مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/10/2020

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي بتاريخ 9 / 10 / 2020

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ويقول جلّ شأنه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، ويقول سبحانه: (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم)، ويقول النبي ﷺ أنه قال: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ)).


أيّها المسلمون؛ تحدثنا عن أن الطريق إلى المعرفة ينبني على قاعدةٍ ملخصها [إذا كنت ناقلاً -؛ أي لحديثٍ أو حدث – فالصحة]؛ أي تأكد من صحة نقلك وذلك من خلال إسناده والرواة الذين تناقلوا الخبر حتى وصل إليك. والشق الثاني: [وإذا كنت مدعياً فالدليل]


 والدعاوى بابها واسعٌ وأنواعها كثيرة. وقد أحسن المسلمون دخول ذلك الباب، وأبدعوا في صنوف العلم والمعرفة، سواءٌ منها ما يتعلق بديننا من فقهٍ وأصولٍ وغيرها من العلوم بشتى أصنافها، أم كانت من العلوم المتعلقة بهذا الكون على اختلاف أصنافها، انطلاقاً من قواعد ربانية فيها قوله سبحانه: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ويقول سبحانه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ). حدا ودفع بالإنسان إلى التأمل والتدبر والتفكير ليصل إلى حقائق هذا الكون بل إلى حقيقة ذاته.


ألم يقل ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)؟ إذا تأملت هذه الأرض، ثمة آياتٌ للذين يتفكرون ليصلوا إلى الحقيقة. وكذلك تأمل في نفسك أنت؛ تجد من الآيات والدلائل ما يوصلك إلى أعظم الحقائق ويزيدك إيماناً ويقيناً بخالقك.


هذه القواعد أو هذا الحض الإلهي على التدبر والتفكير واستخدام العقل الذي أكرمنا الله U به لنصل إلى حقائق هذا الكون ومعرفة أنفسنا، قد أعطى نتائج مذهلة في تاريخنا الإسلامي. فبرز وبرع عباقرةٌ في تاريخ أمتنا منذ القرون الأولى من تاريخ الإسلام ونشأة المجتمع الإسلامي، إلى أن بدأ المسلمون يعزفون عن دينهم فعزفت الحضارة عنهم وتراجع شأنهم.


انظر إليهم كيف كانوا يعيبون على التبعية العمياء. وهذا من القرآن؛ قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) كان الكفرة يصرون على أن يتبعوا آبائهم؛ أن يطيعوا سادتهم وأمراءهم. عاب عليهم التبعية العمياء، إن كان للآباء والأجداد أم للزعماء والقادة، دعاهم إلى أن يعملوا عقولهم ويتدبروا.


برز علماء كثيرون، والتزموا قواعد؛ القاعدة الأولى: رفض الخرافة. وكل الخزعبلات والترهات التي كانت شائعةً هنا وهناك ينبغي ألا تجد طريقها إلى عقولنا ولا إلى أفكارنا، ولا أن تلقى القبول من أناسٍ وهبهم الله العقل والتفكير. ومن الغرائب في هذا الأمر أن ابن حزمٍ الأندلسي عاب على ما كان شائعاً في بعض الناس، لعله من اليهود أو غيرهم، من أن النجوم تتحدث وتعقل ولها تأثيرها على الإنسان، وذلك أدى بالنتيجة إلى نسبة كثيرٍ من الأحداث إلى النجوم ومنازلها.


ولا تستغربوا هذا الأمر ففي مثقفينا اليوم من يربط السعادة والشقاء والحظوظ وغيرها بمنازل الكواكب والأبراج؛ ألا ترون ذلك في بعض منابع الثقافة المعاصرة؟! أليس هذا تخلفاً وخرافة يلجأ إليها أناسٌ ينتسبون إلى الثقافة والعلم! وعاب ابن خلدون على أولئك الذين يقولون: "إن السود من البشر إنما هم أبناء حام بن نوح دعا عليهم فصاروا سوداً، ونشأ من ذلك جيلٌ أسود!!! خرافةٌ ما أنزل الله بها من سلطان. ونسوا أن البيئة تؤثر في شكل الإنسان، وفي لونه، وفي غير ذلك من صفاته وذلك مرده طبيعة المناخ والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.


ومن الأمور التي ينبغي أن نلتفت وننتبه إليها في هذا الموضوع أن أمتنا كان لها قصب السبق في كثيرٍ من العلوم. نهلوا من مناهل العلوم الهندية واليونانية وغيرها، ولكنهم لم يتقبلوها قبول التابع، بل محصوا فيها وحققوا فيها وطوروا فيها وصححوا أخطاءها.


فكان من عباقرة أمتنا محمد بن موسى الخوارزمي الذي يعد من عباقرة التاريخ والذي تدين له تطورات علم الحاسوب اليوم "الكمبيوتر" تعتمد على الخوارزميات التي كان قد أبدعها ووصل إليها؛ كان عالماً بالحساب، عالماً بالجبر، عالماً بالفلك، عالماً بكثيرٍ من العلوم؛ ولا تزال العلوم تدين لهذا العالم بكثيرٍ من تطورات العلوم المعاصرة اليوم.


ومن هؤلاء العلماء أيضاً جابر بن حيان الذي كان له دوره في الجبر والهندسة وعلم المثلثات. ومن هؤلاء الشاعر المشهور عمر الخيام الذي استطاع أن يربط ما بين علم الفلك والجبر والهندسة؛ ربط فيما بين هذه العلوم، ووصل إلى عددٍ من النتائج. ومن هؤلاء ابن الطفيل الذي سبق إلى القول بكروية الأرض. بل إن المسلمين كثابت بن قرة الحراني بيّن طول السنة الشمسية بالدقائق والثواني مما أكدته العلوم المعاصرة مع ما وصلت إليه من تطورٍ عظيمٍ بالوسائل والقواعد التي وصل إليها العقل البشري اليوم.


ومن أولئك في مجال الطب؛ أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا صاحب كتاب "القانون" في الطب، والذي بقي يدرس في معاهد أوربة إلى القرن السابع عشر والثامن عشر، والذي يعد تطوراً علمياً في مجال الطب. وعندما نتحدث عن هؤلاء نتحدث عن القرون الأولى في صدر الإسلام؛ كل هؤلاء كان بين القرن الثاني والثالث الهجري إلى القرن السابع الهجري فقط ليس أكثر. ومنهم علي بن النفيس الدمشقي الذي كان له أيضاً في مجال الطب له باعٌ عظيمٌ في علوم الفلك وعلوم الحساب. ومنهم الحسن بن الهيثم عالم البصريات.


أنا أعدد هؤلاء مجرد أمثلة ونماذج، وليس على وجه الاستقراء أو الحصر..


ثم أعرض لكم شيئاً: هل تعلمون ان أول اسطرلابٍ عربي كان في القرن الثاني للهجرة؟! والاسطرلاب هو وسيلة معرفة زوايا منازل الكواكب والشمس والقمر. وسيلةٌ صنعها إبراهيم الفزاري وتطورت هذه الوسيلة على يد امرأةٍ عالمةٍ بالفلك، هي مريم التي اشتهرت بالاسطرلابية، بعد ثلاثة أو أربعة قرون من وفاة إبراهيم الفزاري الذي ابتكر أول اسطرلابٍ عربي.


عندما  كان المسلمون يتحدثون عن كروية الأرض وعن أن الأرض لها مدارها في منازل هذا الكون، وأن للقمر أيضاً مداره حول الأرض؛ وهذه الكلمات التي يتحدث بها العلم المعاصر ويؤكدها؛ كان المسلمون قد تحدثوا عنها وبينوا حقائقها بعقولهم قبل ابتكار الوسائل المعاصرة؛ كان العالم الغربي غارقاً في جهله.


في القرن السابع عشر كادوا يقتلون غاليليو لأنه قال بأن الأرض تدور. ولولا أنه خضع لتهديدهم لكان مصيره القتل، وقد جرى أن قتلوا بعض علمائهم. هذا في القرن السابع عشر الميلادي، بينما نحن كنا في القرن التاسع الميلادي يصنع علماؤنا  الاسطرلاب في فهم علم الفلك، ويحسبون بدقة محيط الكرة الأرضية ويحسبون طول أيام السنة الشمسية بالدقائق والثواني؛ كان الغرب غارقاً في الجهل.


أنا لا أريد أن أتحدث عن عظمة أمتنا، لأن هذا مما قد يكون سبب أسى وحزنٍ في نفوسنا اليوم. أين كنا لما كنا متمسكين بديننا؟! وكيف صرنا عندما تخلينا عن ديننا؟!


عندما ظننا أن تقليد الغرب وتقليد الآخرين في ثيابهم ومجونهم وفسقهم وفجورهم سبب للتقدم فتراجعنا وتقهقرنا وانهزمنا.


كثيرٌ من أدعياء العلم والثقافة يتهمون الإسلام والمتدينين بالتخلف! بينما هم أسباب التخلف في أمتنا. هم أسباب التقهقر في مجتمعنا. هذه الظاهرة التي نتحدث عنها هي ظاهرةٌ سلبيةٌ إن دلت على شيء، فهي تدل على أننا نفتقر إلى الحد الأدنى من الفهم لحقائق التاريخ وحقائق هذا الإسلام. هذا الدين الذي نهض بأمة خرجت من الصحراء من البادية لتعلم الأمم الحضارة والعلوم.


يتهمون التدين بالتخلف! ومن المتخلف؟! هم المتخلفون! نعم إنهم سبب التخلف والانحراف والضياع الذي وصلت إليه أمتنا. على هؤلاء أن يعودوا إلى رشدهم وأن يتدبروا ويقرؤوا تاريخ الحضارة الإسلامية، ويدركوا أن مما يؤسف له أن نكون اليوم في مؤخرة الأمم، بينما الذين كانوا في المؤخرة سبقونا إلى كثيرٍ مما كان ينبغي أن نصل إليه بل أن نتفوق فيه.


على أن التقدم ليس فقط بالصناعة. التقدم في الأخلاق! التقدم في العقل! التقدم في فهم حقيقة هذا الكون! التقدم في أن تدرك ما هي وظيفتك في هذه الحياة! ومن ثم بأن تصلح من شأن نفسك وتصلح العلاقة بينك وبين مجتمعك وتصلح من سلوكك، لكي يكون المجتمع مجتمعاً قائماً على العدل والمحبة والتعاون والتضافر.


أسأل الله أن سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يرزقنا حسن الفهم لهذا الدين وحسن التمسك به.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة