الدكتور محمد توفيق رمضان
أصول الفتوى الشرعية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن مسألة الفتوى في عصرنا هذا تعدّ من أهم ما يجب على الأمة أن تعنى بشأنه وتنتبه لخطورة ممارسته، سواء من حيث أهلية من يتصدى لها، أو من حيث القواعد التي يجب التزامها فيها .
ذلك أن الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في المسألة المطروحة. فما لم يكن من يتولى الفتوى على درجة من العلم تؤهله للإجابة عن المسألة المطروحة أمامه. وما لم يكن على درجة من التقوى والأمانة، فإن دين الله تعالى وحكمه سيكون عرضة للتضييع والتزييف والتحريف.
ولذلك فإننا نلاحظ أن كثيراً من أجلاء علماء الأمة، الذين عرفوا بتقواهم وورعهم، كانوا يتجافون عن منصب الفتوى، خشية أن يخطئ أحدهم في الحكم، فيكون مسؤولاً بسبب فتواه عن خطأ يرتكبه غيره.
وقد تحدث الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه المجموع عن شروط الفتوى وما يجب أن يتحقق في المفتي من المؤهلات فقال: )شَرْطُ الْمُفْتِي كَوْنُهُ مُكَلَّفًا مُسْلِمًا، وَثِقَةً مَأْمُونًا، مُتَنَزِّهًا عَنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ , فَقِيهَ النَّفْسِ, سَلِيمَ الذِّهْنِ, رَصِينَ الْفِكْرِ, صَحِيحَ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِنْبَاطِ, مُتَيَقِّظًا سَوَاءٌ فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْأَعْمَى, وَالْأَخْرَسُ إذَا كَتَبَ أَوْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ. .....
ثم قال: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا تَصِحُّ فَتْوَاهُ , وَنَقَلَ الْخَطِيبُ فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ, وَأَمَّا الْمَسْتُورُ وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَمْ تُخْتَبَرْ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا, فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ فَتْوَاهُ; لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ يَعْسُرُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى غَيْرِ الْقُضَاةِ , وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ , وَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِحُضُورِ الْمَسْتُورِينَ ) .وبما أن العلماء جعلوا الفتوى ثمرة للاجتهاد، فقد اشترطوا فيمن يتصدى للفتوى أن يكون أهلاً للاجتهاد. وأهلية الاجتهاد قد اشترطت لها شروط معروفة في كتب الأصول.
من ذلك ما ذكره الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى) عند بيانه للقطب الرابع من سفره القيم هذا الاجتهاد وشروط المجتهد فقال عند عرضه لـ: (الْقُطْبُ الرَّابِعُ ):[ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ, وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَجَهْدٌ, فَيُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ حَجَرِ الرَّحَا, وَلَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ, ....]
ثم بين شروط المجتهد فاختصرها بقوله: (الرُّكْنُ الثَّانِي الْمُجْتَهِدُ وَلَهُ شَرْطَانِ . أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّرْعِ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِثَارَةِ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَنِبًا لِلْمَعَاصِي الْقَادِحَةِ فِي الْعَدَالَةِ , وَهَذَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى فَتْوَاهُ فَمَنْ لَيْسَ عَدْلًا فَلَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ , فَكَأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الْقَبُولِ لِلْفَتْوَى لَا شَرْطُ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ .)
ثم أوضح معنى كونه محيطاً بمدارك الشرع، موضحاً المؤهلات العلمية التي لا بد منها في المجتهد، وذلك بإحاطته بما يجب أن يحيط به من القرآن والسنة، مما يتعلق بآيات الأحكام وأحاديثها. وكذلك الإجماع، فقال: (فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ) وكذلك الأمر بالنسبة للقياس ومعرفته بأصوله وقواعده.
إن أمر الفتوى كان موضع اهتمام من علماء السلف، مما حدا بهم إلى التأكيد على الشروط التي يجب أن تتحقق فيمن يتولى الفتوى.
ونحن اليوم أحوج إلى ذلك، لأننا نرى الجرأة على إصدار الفتاوى جزافاً غدت شأن كثير ممن ينتحلون صفة الدعاة أو العلماء؛ إما إرضاء لذي نفوذ، أو اتباعاً لهوى، أوطمعاً في الوصول إلى مغنم دنيوي. بل غدت دعوى الاجتهاد مطية لبعض المندسين الذين يريدون أن يتسوروا حصن هذا الدين ليقوضوا بناءه من داخله.
لذلك فإنه يجب على أهل العلم في هذا العصر أن يضعوا الضوابط الصارمة التي تصون ديننا من عبث العابثين وتشويه المحرفين، وغلو المتطرفين.
إن وجود هيئات علمية متخصصة تتولى أمر الفتوى أمر مفيد جداً لتحقيق هذا الهدف. ولكن بشرط أن تتكون هذه الهيئات نفسها من متخصصين أكفاء .
وبما أن بين الفتوى وأهلية الاجتهاد صلة وثيقة، فقد جعلت ورقتي في جزأين ، الأول منهما في أصول وضوابط الفتوى، والثاني : في خصائص الفتوى .
وتناولت في الجزء الأول أربع نقاط هي:
- تحديد مجال الاجتهاد .
- بيان المقصود بكلمة ( متخصصين أكفاء )
- بيان موقع الخبراء من هيئات الفتوى، و دورهم في الفتاوى التي تصدر عنها.
- مدى إمكان أن تصل الهيئة إلى رؤية واحدة في المسائل المطروحة، ومدى تقبل اختلاف أعضاء الهيئة في حكم المسائل المطروحة.
أما مجال الاجتهاد فإنه في غير مورد النص، إذ لا اجتهاد في مورد النص، وكما نصت المادة (16) من مجلة الأحكام العدلية: ( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ) ونفهم من كلمة النص معنييها، المعنى الأول : ما ورد فيه من الشارع بيانٌ لحكمه.
والمعنى الآخر : ما كان من الوضوح بحيث لم يعد قابلاً للتأويل. وهو ما ذكره الأصوليون في بيان درجات الوضوح في خطاب الشارع من الكتاب أو السنة. ومن ثم فإنه لا مجال لقبول رأي يصادم نصاً شرعياً بدعوى الاجتهاد.
وقد يجري الاجتهاد فيما ورد به للشارع خطاب، و إنما يكون الاجتهاد عندئذ في وجوه دلالة هذا الخطاب. وذلك عندما يكون ظني الدلالة على المعاني التي تفهم منه. فقد ذهب بعض الأصوليون إلى الأخذ بمفهوم المخالفة للنص، وذهب فريق آخر إلى عدم الأخذ به. وذهب بعضهم إلى أن دلالة اللفظ العام على أفراده قطعية، ومضى بعضهم إلى أنها ظنية...وتبقى أمثال هذه المسائل ضمن ساحة الاجتهاد.
ثم إن مجال الاجتهاد في عصرنا هذا يجب أن يكون في مستجدات القضايا، أي أن نبدأ من حيث انتهى السلف في اجتهاداتهم، لا من حيث ابتدؤوا . فإن القضايا التي فرغوا منها قد أشبعت بحثاً، ولم يعد ثمة ما يقتضي البحث فيها؛ سواء منها ما كان موضع اتفاق، أو كان موضع اختلاف. وقد وجدنا أن اختلافهم كان مظهر سعة ومرونة في طبيعة الخطاب الشرعي أو دلالاته.
لقد ترك السلف الصالح بين أيدينا ثروة علمية زاخرة، تتمثل في تلك المكتبة الغنية لفقه المذاهب الأربعة وغيرها، هي حصيلة جهود مضنية مخلصة، تكونت خلال قرون طويلة. وإذا كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى – مثلاً – قد توفي عام أربع ومائتين[1]، وهو إمام مذهبه؛ وكان شمس الدين الرملي[2] الذي إليه وإلى ابن حجر الهيتمي[3] مآل الفتوى في المذهب الشافعي، قد توفي عام أربع وألف للهجرة؛ وكان علماء هذا المذهب من طبقة الأصحاب والمجتهدين في المذهب، وطبقة المرجحين بين الأقوال والوجوه فيه يحققون ويمحصون، إلى أن جاء عصر المفتين، الذين يمثلون الثمرة اليانعة لتلك الجهود المباركة، ليوضحوا الحكم الفصل في المسائل. فإن ذلك يعني أن السلف لم يكونوا مجرد أتباع يسلّمون بكل ما قال إمامهم، بل كان العالم منهم، وهو الملتزم بالقواعد العامة لإمامه، كثيراً ما يختلف معه في الحكم. وهذا يعني أن مذهب محمد ابن ادريس الشافعي ظل ينمو ويحقق طيلة ثمانية قرون. مما أنتج لنا ثروة علمية عظيمة، تتمثل في مئات المجلدات، وأن هذا المذهب قد حُقِقت أقواله ومحصت مسائله، وفق القواعد التي وضعها إمامه، حتى بلغت درجة عالية من التحقيق والتدقيق. و إنما ذكرت هنا مذهب الإمام الشافعي على سبيل المثال، والأمر كذلك في المذاهب الأخرى.
لذلك فإنه ليس من حق الأجيال الحاضرة أن تعطل هذا التراث الغني عن أداء وظيفته، في إقامة نظام للحياة والعلاقات المختلفة، كما أمرها بذلك خالقها؛ على نحو يحقق العدل والسعادة والطمأنينة. كما أنه ليس من حقنا أن ندع هذا الصرح التشريعي الشامخ يقف عند الحدود التي تركها لنا سلفنا الصالح، بل علينا أن نتابع الجهد في إتمام بنائه، ليلبي حاجة عصرنا، كما لبى حاجة العصور السالفة، وعصرنا عصر التطورات السريعة والمثيرة.
على أن للأخذ بفتاوى السلف ضوابط لا ينبغي الخروج عنها، ولعل في مقدمتها أن يكون الرأي المتبع معتمداً بالنظر إلى قواعد مذهبه. إذ إن تصيد الأقوال الضعيفة والمردودة يمكن أن يخرج بنا عن ضوابط الشريعة، ويميع حدودها، ويغدو سبباً للتفلت من أحكامها.
كما لا بد من الإشارة إلى أن الإجتهادات التي وصل إليها السلف إما أن تكون مبنية على نصوص، أو على أعراف أو على مصالح. أما ما بني على نصوص فلا سبيل إلى تبدله. وما كان مبنياً على أعراف فيمكن أن يتبدل بتبدل العرف الذي يستند الحكم إليه. وكذلك الحكم المبني على مصلحة مرسلة يتبدل الحكم بتبدل وجه المصلحة التي بني عليها.
أما النقطة الثانية : فتتناول بيان معنى اشتراط أن يكون أعضاء هيئة الفتوى من المتخصصين الأكفاء:
إن النبي r قال فيما رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه : (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ )
مما لا شك فيه أن اقتحام المرء لمجال لا معرفة له بفنونه، ولا دراية له بأصوله أمر مرفوض . وإذا كان النبي r قد حمّل من مارس التطبيب عن غير دراية ضمانَ نتائج سوء عمله، فإن هذا يسري إلى كل الاختصاصات. و يقتضي هذا من باب أولى أن يحال بين من ليست له دراية بالعلم الشرعي ومعرفةٌ بأصوله وقواعده وبين التصدي لإصدار الفتاوى فيه.
قد يقول قائل : كلنا مسلم، وهذا ديننا، فلماذا يحال بيننا وبين التحدث في مسائله العملية. أعتقد ان الجواب على هذا الكلام واضح لكل منصف بل لكل عاقل. إن المسلم مكلف بمعرفة ما يجب عليه من أمور عقيدته وعبادته ومعاملاته، مما يلزمه ويمارسه خلال حياته. ومعرفته لذلك فرض عين لما هو مقدِمٌ عليه، على وجه الفورية فيما ترتب وجوبه عليه، وعلى التراخي فيما لم يجب عليه بعد، أو لم يقدِم على ممارسته بعد. وثمة إشكالات تعترضه أحياناً، مما لا يتكرر عادة، وعندئذ يطالب بالسؤال عنه عندما يتعرض لذلك، عملاً بقوله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وإنما يسأل العلماء الذين تفرغوا لتعلم أحكام هذا الدين وتعليمه في شتى التخصصات العلمية: من فقه وأصول وتفسير وحديث وعقيدة وأخلاق وتزكية، ...الخ
وإن المتخصص في فن من الفنون لا يعاب عليه عدم معرفة دقائق الفنون الأخرى، وإنما يعاب عليه أن يخوض فيما لا دراية له فيه، ويتحملُ مسؤولية الخطأ الذي يرتكبه نتيجة تجاوزه لما هو من اختصاصه.
وكما أن القوانين تمنع من لا يحمل المؤهل العلمي من ممارسة الفن الخاص به، بأن يمارس الهندسة وهو لم يدرس علومها، أو يمارس الطب وهو ليس بطبيب، فكذلك لا يحق لمن لم يدرس الشريعة بصورة تؤهله لمناقشة القضايا الاجتهادية فيها أن يدعي ما ليس له.
لذا فإنه لا بد أن يثبت من تصدى للفتوى أنه مؤهل لذلك علمياً ، ويجب أن توضع الشروط والضوابط التي تضمن تحقيق ذلك. أما ما ذكره العلماء من اشتراط أن يكون المفتي مجتهداً ، فقد ورد في الموسوعة الفقهية من شروط المفتي: (الِاجْتِهَادُ وَهُوَ : بَذْلُ الْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ , لقوله تعالى : ( قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ), قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ : لا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ الله, إلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ : بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ , وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابَهِهِ , وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ , وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ, وَمَا أُرِيدَ بِهِ. وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْرِفُ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنْ الْقُرْآنِ , وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ , بَصِيرًا بِالشِّعْرِ , وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ وَيَسْتَعْمِلُ هَذَا مَعَ الْإِنْصَافِ, وَيَكُونُ مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ , وَتَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا , فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ . ا هـ . وَهَذَا مَعْنَى الِاجْتِهَادِ . وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَمَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ : أَنَّ فُتْيَا الْعَامِّيِّ وَالْمُقَلِّدِ الَّذِي يُفْتِي بِقَوْلِ غَيْرِهِ لَا تَصِحُّ)
إن هذا الشرط يؤكد أهمية المؤهل العلمي فيمن يتصدى للفتوى. وإذا كان شرط الاجتهاد بضوابطه ليس من السهل توافره اليوم، بحيث يؤدي الدور المطلوب منه؛ مما يعني عدم وجود مرجعية إفتاء يتحقق فيها الشرط المطلوب لسبب أو لآخر. لذلك فإن من الممكن أن نذهب في مصطلح الفتوى مذهباً آخر، بحيث يفيد مجردَ إخبارِ الفقيه بالحكم الفقهي من مرجعه، ملتزما في ذلك: المعتمدَ من المذهب الذي يتبعه. وقد يكون قادراً ، مع ذلك، على نقل الحكم الفقهي المعتمد في المذاهب الأخرى، ومناقشة الأدلة وفق منهج الفقه المقارن. ولكن ذلك كله لا يعني أنه يتصف بالقدرة على الإجتهاد.
على أنه يمكن أن يكون المرء مجتهداً اجتهاداً جزئياً في مسألة من مسائل الفقه، أو في باب من أبوابه. فإن كان كذلك، فإن لنا أن نعتمد فتواه ضمن ذلك الجزء الذي يمكنه أن يجتهد فيه.
يمكن ان نقول إن الفتوى في مدلولها اليوم إنما تعني مجرد نقل الفقيه للحكم المعتمد من مذهبه في المسألة المطروحة.
إنني هنا لا أدعي إغلاق باب الاجتهاد، ولكني أريد ان يكون إطلاق هذه الكلمة دقيقاً حيث أطلقت، لئلا يدعي متطفل ما ليس له، فيجعل من ذلك ذريعة ليرتع في شرع الله وفق هواه، وهو غريب عن الفقه فضلاً عن الاجتهاد. والله تعالى يقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب . إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) وإن الذي يتصدى للفتوى، وهو غير أهل، يتجرأ على أمر في غاية الخطورة. كيف لا، وهو يخبر عن الله تعالى من غير دليل ولا برهان.
إننا اليوم في أشد الحاجة إلى وجود علماء أكفاء، لديهم من فقه النفس والمؤهلات العلمية ما يجعلهم قادرين على النظر في مستجدات القضايا، وما أكثرها اليوم، للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح والدقيق، الذي لا يميل إلى هوى، ولا يزيغ إلى شهوة نفس.
النقطة الثالثة التي أريد أن أقف عندها هي: موقع الخبراء من هيئة الفتوى:
أعني بالخبراء هنا المراجع المختصة في غير العلوم الشرعية، والذين نحتاج إليهم لتوضيح بعض الجوانب الضرورية التي يعتمد عليها في بيان الحكم الشرعي. وأذكر مثالاً لذلك: بأن يُسأل الأطباء المختصون ما إذا كان المرض الذي أصيب به المستفتي يضر الصومُ بصاحبه أم لا ؟ أو أن يُسأل الكيميائيون والصيادلة ما إذا كانت جميع أنواع الكحول مسكرةً أم لا، من أجل الحكم بنجاستها مثلاً ؟ أو بالرجوع إلى علماء الفلك حول قضية ثبوت رؤية الهلال، وهل تلزم رؤيته في بعض البلاد سائر البلاد ؟
إن هؤلاء الخبراء يعدّون مرجعاً مهماً للفقهاء من أعضاء هيئات الفتوى، إذ يبني هؤلاء الفقهاء الكثير من الأحكام الشرعية على الرؤية التي يعرضها الخبراء.
إلا أن هؤلاء الخبراء لا ينبغي أن يكونوا محكّمين في الحكم الشرعي الذي يعتمد على دراية فقهية. إنما يقتصر دورهم على توضيح الأمور المتعلقة باختصاصهم العلمي. والذي يعدّ أساساً للحكم الشرعي الذي يصدره أعضاء هيئة الفتوى، بناء على القواعد الواجب التزامها من أسس الاجتهاد في الحكم الشرعي.
وأخيراً النقطة الرابعة: هل يجب أن تصل الهيئة إلى رؤية واحدة في كل مسألة تطرح ؟
أعرض المسألة هنا من خلال جانبين، الجانب الأول: هل يجب أن تصل الهيئة إلى رؤية واحدة ؟
والجانب الآخر : كيف تصل الهيئة إلى الفتوى التي تعتمدها ؟
إن اختلاف الاجتهادات في المسائل غير المنصوص عليها أمر قائم في فقهنا الإسلامي، ومألوف في المذهب الواحد. وهو أمر جرى في عهد الصحابة رضوان الله عليهم. فليس في اختلاف آراء العلماء أي مشكلة، ما دامت تلك الآراء صادرة عن أصحابها بناء على أساس علمي و استدلالٍ منهجُه سليم.
وهذا الاختلاف مظهر من مظاهر مرونة النص من جهة، كما أنه استنهاض للكفاءات العلمية المتخصصة في هذا المجال، لتدلي بدلوها، وتغني المسائل المطروحة بالبحث. وما دامت الآراء الصادرة مؤيدة بأدلتها؛ فإنه لدى النقاش لا بد أن تضيق زاوية الاختلاف إلى حدّ بعيد. أو لعلها أحياناً تتلاشى.
فإذا انتهت هيئة الفتوى إلى قرار متفق عليه فتلك خير نتيجة يأملها المرء ...
ولكن الاتفاق على المسائل الظنية والاجتهادية ليس حتماً في كل ما يعرض. فلقد ظلت كثير من المسائل موضع اختلاف في حكمها عند العلماء. وهذا، كما ذكرت، ليس أمراً سلبياً في طبيعة الفقه الإسلامي. ولا يعني الخصومة أو التنازع. بل هو مظهر تعاون للوصول إلى الفهم الأفضل. وقد تمسك البعض لرأيه ردحاً من الزمن، ثم وجد في الرأي الآخر مخرجاً من الحرج الذي وقع فيه، فمضى يتبعه.
إنني أرى أن اختلاف وجهات النظر في المسألة الواحدة ظاهرة إيجابية، ما دامت الآراء مستندة إلى أدلة وقواعد علمية سليمة، لا إلى عصبية وتشبث معاند.
وقد ألِفَت هيئاتُ الفتوى أن تصدر أحكامها في القضايا التي تطرح بعد تصويت، وتأخذ برأي الأكثرية. وأنا أتحفظ على هذا الأسلوب. فالحكم الشرعي لا يتبع في صحته الأكثرية أو الأقلية؛ إنما يستمد قوته من الدليل والبرهان الذي يستند إليه. فإن أمكن أن يصل المتحاورون إلى اتفاق فذاك، وإلا فإن رأي فريق لا ينبغي أن يلغي رأي الآخرين. والحق في المسائل لا يتبع رأي الأكثرية، إلا في صورة الإجماع الذي يعتبر دليلاً مستقلاً بشروطه.
والذي أراه أن يتضمن قرار هيئة الفتوى الآراء كلها منسوبة إلى أصحابها.
وتتضمن محاضر الجلسات تفاصيل المناقشات والأدلة التي اعتمد عليها كل فريق.
إنني أعتقد أن تضمن قرار هيئة الفتوى لجميع الآراء، منسوبة إلى أصحابها، يكسب الهيئة ثقة أكبر بها من قبل أعضائها، ومن قبل المهتمين بمتابعة قراراتها.
خصائص الفتوى
لقد قام هذا الدين على أسس من الواقعية والتيسير ورفع الحرج. فالله تعالى يقول في كتابه العزيز:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) سورة البقرة: 185 ويقول: ( ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ) سورة الحج: 78 كما يقول: ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً ) سورة النساء: 28
ولكن هذا التيسير قد رسم الشارع حدوده، ولم يدع أمره لأهوائنا. لذلك فهو منضبط بقواعد وأسس لا يجوز تجاوزها. وفرقٌ كبير بين تساهل غير منضبط، وبين تيسير له قواعده وضوابطه.
ومن مظاهر التيسير المنصوص عليها:
- إسقاط وجوب صلاة الجمعة بعذر المرض والسفر ونحو ذلك[4].
- التخفيف عن المريض في الصوم بالترخيص بالإفطار ثم قضاء صيامه بعد شفائه، وإذا كان عذره لا يرجى زواله فقد رخص له بأن يبذل فدية من صدقة مالية بسيطة بدلاً من صيامه[5].
- والتخفيف عن المريض الذي لا يستطيع أن يتوضأ أو أن يغتسل، عند وجود موجب للغسل، بأن يتيمم[6]
- تخفيف أداء الصلاة على المسافر سفراً طويلاً مقدراً بمسافة معينة فما فوقها بقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين. وجواز جمع صلاتي وقتين في وقت إحداهما، بما سموه جمع تقديم أو جمع تأخير، بأن يصلي المسافر الظهر والعصر في وقت الظهر معاً، أو أن يصليهما في وقت العصر معاً[7].
- الترخيص بأكل المحرم أو شرب المحرم عند التعرض لخطر الموت بشدة جوع أو عطش أو نحو ذلك؛ عملاً بقوله تعالى (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فلا جناح عليه).
- الترخيص للمريض غير القادر على القيام في صلاته أن يصلي جالساً، فإن لم يستطع فمضطجعاً فمستلقياً ..الخ، والتيسير على المسافر أن يصلي النوافل دون الفرائض جالساً، وعدم اشتراط استقباله القبلة بل تكون قبلته وجهة سفره[8].
ولكن هذا التيسير المنصوص لا يسوغ لأحد القول بالترخيص بترك الصلاة، أو جمع صلاتين لم يرد النص بجمعهما. إن ثمة قواعد وضوابط يجب التزامها في ذلك.
كما أن تغير الأحكام له مجاله، فليست كل أحكام شريعتنا قابلة للتغيير. ثمة ثوابت ثبتت بمقتضى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) وبمقتضى انقطاع الوحي.
كما أن هذه الشريعة قامت على مراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد. والمصالح إما ان تكون معتبرة شرعاً، ومنصوصاً على الأخذ بها. وإما أن تكون ملغاة، لا يعتد الشارع بها. وإما ان تكون مصالح لم يرد نص باعتبارها ولا بإلغائها.
ويمكن عرض مثال للمصالح المنصوص عليها، والمتمثلة بالمقاصد الكلية الخمسة التي هي مدار الأحكام الشرعية كلها، بتشريع النكاح وتحريم الخمر...
ويمكن ذكر مثال للمصالح الملغاة التي لم يعتدّ الشارع بها: بتحريم الربا، إذ حرّمه الشارع على الرغم مما يبدو من أنه باب للكسب.
وثمة مصالح لم يرد نص باعتبارها ولا بإلغائها، وهي تلك التي تسمى ( المصالح المرسلة ) والتي بنيت عليها كثير من الأحكام الشرعية. لأنها تندرج تحت مقاصد الشريعة وإن لم يرد نص باعتبارها ولا بإلغائها.
ويمكن ذكر الأمثلة التالية للاجتهادات المصلحية:
1- لقد جمع القرآن بناء على رؤية لمصلحة حفظ الدين، مع أنه ليس ثمة أي نص يوجب ذلك أو يمنعه مباشرة، ولا شك أن جمع القرآن ونسخه من أهم ما يحقق مصلحة حفظ الدين[9].
- وأمَرَ عمرُ رضي الله عنه برسم نظام لبناء مدينة الكوفة، حدد فيه عرض شوارعها، فجعل سعة الطريق المنهج أربعين ذراعاً، ولما دون ذلك ثلاثة وعشرين ذراعاً، وللأزقة سبعة أذرع . وأمر أن يكون بناء بيوتها من اللبن،[10] وغير ذلك من النظم المهمة لإصلاح شأن هذه المدينة بما يحقق مصلحة سكانها، بناء على المصلحة المرسلة التي لم يرد نص باعتبارها ولا بإلغائها.
- ما أفتى به سيدنا عمر رضي الله عنه من قتل الجماعة بالواحد إذا تواطؤوا على قتله. لأن مصلحة الزجر التي شرع القصاص لتحقيقها لا تتحقق بغير ذلك. وتلك الفتوى ليست واردة بنصها في الكتاب الحكيم، ولا في السنة المطهرة، وهذا مما يندرج فيما يسمى بالسياسة الشرعية.
كما أنها لا تخالف النص الذي تضمن قتل القاتل قصاصاً، دون التعرض للجماعة إذا قتلوا.[11]
فالمصلحة بحد ذاتها مصدر تستمد منه الشريعة بعض أحكامها ضمن ضوابط محددة.
الثوابت والمتغيرات في الفتوى والاجتهاد:
وثمة أحكام بنيت على متغيرات تتغير بتغيرها، كما أشرت قبل قليل. فما بني على عرف يتغير بتغير ذلك العرف. فقد ذهب العلماء في قواعد الشهادة وشروطها إلى اشتراط العدالة، ومن مقومات العدالة عدم ارتكاب ما يخل بالمروءة، ثم بينوا أن مسألة ما يخل بالمروءة يعود تقديرها إلى العرف السائد. فما يكون مخلاً بالمروءة في عرف مجتمع ما قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر. قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى في شرح الروض: ( الشَّرْطُ الْخَامِسُ الْمُرُوءَةُ وَهِيَ تَوَقِّي الْأَدْنَاسِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمِنْهَاجِ كَأَصْلِهِ الْمُرُوءَةُ تَخَلُّقٌ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ لِأَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْبُلْدَانِ)[12] وكذلك فإن الحكم المبني على مصلحة، إذا تبدل وجه المصلحة فيه لسبب ما، فاقتضى تغيير الأحكام المبنية على المصلحة الأولى، فإن الحكم يتبدل بتبدل تلك المصالح.
فتحديد عرض الطريق اقتضته مصالح فرضتها طبيعة وسائل النقل وكثافة السكان في ذلك العصر، وقد تقتضي الظروف المعاصرة بتبدل وسائل النقل وتطورها، وتزايد الكثافة السكانية أن تتبدل النظم التي اقتضت تحديد عرض الشوارع وأنظمة السير فيها مثلاً.
ووجود سجلات قضائية تضبط واقعات الزواج وما يترتب عليها أمور مستحدثة قضت بها المصالح.
وإن إنشاء المصارف الإسلامية اليوم يجسد إمكان تحقيق المصالح المعاصرة دون اللجوء إلى مخالفة المبادئ الشرعية،إجمالاً. ودون الاضطرار لمخالفة النصوص. بل لقد أثبتت هذه المصارف أنها متميزة في نجاحها - على الرغم من كل المحاولات لعرقلة سيرها، وتشويه صورتها، وكونها لا تزال في مرحلة النمو الأولى- ولقد أثبتت جدارتها دون أن تمارس في حركتها التنموية والاستثمارية الأنشطة المحرمة شرعاً. وهي في طريق التطور إلى ما هو أفضل بإذن الله.
والعلماء المعاصرون لهم اليوم مجامعهم الفقهية[13] التي يقومون من خلالها بتداول الرأي في مستجدات القضايا، للنظر في حكمها الشرعي، وفق القواعد الشرعية المقررة. وعملهم هذا يندرج فيما يسمى بالمصطلح المعاصر: بالاجتهاد الجماعي الذي يتم من خلال حوار علمي جاد، ينتهي إلى قرارات تلبي المصالح المستجدة، ولكن بصورة منضبطة بقواعد علمية، وأسس صحيحة. لا تعطل النص ولا تخرج على القواعد.
وبعد فإني أرجو ان أكون قد وفقت لبيان أهم أصول الفتوى المعاصرة، وأبرز خصائصها. وأن يكون في هذه الورقة ما يخدم هدف هذا المؤتمر المبارك، في خدمة شريعتنا الغراء والنهوض بأمر ديننا. وان يتقبل الله تعالى مني ومنكم إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمي