن شهدَ صلاةَ الجماعةِ ليلها، وقامَ القيامَ الذي سنَّهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في تلكَ الليلة، أي صلاة التراويح، شهدها مع الجماعة، ثمَّ شهدَ صلاةَ الفجرِ أيضاً مع الجماعة، ولم يرتكب فيما بينهما محرّماً من المحرّمات، فالمظنون بكرمِ اللهِ عزَّ وجل، أن يسجّلَ هذا الإنسانَ في القائمين، وأن يدّخرَ لهُ أجرَ من قامَ ليلةَ القدر.

ومن مظاهرِ رحمةِ اللهِ بعباده، أنَّهُ أخفى هذه الليلة، نعم، تلكَ ظاهرةٌ من ظواهرِ الرّحمةِ الإلهيّةِ بعباده، حتَّى يدعوهم ذلكَ إلى مزيدٍ من الإقبال، وحتّى يدعوهم ذلكَ إلى مزيدٍ من الاحتياط، لعلَّ ليلةَ القدرِ تكونُ اليوم تكونُ غداً تكونُ بعدَ غد، وما أدري، لعلَّ الليلةَ هي ليلةَ الحادي والعشرين أو لعلَّ الغد، ومن ذا الذي يعلمُ ويقطع ذلك؟ وصدقَ المصطفى عليهِ الصلاةُ والسلامُ عندما قال: "عجبَ ربّكم من قومٍ يقادونَ إلى الجنّةِ بالسلاسل"، هذا مظهرٌ من مظاهرِ سوقِ اللهِ لنا إلى جنانه، أن أخفى عنّا ليلةَ القدر حتّى تدعونا الحيطة إلى أن نعمّر ليالي هذا الشهر، بل الليالي المتبقّيةَ من هذا الشهر، بمزيدٍ من النشاط، بمزيدٍ من الإقبال، بمزيدٍ من الطاعات، بمزيدٍ من التنزّهِ عن المحرّمات.

ولا بدَّ ان أذكّركم بعدها بما أنتم مقبلون عليه، من شعيرةِ زكاةِ الفطر، التي جعلها اللهُ سبحانهُ وتعالى فريضة على المسلمينَ بشروطٍ سأتحدّثُ عنها، وردَ ذلكَ في الصحيح، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ قال: فرضَ اللهُ سبحانهُ وتعالى زكاةَ الفطرِ صاعاً، من بُرٍّ أو شعيرٍ أو تمرٍ على كلِّ مسلمٍ حرٍّ وعبدٍ، ذكرٍ وأنثى. ووردَ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: كنّا نخرجُ زكاةَ الفطرِ صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ أو صاعاً من بُرٍّ أو صاعاً من أقِطٍ، فما زلتُ أخرجُ ذلكَ كلَّ عامٍ ما حييت.

وقد قرّرَ العلماءُ أنَّ من شروطِ وجوبها أن يكونَ الإنسانُ مسلماً، وأن يكونَ هذا المبلغُ الذي كلّفهُ اللهُ عزَّ وجلّ بإخراجهِ والذي سأحددهُ لكم، فائضاً عن نفقتهِ ونفقةِ من جعلهُ اللهُ مسؤولاً عنهم، يومَ العيدِ وليلته، فإذا بقيت بقيّةٌ لديهِ، زائدةٌ عن نفقته ونفقةِ عياله، ومسكنٍ هو بحاجةٍ إليه، فقد وجبَ عليهِ إخراجُ زكاةِ الفطر، عن نفسهِ أولاً، ثمَّ عن كلِّ من هو مسؤولٌ عنهم ثانياً.

وإنما تجبُ صدقةُ الفطرِ هذه بمغيبِ شمسِ آخرِ يومٍ من أيامِ شهرِ رمضان، أي بدخولِ ليلةِ الفطر، عندَ ذلك، يتعيَّنُ الوجوب، فلا تجبُ زكاةُ الفطرِ مثلاً على من ولدَ بعدَ مغيبِ شمسِ ذلكَ اليوم، ولا تجبُ على من مات قبلَ غروبِ شمسِ ذلكَ اليوم، هذا عندَ الإمامِ الشافعيّ، أمّا عندَ الإمامِ أبو حنيفة، فقالَ إنها تجبُ ببزوغِ صبحِ يومِ الفطر، كما أنَّ الإمامَ أبا حنيفة جعلَ من شرطِ وجوبها أن يكونَ الرجلُ يملكُ نصاباً، أي غنيّاً يملكُ نصاباً زكويّاً، فإذا ملكَ هذا النّصاب، فقد وجبَ عليهِ إخراجُ زكاةِ الفطرِ عن نفسهِ وعمَّن جعلهُ اللهُ مسؤولاً عنهم.

زكاةُ الفطرِ تُخرَجُ من غالبِ قوتِ البلد، وغالبُ قوتِ البلدِ اليوم كما تعلمونَ هو البُر، وقد حُدِّد كما سمعتم من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريّ، وسيّدنا عبدِ اللهِ بنِ عمر حُدِّدَ بصاعٍ من غالبِ قوتِ البلد، وعندَ الإمامِ أبي حنيفة: نصفُ صاع، ولكنَّ الصّاعَ عندهُ أكبر فالكمّيّةُ تتقاربُ أخيراً.

وإذا أردنا ان نحددَ الصّاعَ كيلاً، فهوَ كما قالهُ العلماء: عبارةٌ عن أربعِ حفناتٍ بكفِّ رجلٍ معتدل، أربع حفنات، وأمّا إذا أردنا أن نحوِّلَ هذا الكيلَ إلى وزن، الوزنِ المتعارفِ عليهِ في عصرنا اليوم، فهو لا يزيدُ على كلِّ حال، عندَ الإمامِ أبي حنيفة وعندَ الإمامِ الشافعيّ، لا يزيدُ على ألفي غرام، أي لا يزيدُ على اثنين كيلو من غالبِ قوتِ البلد، فانظروا كم يساوي كيلو البُر في هذه الأيام، تستطيعونَ أن تحدّدوا المبلغ الذي فرضهُ اللهُ سبحانهُ وتعالى عليكم، ولا بأس أن نقلّدَ مذهبَ الإمامِ أبي حنيفة رحمهُ اللهُ تعالى، فنخرجَ قيمةَ هذا القوت بدلاً من أن نخرجَ القيمةَ ذاتها، لأنَّ ذلكَ هو الأفضل، وهوَ الأولى للمحتاجينَ في هذهِ الأيام، أسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يوفّقنا في أواخرِ هذا الشهر لمزيدٍ من الطّاعة، ولمزيدٍ من الإقبالِ على اللهِ عزَّ وجل، كما أسألُ اللهَ لي ولكمُ الثبات، الثباتَ على ما وفّقنا إليه، ذلكَ هو عنوانُ قبول اللهِ عزَّ وجلّ، فمن رأى نفسهُ وقد تابَ في هذا الشهرِ وآبَ إلى الله، منشرحاً للاستقامة، مُوفَّقاً للثبات، فليعلمْ أنَّهُ مقبولٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلّ، أمّا إن نكص الإنسانُ على عقبه، وارتدَّ إلى سوءِ حاله، فأسألُ اللهَ لهُ وليَ العافية، وأسألُ اللهَ سبحانهُ وتعالى لنا جميعاً أن يبعدنا عن مطارحِ الرّدى، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يتغمّدنا بألطافهِ الخفيّة، فاستغفروهُ يغفر لكم، فيا فوزَ المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي