مميز
EN عربي

السلاسل: القرآن والحياة

التاريخ: 28/05/1978

المدرس: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI

20- الحلقة العشرون: الحكمة من الابتلاءات

التصنيف: علوم القرآن الكريم

كثيرٌ من الناس يسألون عن سرِّ وجود الابتلاء بالمرض أو بالفقر أو بالضيق.


الجواب: الباري سبحانه وتعالى حكيمٌ، شاء أن نستقبل الحياة الدنيا على أنَّها محطَّةٌ واستراحةٌ، فكان مقتضى الحكمة أن تُملأ هذه الحياة الدنيا بمنغصاتٍ حتى لا نركن إليها، ربنا عزَّ وجلَّ يرضيه أن تتعلَّق آمالنا بالجنَّة، ولو أنَّه جعل الدنيا نعيماً لا تشوبه غُصَّةٌ لركنَّا إلى زهرة هذه الحياة الدُّنيا.


الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى ٱلْخَلْقِ﴾ معنى ننكسه في الخلق: نجعله يعود القهقرى في قدراته وغرائزه ومعارفه، ينظر إلى الحياة نظرة الإنسان الذي شبع منها، ويعينه على ذلك أن قواه تراجعت وذبلت، يصغي جيداً إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾، وإلى ما أعدَّه الله عزَّ وجلَّ للراحل من هذه الحياة الدنيا.


المريض يشكو من مرضه شكوى اللاجئ إلى الله أن يشفيه هذا، لا شكوى المتأفِّف المتبرم؛ لأنَّ من حِكم الابتلاءات أن يمارس الإنسان عبوديته فعلاً سلوكاً لله عزَّ وجلَّ، ولا يتحقق هذا إلا بأن يعلن بلسانه وبمشاعره أنَّه راضٍ بهذا الابتلاء الذي يبتليه الله عزَّ وجلَّ به.


وبسؤاله العافية هو أيضاً يمارس العبودية في هذا السُّؤال، من جانبٍ يُعلِن عن رضاه عن الله عزَّ وجلَّ، ومن جانبٍ آخر يُعلِن عن ضعفه، ويقول: يا رب؛ أنا ضعيفٌ فعافني، من هذا الدَّاء أنقذني، من هذا الألم الذي أعاني منه، وكلا الحالتين ممارسةٌ للونٍ من ألوان العبودية لله سبحانه وتعالى، ومن هنا جاء قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (تداووا عباد الله فإنَّ الله ما أنزل داءً إلا وأنزل شفاء).


انظر إلى موقف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما ابتلي بأن صدَّه المشركون في مكةَ بعد وفاة زوجته وعمِّه، وبعد أن التجأ إلى الطائف، فطرده أهل الطائف منها، قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس _هذه شكوى، ولكنها ليست شكوى تأفف، هي شكوى التجاء، ثمَّ مارس لوناً آخرَ من ألوان العبودية فقال:_ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك أوسع لي).


وهكذا فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمارس لنا من خلال تعامله مع الابتلاء كلَّ معاني العبودية، والشكوى إلى الله بضراعةِ الضَّعيف المتذلِّل، والرَّاضي عن حكم الله.


استوقفني رجلٌ في المسجد فقال: أريد أن أسألك، ماذا صنعتُ حتى ابتلاني الله بأن أخذ مني ولدي الصغير الذي لا ولد لي سواه؟ قلت: هذا الذي فعله الله بك ليس دليلاً على أنَّ الله قد غضب عليك، لكنَّها سنَّة الله، وقد جئنا إلى الحياة على شرط الله، لا على شروطنا، والباري سبحانه وتعالى قال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ نعم ولن تتجلَّى حقيقة إيمانك بالله وعبودتك له إلا إذا ابتلاك فصبرت.


استسلام الإنسان للمرض وامتناعه عن الأدوية ظاهرةٌ مرَضيةٌ غيرُ مقبولةٍ في ممارسة العبودية لله، وأن يُقبِل الإنسان على الدواء متأفِّفَاً ضَجِراً غيرَ راض بهذا المرض أيضاً ظاهرةٌ مرَضيةٌ، ووظيفتنا كعبيدٍ لله أن ننسِّق بين هذين الأمرين، نرضى بقضاء الله عزَّ وجلَّ، وفي الوقت ذاته نمارس البحث عن دواءٍ لهذا الداء؛ لأنَّ هذا أيضاً جزءٌ من الوظيفة التي أقامنا الله عزَّ وجلَّ عليها.


يوم أراد أن يدخل عمر بن الخطاب إلى عمواس، فقيل له عن الطاعون الذي كان موجوداً فيها، فأبى عمرُ أن يدخلها، فقال له أحد الصحابة: أفراراً من قضاء الله يا أمير المؤمنين، قال: نفر من قضاء الله إلى قضاء الله تعالى.
بعض الربانيين قيل له عن الطبيب، فقال: الطبيب أمرضني، يقصد الباري سبحانه وتعالى، هؤلاء مواقفهم تُقبلُ منهم، ولكنَّا لا نجعل منها شرعاً لنا، عمر عندما هاجر إلى المدينة هاجر جهراً، وطاف عند الكعبة، وقال للمشركين: من أراد أن تثكله أمه فليلحقني في بطن هذا الوادي، فإني مهاجرٌ، ورسول الله هاجر متخفياً، عملُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو الشرع، وعمل عمر خاصٌّ بنفسه، فهو ليس بشرعٍ، مع ذلك فإنَّا لا ننكر عليه فعلَهُ.



تحميل



تشغيل

صوتي