مميز
EN عربي
الكاتب:
التاريخ: 30/07/2017

تزكية النفوس (هدف التصوف)

مقالات

بسم الله الرحمن الرحيم
تزكية النفوس (هدف التصوف)
وطريق الوصول إلى صلاح الفرد والمجتمع
د. محمد توفيق رمضان البوطي
كلمة مؤتمر العلماء العالمي لمنظمة الطرق الصوفية المعتبرة في ماليزيا وحفلة الذكر الكبرى
المنعقد في كوالالمبور عام 2017
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين وبعد
فلقد خلق الله تعالى الإنسان وعهد إليه بخلافته في الأرض، بعد أن أودع فيه فطرة الخير والهدى، وابتلاه بشهوات لها وظيفتها المهمة في حياته، إلا أنه إذا ما أساء في الاستجابة لرغباته فإنه يناله الضر في نفسه، ويصل الضرر من خلاله إلى مجتمعه. وأودع في نفس الإنسان صفات من شأنها إذا صلحت ان تكون أساساً لشخصية متزنة إيجابية، وإذا فسدت كانت وبالاً على صاحبها وعلى المجتمع.
أودع فيه الفطرة التي يرتضي بها الخير والإحسان والأمانة والصدق، ويهتدي بها إلى الحق والهدى، من خلال عقل وهبه الله إياه، ودلائل الحكمة التي بثها في كيانه ومن حوله.
وابتلاه برغبات كشهوة الطعام الضرورية لحياته، ورغبة كل من الرجل والمرأة إلى بعضهما، وهي رغبة ضرورية لبقاء نوعه، واستمرار الجنس البشري، وغيرهما من الرغبات التي تلبي حاجات أخرى في حياته.
وأودع فيه من الصفات ما يرفع من شأنه ويزيده إيجابية واتزاناً، التواضع من غير مذلة، والعزة من غير تكبر، وكرم يحقق التكافل والتضامن والتراحم، وشجاعة من غير عدوانية، وأمل لا ينسيه حقيقة الموت، وتذكر للموت لا ينسيه قيمة الحياة وحسن استثمارها.
هذه هي النفس الإنسانية التي عهد الله إليها بالخلافة، لتقوم بتحقيق منهج الله في أرضه، وتكون مظهر عدالته ورحمته وحكمته. ولن تستطيع أن تقوم بوظيفتها إلا إذا سلمت منها الفطرة، واستقامت في الاستجابة لرغباتها، فوظفت تلك الرغبات لما خلقت له، ولم تستعبده لأهوائه، ولم يقهرها فيصادم فطرته.
ولن يستطيع المرء ذلك إلا إذا كان له على نفسه سلطان يكبح جماحها، ويوجهها إلى ما يسمو بها وينفعها. وفي هذا يقول ربنا سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)
فما منهج التزكية لبناء نفس سوية، ومن ثم لبناء مجتمع صالح؟
يتلخص منهج تزكية النفس في صورته السلبية في قوله تعالى: (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) الأنعام120 وفي صورته الإيجابية في أمور متعددة؛ هي التي تسمو بالنفس فتجعلها قادرة على تجنب ظاهر الإثم وباطنه.
سبيل بناء النفس الطيبة والمجتمع الصالح:
- الإيمان الراسخ المبني على أساس عقلي علمي ووجداني عاطفي. وسبيله المعرفة التي دلنا عليها قوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) الإسراء36. والأساس الوجداني بأن تقوم علاقته مع ربه على أساس من الحب والخشية والحياء، نتيجة مراقبة وجدانية مستمرة في الإنسان لربه (ألم يعلم بأن الله يرى) حتى يبلغ درجة الإحسان التي وصفها النبي e بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [أخرجه البخاري]
ظاهر الإثم وباطنه: لعل أكثر المسلمين يدركون ظاهر الإثم وهي المعاصي المرتكبة بالجوارح من سمع وبصر وعين ويد ونحو ذلك باستخدامها في المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب، والنظر إلى المحرمات والاستماع إلى ما يحرم سماعه، ومد اليد إلى حقوق الآخرين أو إمساكها عن البذل فيما أمر الله ببذله وأكل أموال الناس بغير حق ...الخ. أما باطن الإثم فقد لا يطلع عليه الناس، ولكن الله لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في أنفسنا، يعلم الرياء في عمل المرائي، والحسد والحقد والكبر مما يخفى عن الناس، ولكن لا يخفى عن الله. وسبيل تجنب ظاهر الإثم وباطنه إنما يكمن في بناء النفس المؤمنة الصالحة الطيبة، والفرد نواة المجتمع. فإذا أردنا بناء مجتمع صالح فيجب ان نبدأ ببناء الفرد الصالح، وبناء الفرد الصالح سبيل بناء الأسرة الصالحة، والأسرة هي اللبنة في بناء المجتمع الصالح. والمجتمع الصالح هو المجتمع الحضاري الذي يلتزم أفراده بطاعة ربهم وحسن التعامل فيما بينهم، من صدق الحديث، ووفاء الوعد، والتزام العهد، وكما قال النبي e: " المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه"
إذا كانت التزكية تهدف إلى بناء النفس الصالحة والمجتمع الصالح؛ فما سبيل ذلك؟
- تصحيح معرفتنا بعقيدتنا بصورة علمية مستمدة من منهج أهل السنة والجماعة.
- تصحيح معرفتنا بعباداتنا ومعاملاتنا ونظام العلاقات الأسرية؛ وفق المذاهب الفقهية المعتمدة. لأن من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. ولأن ديننا مبني على المعرفة والعلم.
- توطيد الصلة بالله سبحانه من خلال إدراك معاني الصلاة وروحها، ولا نكتفي بتصحيح صورتها فقط. ومن خلال كثرة ذكر الله تعالى. فهو سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) وكثرة الذكر لم يحدد ربنا تعالى مقدارها؛ بل أطلق مبدأ الكثرة. والذكر ليس مجرد تمتمة باللسان ولا طقطقة بالسبحة، بل هي حالة يستحضر فيها القلب ذكر الله بذكر نعمه وقدرته وحكمته والموقف بين يديه ... ويتدبر آياته في كتابه المنظور [الكون] وفي كتابه المقروء [القرآن]. ولذكر الله صور، فقد حضنا ربنا أن نذكره على كل حال، فقال في وصف عباده المؤمنين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) وقال: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) وحذر من الغفلة لأنها سبب تسلط الشيطان على القلب، فقال: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) والغفلة عن الله تتيح الفرصة لشياطين الإنس والجن للإفساد بين الناس، قال سبحانه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً )
فإذا تحققت رقابة الله في قلب المرء كان ذلك وازعاً ذاتياً يحول بينه وبين الفساد والظلم والاعتداء على الآخرين. ولعل الكثير منكم سمع بقصة تروى عن عمر أنه سمع امرأة تأمر ابنتها بأن تغش اللبن بالماء، فقالت البنت: أما سمعت أن عمر نهى عن ذلك. فقالت لها وأين عمر الآن؟ فقالت يا أماه إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا. إنها التربية الإيمانية التي يجب أن نرسخها في نفوسنا ونفوس ناشئتنا. وإذا لم يحقق الذكر والعبادة فينا هذا المعنى فليست عبادتنا عبادة، وليس ذكرنا ذكراً.
- مصاحبة الصالحين الذين تنهض بصحبتهم همتنا نحو الخير والاستقامة، والسعي لتوفير بيئة صالحة من حولنا بأن نختار أصحابنا ومن نجالسهم.
- محاسبة النفس وكثرة الاستغفار. وكثرة الاستغفار مراجعة للذات وعودة إلى نهج الخير، وعهد بين العبد وربه على الاستقامة.
إذا أخذنا أنفسنا بهذه الأمور، والتزمنا بها، وحاولنا تربية أولادنا على ذلك، وكنا القدوة الحسنة لهم في هذا المسلك تحققت الأسرة الصالحة التي يسود علاقة أفرادها الحب والاحترام والتراحم. ومن خلال ذلك يبدأ بناء المجتمع كله على هذا المنهج.
وعندئذ يتحقق المظهر الحضاري لمجتمعنا؛ جديةً في العمل، وإخلاصاً في القصد، وصدق في الحديث، ووفاء بالوعد، وحرص على سلامة الفرد وسلامة البيئة والمحيط.
وعندئذ لن يجد الإرهاب والتطرف إلى نفوس أبناء امتنا سبيلاً، ولن يصاب شبابنا بالكسل والتقاعس، فالوازع الداخلي هو الأقوى في التأثير على سلوك الفرد وعلاقات المجتمع، وجديةُ الالتزام واجب ديني ينهض بأمتنا نحو التطور والتقدم ضمن إطار يوظف معطيات الحضارة توظيفاً صحيحاً.
أصِلُ من خلال عرض هذه العجالة أن علينا أن نجعل من الذكر والتربية الوجدانية وسائر العبادات قاعدة لإصلاح السلوك وتصحيح العلاقات، وبناء مجتمع متماسك متين. ومنطلقاً لنهضة حضارية واعية تنبذ التطرف، وترفض الانحراف، ونضع فيها نصب أعيننا الموقف بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعمل صالح، ومعاملة طيبة مع الآخرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. محمد توفيق رمضان

تحميل