مميز
EN عربي

السلاسل: محاضرات متفرقة في مناسبات مختلفة

التاريخ: 23/06/2011

المدرس: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI

إلى الإخوة الداعين إلى مشروع مرجعية إسلامية واحدة

التصنيف: فقه عام

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الإخوة الداعين إلى مشروع مرجعية إسلامية واحدة

الكلمة الكاملة لفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في اجتماع علماء دمشق، والذي عقد في مسجد العثمان (الكويتي) وذلك يوم الخميس 23/6/2011

الحمد لله عن نعمه الظاهرة والباطنة ما علمنا منها وما لم نعلم وأفضلُ الصلاة وأتمُ التسليم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين , وبعد أيها الأخوة:

أُحب أن أحدثكم بادئَ ذي بدء عن:

العوامل التي جعلتني أقرر أن يكون حديثي إليكم حديثًا دينيًا بحتًا لا يُداخله حظٌ في السياسية أو نحوها قط:

العامل يتمثل في هذا البيان الإفتراضي الوهمي المنسوب إلى ثُلةٍ من خطباء دمشق باسم "مشايخ الثورة السورية".

لعلكم جميعًا تعلمون ما أعلم أنه بيانٌ افتراضي وهمي، والذي أعلمه إلى هذه اللحظة أن " علماء سوريا لا دمشق فقط وخطابئَها لا يتمتعون بعلمٍ ناضج في الشريعة الإسلامية فقط بل يُتَوِّجون علومهم بها بالوعي"

هذا هو الذي دعاني إلى أن أبدأ فأتسائل – معكم طبعًا-:

هل هنالك بادرة ثورة على كتاب الله وعلى هَدْيِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون ثورة على ما يسمى بالنظام؟

هذا البيان الإفتراضي جعل هذا السؤال يقفز إلى ذهني.

كيف أستطيع أن أعلم الجواب الحقيقي عن هذا السؤال.

السؤال هو: هل هنالك ثورة أو بادرة ثورة على كتاب الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون ثورة على ما يسمى بالنظام؟

هذه المراجعة التي أرجو أن تكون موجزة، والتي سنبدأها مع كل منكم علميًا والتي تجيب عن هذا السؤال.

أولأً: أيها الإخوة: أُحب أن أقول لكم: أنا أشرُف أن أجلس إلى إخواني وأصدقائي وزملائي الذين يجمعني معهم شرفُ الدعوة إلى الله إن على المنابر أو في الندوات والمحاضرات المختلفة، فبيننا جامعٌ مشترك من معرفةِ الشريعة ومصادرها وأحكامها. حديثي إليكم ليس تعليمًا، بل هو تذكير، وأنا لا أشك في ذلك.

دعونا نبدأ بكتاب الله عز وجل، كتابُ الله تعالى رَسَّخَ قاعدةً معروفةً لدينا جميعًا هي: قاعدة سد الذرائع.

وتتلخص هذه القاعدة في أن أيَّ أمرٍ مشروع إذا استُخدِم ذريعةً لـِمُحرم، يتحول هذا الأمر المشروع إلى مُحرم مثلِهِ، ويأخذُ فيما يتعلق بدرجة الخطورة في الحرمة ما تأخذهُ النتيجة التي اتُّخِذَ هذا المشروع ذريعةً لها.

وفي كتاب الله عز وجل أكثرُ من نص على هذه القاعدة، لكنْ أَبْيَنُها وأصرَحُها قول الله عز وجل:((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)).

تلاحظون أن الله عزّ وجلّ حَرَّمَ سَبَّ المسلمين للأصنام، وهو في الأصل مشروع، سَبُّ الأصنام أمرٌ مشروع، لكنَّ الله عزّ وجلّ حَرَّمَهُ عندما يكون ذريعة لِسَبِّ المشركين للّه عزّ وجلّ، ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)).

استظهر جميع علماء الشريعة من ذلك مبدأ سد الذريعة.

كلُ أمرٍ مشروع يبدأه الإنسان – من حيث هو مشروع - إذا عَلِم أو غلب على ظنه أنه سيجُرُ إلى محرم؛ فإن هذا المشروع يتحول بالاتفاق إلى أمر ٍمُحَرَّم. وهذا يمكننا بل ينبغي أن نتذكر أنّ من أبرزِ الإِسقاطات التي تُجسد هذا القانون: هذه المسيرات التي أقبل إليها كثيرٌ من الناس في بادئِ الأمر بنية طيبة، وبتصور بعيد عن الأخطاء والنتائج المحرمة، ولكن تبين أن هذا الذي نفترض أنه كان مشروعًا غدا وسيلة وذريعة إلى أخطر نوع من أنواع المحرمات، فسَرْعان ما غدت هذه المسيرات أعمالاً تحريضية بخطةٍ مرسومة، وسًرْعان ما تحولت إلى أفعالٍ وردودِ أفعال مُتصادمة، بخطةٍ مرسومة، وسًرْعان ما تحولت الأفعالُ وردودُ الأفعال المتصادمة إلى هَرْجٍ وقتلٍ وسفكٍ للدماءِ البريئة، وأنتم تعلمون هذا جيدًا.

وأنا الآن أيها الإخوة الفُضَلاء لا اتحدث عن المسؤولية المباشرة: أتقعُ على هذا الطرف أم على هذا الطرف، أبدًا، بل أغلبُ الظن - إن لم أقل يقيني - أنَّ كِلا الطرفين يتحملان المسؤولية.

ولكن: ما الباب الذي فُتح فاندلقت منه إلى مجتمعاتنا هذا القتل الذي استحر بالبرآء، هذا الأمر الذي كنا نتصور أنه كان مشروعًا في بادئ الأمر؟

قالوا: مسيرات سلمية، لانتجاوز حدود ذلك. لكننا نعلم - منذ عصور قديمة، أنا منذ شبابي أعلم- أنَّ مسيراتٍ كانت تخرج في دمشق بنيةٍ طيبة، بل بدافع إيماني وإسلامي، لكن سَرعان ما كان يتسربُ إليها آخرون ليستثمروا هذهِ المسيرات لصالحهم، يفاجؤون بهتافات لم تكن مُبرمجة، وهذا كان يتم، والآن الأمرُ ذاته نراه بأُمِّ أعيننا، إذًا ما الذي نستظهر من هذا؟

نستظهر من هذا أن كتاب الله عزّ وجلّ يُحَرِّم علينا الدخول في هذا العمل الذي قد يتراءى أنه مشروع في بادئ الأمر، ولكنه ذريعة لا إلى مُحَرَّمٍ من المحرّمات فقط، بل هو – كما تلاحظون- ذريعةٌ إلى جريمة من أخطر الجرائم، من أخطر الجرائم.

إذًا فالشريعة الإسلامية تأمر بسد هذه الذريعة.

ما موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا القانون (سد الذرائع الوارد في القرآن)؟

كان موقفه -كما تعلمون- موقف الشارح وموقف المطبق لهذه القاعدة وتحويلها من المستوى النظري إلى الواقع التطبيقي.

لاحظوا مظاهر تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقانون سد الذرائع، تطبيق ذلك في عصره ولفت نظر المسلمين في العصور الآتية إلى ضرورة تطبيقه:

الحديث المتفق عليه الذي يرويه أبو هريرة، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ستكون فتنٌ بعدي، من استشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذًا فليعذ به))، هذا أمرٌ من رسول الله أن يبتعد عن هذه الفتن، ذلك لأنها ذريعة إلى محرمٍ، بل ذريعة إلى جرائم لا يتأتى للإنسان أن يضبِطها وأن يضع لها حلاً.

تعالَوا إلى الحديث الآخر، وأنا مبدأي كما قلت لكم ديني، أُذكّرُ نفسي وأُذكّركم بكلام رسول الله لمن تساءل:

هل بدأنا ثورةً على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نبدأ الثورة على ما يسمى بالنظام؟ أريد أن أعلم الجواب في النهاية.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والحاكم من حديث أبي بكرة:(( إنها ستكون فتن، ألا ثم إنها ستكون فتن، القاعد فيها خيرٌ من الماشي فيها، والماشي خيرٌ من الساعي إليها، فإذا نزلت أو وقعت، فمَن كان له غنم فليحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليحق بأرضه، ومن لم تكن له غنم أو أرض فليَعْمَدْ إلى سيفه فَيَدُقَّ على حَدِّهِ بحجر ثم لِيَنْجو بنفسه، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت (كررها ثلاثاً). فقال رجلٌ: يا رسول الله أرأيتَ إن أُكْرِهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بي إلى أَحَدِ الصَّفَيْن أو الفِئَتَيْن - الشّك من الراوي - فضربني رجلٌ فقتلني. قال: يبوءُ بإثمه وبإثمك ويكونُ من أصحاب النار))، ألا ترون أنه صلى الله عليه وسلم لكأنه يصف في هذا الذي يقول هذه الفتن في هذا المنعطف الذي نمر به؟

حديث آخر – وأُحِبُّ أن أقرأَ لَكُم النصوص حتى لا أَزيدَ من عندي كلمة أو أضيف كلمة، أنا لا آتي برأيٍ من عندي، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأُهُ- وَصَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفتنة وصفًا دقيقًا، وحذّر من التورط فيها في آخر الحديث قائلاً:((عليك بخاصةِ نفسك وَدَعْ عَنْكَ أمرَ العامة))، الحديث يرويه الترمذي والنَسائي وابن ماجة والحاكم.

- سأله أحد الصحابة عن الموقف الذي ينبغي أن يتخذه وقد أخبر عن فتن مُدْلَهِمَّةٍ ستقع، قال له:((أمسك عليك لسانك، ولْيَسَعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتك)).

هذا بعض الأحاديث الصحيحة التي يُسقط فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة سد الذرائع القرآنية على هذه الوقائع.

قبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى، هنالك مَنْ ناقشني وأنا أُذَكِّرُهُ بهذه الأحاديث، قال: هذا موقف سلبي، ولم يجد أيَّ حَرَجٍ في أن يتهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه اتخذ موقفًا سلبيًا يُعْتَرَضُ عليه فيه. قلت له: لو أنّ رسول الله صلى عليه وسلم همس بهذا الأمر في أُذُن حذيفة بن اليمان أو في أُذُن فلان أو فلان لقلتُ لَكَ نعم موقف سلبي، لكنَّ هذا الأمرَ، أو هذه الوصية الهامة إنما يتوجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل فردٍ فردٍ فردٍ فردٍ من المسلمين، بصيغة: الفرد، للتأكيد. وفي اللغة العربية إذا أردتُ أن أُؤكد، لا أُعمم التوجيه، وإنما أوجه الخطاب إلى كل فردٍ، فردٍ على حِدَا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يُوَجِّهُ نُصْحَهُ إلى كل مسلم.

فتصور، عندما يأتمِرُ كلُّ مسلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة، يعود إلى خاصَّةِ نفسه ويهتمُ بشأنها، كما قال عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث، ما الذي سيحصل؟

في ساعات، ولا أقول في أيام، تهدأُ النَّئْمَة وتنطوي المشكلة ويزول الإعصار، أليس كذلك؟

هذا مبدأ تربوي يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعًا، وإذا كانت هناك فئة تتآمر وتتحرك في الظلام وتغطي نفسها بعامة الناس الذين يخرجون من المساجد فلسوف يَتَعَرَوْنَ عندئذٍ، ولن يجدوا جمعًا يتسللون في داخله.

النقطة الأخرى: موضوع الخروج على الحاكم

أنا ليس لي في هذا رأي نهائيًا أيها الإخوة، إطلاقًا، وعشت حياتي وأنا في هذه القضايا لا أملك أيَّ جرأة، بل إنني لجبانٌ كلَّ الجُبْنِ - وأنا أتشرف بهذا الجبن – فيما يتعلق بهذه القضايا. وإنما أنقل لكم حرفيًا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لكم بهذه المناسبة: إذا اختلف السلطان والقرآن فنحن مع القرآن، ولكننا نسلك المسلك الذي ننتصر فيه للقرآن بالطريقة التي رسمها لنا القرآن - هذا ينبغي أن يكون معلومًا- لا نقفز في انتصارنا الوهمي للقرآن فوق المنهج الذي رسمه لنا القرآن.

المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول:(( من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج على السلطان شبرا فمات، مات مِيتَةً جاهلية)) متفق عليه.

ربما كان فينا من يظن أن هذا الأمير لا بد أنه أمير مثالي، ولا بد أنه أمير ملتزم بعيدٌ عن المُفَسِّقات والأمور التي تنحرف عن جادة الشرع.

تعالَوا فاسمعوا الحديث التالي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم من حديث حذيفة:((يكون بعدي أَئِمَّةٌ لا يهتدون بهدايتي ولا يَسْتَنون بِسُنَّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب شياطين في جسمان إنس. قال حذيفة: فقلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأَطِعْ، إلا أن تَرَوْا كُفْرًا بَواحًا لكم عليه من الله سلطان)).

إذًا المصطفى صلى الله عليه وسلم يَقْصِد: أيّ أمير، بشرط أن لا يتلبس بكفرٍ بَواح. وأحبُّ هنا أنْ أُذَكِّر نفسي وأُذَكِّرَكُم- وأنتم تعلمون ولربما كان فيكم والله مَنْ يعلم أكثر مني أيها الإخوة، وأنا أَشْرُف مرةً أُخرى بأن أَجِدَني أمام هذه الوجوه-: الكفرُ البَواحُ هو الذي لا يَحْتَمِل ولا واحد في المئة من احتمالِ تأويلِ الموقف تأويلاً دينيًا. عندما تُسَد الاحتمالات كلها، ولا يبقى حتى احتمال واحد في المئة يجعل من هذا الإنسان باقيًا على إسلامه - هذا هو الكفر البَواح–

وقالوا: الكفر البواحُ أن يعلن الإنسان عن نفسه أنه كَفَر، لأن الإنسانَ هو الذي يُكفِرُ نفسَهُ.

إذا كان الإنسان يُعلن عن إسلامه لا يستطيع أحد أن يُكفِّرَهُ، وإنما الكافر هو ذاكَ الذي يبدأ هوَ فيكفر نفسه: يُعْلِن عن إلحاده، يعلن عن شكه بالقرآن، يعلن يعلن ..وهكذا. هذا هو معنى الكفر البواح الذي لنا عليه سلطانٌ في موقفنا أمام الله يوم القيامة.

النبي عليه الصلاة والسلام -أيها الإخوة- وقف يخطب في حجة الوداع، ولا شك أنكم قرأتم خطبة النبي في حجة الوداع، ولا شك أن المشاعر التي تنتابني -عندما أقرأ خطبته هذه- تنتابكم جميعًا، والله لكأني أشعر أن رسول الله يخاطبنا من وراء الأجيال، خطابه يخترق الأجيال جيلاً بعد جيلٍ بعد جيلٍ.. إلينا نحن: حَذَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يتحول المسلمون إلى فئات يقتل بعضها بعضًا، حَذَّرَ من ذلك في أول خطابه، وحَذَّرَ من ذلك في آخر خطابه:" ألا لا ترجعوا بعدي ضُلّالاً يضرب بعضُكُم رقابَ بعض، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد"، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلّالاً.

يا جماعة، يا ناس هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لا ترجعوا بعدي ضُلّالاً"، ما الذي يقصده المصطفى صلى الله عليه وسلم بضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض؟ أي: أنتم المسلمون يَسْتَحِرُّ القتلُ فيما بينكم، لا أن المسلمين يواجهون أعداءهم الكافرين، أعداءهم المارقين، أعداءهم المُسْتَحِلّين للأرض المغتصبين للحق، لا، بل يستحر القتل فيما بينهم، يَتَهارَجون. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف هذه الحالة:(( لا يدري القاتلُ فيما قَتَل ولا المقتولُ فيما قُتِل)) وهذا ما يقع، لا يدري القاتلُ فيما قَتَل ولا المقتولُ فيما قُتِل.

أيها السادة:

أنا كثيرًا ما أستقبل أسئلة عجيبة وغريبة، لكنها مؤلمة جدًا.

يقول أحدُهُم: أنا في ساعةٍ فَقَدْتُ فيها وعيي، وفقدت فيها مُقَوِّمات إنسانيتي، فضربت وقتلت، والآن استيقَظَتْ إنسانيتي، واستيقظ إيماني ماذا أصنع؟

لاحظوا متى كان ذلك، في هذه المسيرات، استُثِير فثار فقتل، والاستثارة مُخططٌ لها، هُوِّجَ، فاهتاج فقتل.

يأتيني فيسألُني ماذا أصنع؟ أنا في حالة هياج، فقدتُ عقلي، فقدت إنسانيتي، وأنا أعلم أن هذا حرام، لكن فعلت، وربما قُتِلَ أيضًا، وفَعَل..إلى آخرِ ما هنالك.

النبي عليه الصلاة والسلام يقول:((ألا لا ترجعوا بعدي ضُلّالاً يضربُ بعضُكُم رقابَ بعض)).

إذًا هذا هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالخروج على الحاكم. يقول لي قائل: هذا يقتضي أن نَخْنَع، وأن نرضى بالمنكر الذي ينتشر، وأن نرضى بالفساد الذي ينتشر إذا اتّبَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

لا أبدًا يا أيها الإخوة، رسولُ الله الذي قال هذا، أَمَرَنا في الوقت ذاتِهِ بأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر. وأوضح لنا قاعدة: لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق، وقال لنا في الحديث الصحيح عندما سُئِلَ عن أفضل الجهاد قال:((كلمةُ حَقٍ عند سلطانٍ جائر))، قال عند، عند، ولم يقل في الشارع، كلمةُ حَقٍ عند سلطانٍ جائر.

النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح - وأنا لا أذكر لكم إلا أحاديث صحيحة ولعلكم تعرفونها - قال:(( خيرُ الشهداء حمزة، ثم رجلٌ قام إلى إمامٍ فأَمَرَهُ ونهاهُ في ذاتِ اللهِ فقتله على ذلك)).

النبي عليه الصلاة والسلام نهى المسلمين على الخروج على الإمام ولو فَسَق، وهذا إجماعٌ نقله الإمام النووي عن المسلمين جميعًا.

لكن هل هذا يعني أننا نَسْتَمْرِىء المعصية التي تنتشر؟ في الوقت ذاته أَمَرَنا أن نأمُرَ الحاكم، وأن نَنْهاهُ، لكن باللسان، ونلاحِقُهُ ونًتْبَعُهُ ونُذَكِّرُهُ بالله سبحانه وتعالى، فإن قُضِيَ على هذا الإنسان الآمِرِ بالمعروف والنَّهْيِ عن المنكر فهو شهيد، إذًا الأمر ليس كما يتصور بعض الناس.

قد يقول قائل وكيف السبيل إلى أن نُبَلِّغَ الحاكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أكيد أكيد ليس السبيل إلى ذلك الغوغاء في الشارع، أكيد ليس هذا هو السبيل. وإنما السبيل إلى ذلك أن تَطْرُقَ باب أمير المؤمنين أو رئيس الدولة، فَتُذَكِّرَهُ بالله عزّ وجلّ بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا يتيسر كثيرًا، - وأنا لا أريد أن أتحدث عن نفسي- كثيرٌ منكم إذا أراد أن يَطْرُقَ باب المسؤولين يُفتح لهم الباب ويستطيع أن يُنْجِيَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصاحب العلاقة.

وإن لم تستطع؟

- المنبر الذي أقامك الله عز وجل فيه وَريثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو نافذة ثانية.

- الإعلام الذي نحن الآن بصدد تطويره، هو نافذة أخرى.

النوافذ المفتوحة بيننا وبين القيادة، بيننا وبين المسؤولين موجودة.

هذه خُلاصة ما أريد أن أقوله لنفسي ولكم أيها الإخوة.

إذًا أعود فأقول: هل هنالك في المسلمين من قرر ثورةً على كتاب الله وعلى هَدْيِ رسول الله، ومن ثَمَّ قرر ثورة على ما يسمى بالنظام؟ لعل الكلام الذي ذَكَرْتُهُ يستطل الجواب على هذا السؤال.

أياً كان الأمر، فأنا عل يقينٍ أنّ هؤلاء الإخوة وأمثالهُم ممن أكرمهم الله بمعرفة الشريعة الإسلامية، لا في دمشق وريفِها، بل في سوريا كُلِّها، لا أرتاب في أنّ الله عزّ وجلّ أكرمهم إلى جانب العلم بشريعة الله، بالوعي أيضًا.

هل جئتُ بكلامٍ من عندي أيها الإخوة؟ لا أبدًا، أنا ناقل، أنا ناقل. فإذا كان هنالك من يُفَسِّرُ هذا الذي نقلته عن كتاب الله وسنة رسول الله بأنني من أتباع النظام، وبأنني من شيوخ السوء ومن أتباع النظام، فمعنى ذلك أن هذه تهمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عندئذٍ لا أشكُ في أنّ محمدًا عليه الصلاة والسلام لو ظهر فيما بيننا، وَذَكَّرَنا بنصائحه هذه، لجَاءَ من يقول له: أنت من أتباع النظام، أنت من مشايخ السوء.

ومع ذلك أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون دَيْدَنَنا، وأنا من المتفائلين دائمًا ولست من المتشائمين. أنا أرى هذه الإصلاحات أبواب وقد فُتِحَتْ، وأنا أشاهد أنها تسير ولا تسير ببطئ، ولكنها تسير بنظام، ولا تسير قفز، ولعل من الخير أن تسير هذه المبادىء الإصلاحية بنظام، وأظن أن أي دولة أوروبية عندما تريد أن تُقيم في حياتها منهاجًا إصلاحيًا، لابد أن يستمر هذا المنهاج في إمضائه وَتَهْييئِهِ، لا أقول أسابيع، ربما شهور. فلماذا يستعجلُ أُناسٌ نُضْجَ عملياتٍ إصلاحيةٍ لم أسمع أنهم يستعجلون مثلَها في أمورٍ إن كانت في أمريكا أو أوروبا؟

والوقت لا يتسع لأضرب لكم أمثلةً على ذلك.

وأختم كلمتي بدعاءٍ ضارعٍ إلى الله عزّ وجلّ أنْ يُجَنِّبَ رُبوعَ شامِنا هذه الفتن، هذا دعاءٌ مُلَخَصٌ الآن، وأحب أن ينتهيَ هذا المجلس المُبارك أيضًا بدعاءٍ مُفَصَّل، والحمد لله رب العالمين.



تشغيل

صوتي
مشاهدة