مميز
EN عربي
الخطيب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 04/12/1981

يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إلى الله

الحمد لله ثم الحمد لله الحمد حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعدُ فيا عبادَ الله:

آيةٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى، فلنقف عندها بشيءٍ من التدبّرِ والتأمّل، فما أحوجنا لو علمنا إلى أن نتدبَّرَ آياتِ الله سبحانهُ وتعالى، ونتأمَّلَ ما فيها من حقائقَ وعِظات،. يقولُ ربُّنا سبحانهُ وتعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد وما ذلك على اللهِ بعزيز).

يا أيها الناس: خطابٌ عامٌّ لا عمومَ من بعده، ليسَ خاصَّاً بفئةٍ دونَ أُخرى، لم يتجه إلى المؤمنين دون الملحدين، ولا إلى الصالحينَ دون الفاسقين، بل إنهُ خطابٌ يتجهُ إلى البشرِ جميعاً. فقد دخلَ في عمومِ هذا الخطاب، دخلَ الناسُ بشتَّى طبقاتهم وفئاتهم، وشملتِ الكلمةُ أعلى قممِ القيادةِ والحُكم،. كما شملت أدنى درجاتِ الانقيادِ والخضوع،، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لهؤلاءِ جميعاً: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)، إنهُ الفقرُ المطلَق، الذي لا يقفُ عندَ نوعٍ ما دونَ آخر، ليس فقراً نسبياً، وليسَ فقراً في صنفٍ دونَ صنف، ولكنه الفقر الذاتيُّ المطلقُ الذي يشملُ كلَّ أنواعه، (أنتم الفقراءُ إلى الله).

الفقرُ في الوجود، الفقرُ في الصحّة، الفقرُ في العقلِ والفكر، الفقرُ في الجمالِ والمظهر، الفقرُ في المال، الفقرُ في الرّزقِ والكساء، كلُّ ذلكَ دخلَ دخولاً ذاتيّاً تحتَ قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ لعبيدِه،. لمن بيدهِ أمرهم ودماؤهم، يقول لهم: (أنتم الفقراءُ إلى الله).

فهل من إنسانٍ يستطيعُ أن يكذِّبَ هذا القرار؟ هل من رجلٍ عالمٍ أو جاهلٍ مهما كان شأنهُ في دارِ الدنيا، مؤمناً باللهِ أو جاحداً مهما كان مستواه في المجتمع، هل يستطيعُ أن ينكرَ هذه الحقيقة؟

لعلَّ هنالكَ من ينكر، ينظرُ إلى جسدهِ، فيرى نفسهُ صحيحَ البدن، ويرى نفسهُ متمتّعاً بالمالِ والرخاء، ويرى تحت يدهِ القوّةَ وأسبابَ البطش، يرى كلَّ ذلك موفوراً عنده، وينظرُ إلى نفسهِ في المرآة، فيرى نفسهُ جميلاً ما أجملَ منه، ويرى فكرهُ دقيقاً لا أثقبَ منه، ربما قال، وهو في نشوةٍ عارمةٍ ينظرُ إلى عِطْفَيه، وينظرُ إلى هذه المظاهرِ لديه،. يقول: لا بل أنا غني! فأينَ الفقرُ الذي أوصَفُ به؟ ها أنا ذا غنيٌّ من كل ِّ ناحية، ولم يستطعِ الفقرُ أن يتسلَّلَ إليَّ مثقالَ ذرّة، فهل دعوى هذا الإنسانِ صحيحة؟ هل كلام ُ هذا الإنسان، إذا وُزِنَ في ميزانِ العلم والتفقّه، جاءَ بأيِّ نتيجةٍ إيجابيّة؟

إنَّ هذا إنسانٌ أحمقُ يا عبادَ الله، لا أقولُ إنَّهُ أحمقُ في ميزانِ الدّينِ فقط، بل إنَّهُ قبلَ ذلكَ أحمقُ بقرارِ العلم، وبقرارِ الحقيقة.

أنتَ غنيَ، من أينَ جاءَ غناك؟ أنتَ تتمتَّعُ بقوَّة، نعم، ولكن أفأنتَ مصدرُ هذه القوَّة؟ أنتَ الذي جعلتَ الطاقةَ تسري في دمائك؟ أنتَ الذي أقمتَ الغددَ المنتشرةَ في جسمك على وظائفها النوعيَّةِ التي تقومُ بها؟ أنتَ الذي أورثتَ لسانكَ الحركةَ والبيان؟ أنتَ الذي أقمتَ فؤادكَ على نبضاتهِ ووضعهِ الذي تراهُ فيه؟ أنتَ الذي سخَّرتَ الدَّورةَ الدّمويّة، بناءً على القوةِ التي تمتلكها؟ ما هذا؟ فتحتَ عينيكَ في الحياة، ونظرتَ إلى نفسك، فرأيتَ فيها طاقةً تتحرَّك، رأيتَ الدماءَ تسيلُ حارَّةً في عروقك، رأيتَ الغددَ تؤدّي وظائفها، رأيتَ كلَّ ذرَّةٍ من ذرَّاتِ جسمك عاكفةً على مهمتها.

أنتَ منفعلٌ بالقوَّةِ ولستَ فاعلاً لها، أنتَ تستقبلُ القوَّة، ولستَ ينبوعاً لها، أنتَ مكانٌ لإشراقاتِ هذه القوَّة، ولستَ مصدراً لها؛ إذا سكنَ جسمك، وإذا توقفَ شيءٌ من أجزاءِ كيانكَ عن أداءِ مهمّته، فماذا تصنعُ يا أيها القويَ؟ وكيفَ تدبِّرُ أمركَ يا أيّها الإنسان الغنيّ؟

كيف؟ أنتَ غنيّ! أنتّ غنيٌّ بعقلك؟! ما هو عقلُك؟ وكيفَ استطعتَ أن تغرزَ عقلَكَ في دماغك؟! أو في فؤادِك؟ أو في أيِّ جهةٍ من جهاتِ جسدكَ إن كنتَ تعرفُ جهةَ العقلِ ومكانَه؟ وكيف ومن أين جئتَ بهذه الطّاقة؟ و متى استوردتها؟ وكيفَ أقمتها على وظيفتها؟

عقلُك؟! فتحتَ عينيكَ على الحياةِ الدّنيا، وكبرتَ شيئاً فشيئاً، ونظرتَ فرأيت سرَّاً غريباً يتفتَّحُ في كيانكَ كما تتفتَّحُ أكمامُ الزَّهرة، ونظرتَ فوجدتَ نفسكَ تتفكَّر، وتتأمَّل، وتدركُ الأمور.

فإذا ما ذَبُلّتْ هذه الزَّهرة، وإذا ما ضعُفَتْ هذه القوَّة، وإذا ما آلَ علمُكَ إلى جهل، وإذا ما آلَ ذِكراكَ إلى نسيان، فمن أين؟ من أينَ يا أيُّها القوي؟ تستوردُ عقلاً آخرَ عندما يصبحُ عقلُكَ هذا خَرِبَاً لا يفيدُكَ شيئاً. من أين؟!

أتقولُ إنَّكَ غنيٌّ بالقوَّةِ والطاقةِ والوجود!؟ منِ الذي بثَّ فيكَ الوجود؟ منِ الذي أورثكَ الحياة؟ منِ الذي أورثكَ الروح؟ أأنتَ الذي اكتسبتها،. فغرستها في كيانك، ثمَّ تباهيتَ بها على أقرانك؟ والجمال الذي تتباهى به و تُجَمِّلُ نفسكَ مزيداً من التّجَمُّلِ بمظاهره، إذا ما خبا شعاعُ عقلكَ في يومٍ من الأيام، وعدتَ فنظرتَ إلى نفسكَ في المرآة، ترى إلى أينَ يذهبُ ذلكَ الجمال؟ تنظرُ فترى هذا المظهر، وقد انعكست سحنتُك، إذا بالجمالِ أصبحَ قباحة، وإذا بهذه النضارةِ أصبحت قباحة، وإذا بهذا الذي كنتَ تفتخر به على الناس، أصبحَ شيئاً تشمئزُّ منه الأعيُن .. أنت تتباهى بأنك غني! بأنكَ تضعُ يدكَ على مالٍ وفير!

إذا أمسكَ اللهُ عزَّ وجلَّ سماءَهُ عن قطره، وإذا حبسَ أرضهُ عن أن تنبتَ لك، وإذا أمسكَ ينابيعَ الرزق، عن أن تُدِرَّ رزقها إليك، فأخبرني ماذا تصنعُ بذَهَبِكَ وفضَّتك؟ ماذا تصنعُ بكنوزك؟ ستلعقُ الثَّرى، ولسوفَ تبحثُ عن لقمةِ طعامٍ بينَ القمامةِ فلا تعثرُ عليها، نعم يا أيها القوي، نعم يا أيها الغني.

هذا معنى كلام الله عزَّ وجلّ: (يا أيها الناس) جميعاً (أنتم الفقراء إلى الله)، هذا يعني كما قلتُ لك، أنَّكَ منفعلٌ بالقوَّة، استقبلتها بدون اختيارك، تفاعلتَ معها بدون اختراعك، سرتَ في تيارها بدونِ قصد منك، بل أنتَ جزءٌ من هذا التيار ذاتهِ، أنت منفعلٌ بالقوَّة، ولستَ فاعلاً لها إطلاقاً بشكلٍ من الأشكال.

(قُتلَ الإنسانُ ما أكفره * من أيِّ شيءٍ خلقه * من نطفةٍ خلقهُ فقدَّره * ثمَّ السبيلَ يسَّره)، أيُّ سبيلٍ هذا يابنَ آدم؟ أعلمتَ أيُّ سبيلٍ يعنيهِ ربُّ العالمين؟ ينبغي أن تتذكر، حتَّى تخفض من أنفكَ قليلاً، وحتَّى تُحَطِّمَ من كبريائِكَ كثيراً، (ثمَّ السّبيلَ يسَّره)، أنتَ أعلمُ بذلكَ السبيل، ذلكَ السبيلِ القذر، ذلكَ السبيلِ الضيِّق، الذي شاءَ اللهُ أن يكون مروركَ إلى الدنيا منه، والذي شاء اللهُ عزَّ وجلَ أن يوسعهُ عندَ خروجك، (ثمَّ أماتهُ فأقبره * ثمَّ إذا شاءَ أنشره * كلا لمَّا يقضِ ما أمره).

هذا الإنسانُ الكفورُ بالنعمة، يرى جلبابَ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلّ قد ألبسهُ اللهُ إياه، بدلاً من أن يشكره، بدلاً من أن يقولَ ربِّ، اجعل هذا الرِّداءَ عفواً وعافيةً لي، وأدمهُ عليَّ ستراً وكرماً، بدلاً من هذا يقولُ كما قالَ قارون: (إنما أوتيتُهُ على علمٍ عندي)، نعم، هكذا قالَ قارون، قال: (إنما أُوْتيتُه)؛ رزقي، قوَّتي، طاقتي، مالي، (على علمٍ عندي)، هذا كلامُ سُكْر، كلامُ نشوة، كلامُ جنون!! أيُّ شيءٍ هذا الذي أوتيتَهُ على علمٍ عندك؟ ألم تذكُر يومَ كنتَ طفلاً صغيراً، يومَ كانتِ الأقذارُ تحتوشك؟ يومَ كانت الرعايةُ شرطاً أساسيَّاً لبقائكَ واستمرارك؟ كانت أسباب هذه القوَّةِ موجودةً في كيانك، كانَ أسباب العقل، والطاقة، وهذه الأجهزة، كلها مهيئةً في كيانك الصغير.

أين علمك، الذي به أورثتَ نفسكَ هذه القوَّة،؟ أينَ جهدك؟ أينَ اختراعك؟ صدق اللهُ العظيم، صدقَ اللهُ القائل: (اللهُ الذي خلقكم من ضعف ثمَّ جعلَ من بعدِ ضعفٍ قوَّة ثمَّ جعلَ من بعدِ قوَّة ضعفاً وشيبة)، نعم، وآيةُ ذلك أنَّكَ لا تستطيعُ أن تحبسَ مظاهرَ هذه الطاقةِ في كيانك، إن كنتَ أنت القوي، فاحبس هذه القوَّةَ عندك، إن كنتَ أنت مالكَ هذه الطَّاقة، ومن ثّمَّ فلكَ أن تتكبّرَ على الأرض، وأن تتجبَّر، إن كنتَ كذلك فعلاً، فأمسك شيئاً من مظاهرِ هذه القوَّةِ أن لا تُتخطَّفَ منك، بل قم أمامَ تحدِّي اللهِ عزَّ وجلّ وغالب هذا التَّحدّي إن كنتَ قادراً.

ما هو هذا التَّحدّي؟ هو قولُ اللهِ عزَّ وجلّ: (ومن نعمِّرهُ ننكِّسهُ في الخلق أفلا يعقلون)، قرارٌ لا شذوذ فيه، إذا عُمِّرَ الإنسانُ نُكِّس، عادَ إلى الضعف، عادَ إلى النسيان، عادَ إلى الهزال، عادَ إلى الجهلِ بعدَ العلم، وهكذا يقرِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ في الآيةِ الأخرى: (ومنكم من يُتَوَفَّى ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذلِ العمرِ لكي لا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئاً).

نعم يابنَ آدم، إذا عرفتَ هذه الحقيقة، فاعرف الحقيقة التي تليها والتي بنيت عليها، (إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد وما ذلكَ على اللهِ بعزيز)، وما يُكَلِّفُ ذلكَ ربَّنا إلا أمرٌ يوجّهُه، وإلا إرادةً ينفّذها ربُّنا سبحانهُ وتعالى، ( إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كن فيكون)، فإذا كنتَ على يقينٍ من هذا، بناءً على الحقائقِ العلميَّة قبلَ الحقائقِ الدينية، إذا كنتَ واثقاً من أنك هذا الإنسان، إذاً ينبغي أن تحطِّمَ كبرياءَك، ينبغي أن تحطَّمَ عنادكَ وجبروتك، وينبغي أن ترتديَ كسوةَ العبوديَّةِ لله، وينبغي أن تجعلَ ولاءَكَ لمولاك لمن بيدهِ زمامُك، نعم أنتَ دابَّةٌ أُحْكِمَ الزمامُ في عنقها إحكاماً متيناً، فانظر يا أيتها الدابة، انظري إلى اليِد التي تسوقكِ من هذا الزمام، انظر يابنَ آدم، من الذي يقودُكَ من الزمام الذي أُثبِتَ في عنقك، انظر لتعلم، وإذا تأملت، علمتَ أنهُ ربُّ السّماواتِ العلى، أنهُ الذي أضحكَ وأبكى، وأنهُ الذي أماتَ وأحيا، وأنهُ ربُّ الفلق، وربُّ الكائناتِ كلها، وأنَّه الذي إليهِ المرجعُ والمآل. فاجعل ولاءَكَ لربِّك، اجعلِ اتجاهكَ إلى خالقكَ سبحانهُ وتعالى، اجعل دنياكَ خيرَ خادمٍ لتحقيقِ مرضاةِ اللهِ عزَّ وجلّ، وإذا رأيتَ أمراً لا يعجبُك، وإذا رأيتَ ضيقاً لا يتَّفقُ مع هوى نفسك، فاصبر لحكمِ ربِّك، كما قالَ اللهُ عزَّ وجلّ لرسوله: (فاصبر لحكمِ ربَِّكَ ولا تكن كصاحبِ الحوتِ إذ نادى وهوَ مكظوم).

حكمُ اللهِ عزَّ وجلّ يسري، وقرارهُ عدلٌ مطبَّق، وخيرُ منجاةٍ من غضبِ اللهِ عزَّ وجلّ وعقابه، أن تدخلَ في بابِ الذُّلِّ والضراعةِ له، وأن تنطويَ في بابِ المسكنةِ والهوانِ للهِ عزَّ وجلّ، بهذا الانكسار، يرفعُ اللهُ الضَّرَّاء، بهذا الانكسار يعيدُ اللهُ عزَّ وجلَّ النِعَم، ليت أنَّ أولئكَ الذينَ تشمخر جباههم، وليت أنَّ أولئكَ الذينَ يتقلَّبونَ في سهراتهم الماجنة، وليسَ أنَّ أولئكَ الذينَ سكروا بنعمةِ الله ألواناً وألواناً، ليت أنهم يسمعون هذا الكلام، وليت أنهم يدركونَ هذه الحقيقة، وياليتَ أنهم تفاعلوا مع قول اللهِ عزَّ وجلّ: (يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد* إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلقٍ جديد)، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهُ العظيم.

تحميل



تشغيل

صوتي