مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/03/2020

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 6 / 3 / 2020

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 6 /  3 / 2020


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ويقول سبحانه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا). وروى الحاكم في المستدرك والترمذي أيضاً أن النبي ﷺ قال: (تداووا فإنَّ اللهَ لم يضَعْ داءً إلا وضَعَ له دواءً) وروى الترمذي وابن حجر في المطالب عن النبي ﷺ أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ) أي بيوتكم. وروى البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (إذَا كَان جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ العِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا).


أيها المسلمون؛ أشرت في الخطبة الماضية إلى مشكلة جائحة المرض المنتشر الذي غدا هاجساً يرعب الناس في العالم كله، وينتشر من قطرٍ إلى قطرٍ ومن بلدٍ إلى بلد. وذكرت في حينها أن النبي ﷺ قال في شأن الطاعون إنه رجسٌ أرسله الله تعالى إلى بعض الأمم: وقال: (إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا). أشار بذلك النبي ﷺ إلى مسألة ما يسمى اليوم في لغة العصر بالحجر الصحي. فالبلد الذي يكون فيه وباءٌ ينبغي أن يتولى أمر معالجة المصابين فيه أهلها. وما ينبغي أن يخرج منها أحدٌ، لئلا ينتشر الوباء خارجها. وما ينبغي أن يخرج منها أحدٌ إلى خارجها ولا أن يدخل من كان خارجها إليها، إلى أن تنطفئ جذوة هذا الوباء. وكان الحديث قد ورد في شأن الطاعون أخطر الأوبئة. أيّ وباءٍ من الأوبئة حلَّ في بلد جرى عليه الحكم نفسه، وعلينا أن نتخذ الإجراءات الصحية الوقائية بشأنه وهذا أمرٌ شرعيٌّ حض عليه ديننا وأمر به نبينا ﷺ.


هو رجسٌ ابتليت به بعض الأمم ومن ذهب ضحيته من المؤمنين فهو شهيد. وأما من كان على غير ذلك فإننا نسأل الله له ولنا جميعاً حسن الخاتمة. على أن علينا أن نتخذ كل السبل الوقائية التي أرشدنا إلينا ديننا وأمرنا بها نبينا ﷺ ووجهت إليها الجهات الصحية المختصة في بلادنا. وهي أمورٌ متفقٌ عليها في العالم كله. علينا أن نسترشد بها لكي نحفظ بلادنا ونحفظ أنفسنا ونحفظ أهلينا. والنبي ﷺ قد وجه إلى السبل الوقائية من مثل هذه الجوائح فأمر بأمورٍ ما ينبغي أن ننساها. أمر بالنظافة كما رأينا فقال: (إن الله نظيفٌ يحب النظافة) وقال: (نظفوا أفنيتكم).


ومن الأمور الوقائية التي أرشد إليها في حديثه قوله: (خمروا آنيتكم)؛ أي لا تدعوا آنية الطعام مكشوفةً، لئلا تنزل فيها المضارّ المختلفة على اختلاف أنواعها، ولئلا تصبح بيئةً ترعى فيها وتنشأ فيها الجراثيم وغيرها. وأمر بأن نوكئ سقاءنا وأن نخمر آنيتنا. والسقاء هو قربة الماء؛ أي أن نحفظ مياهنا وأطعمتنا وأوانينا من أن تُترك مكشوفةً عرضةً لكثيرٍ من أسباب الضرر والإساءة والأمراض.


كما أمرنا النبي ﷺ بكل ما من شأنه أن يقينا من الأمراض والأوبئة. وهو أمرٌ أرشد إليه كتاب الله U من خلال الآيتين اللتين قرأتهما في مطلع كلامي إذ يقول: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) نحن مكلفون بأن نحذر كل أسباب الهلاك وأن نتجنبها وأن نقي أنفسنا من الوقوع فيها.


قد يقول البعض: الآية وردت من الامتناع عن الإنفاق في سبل الجهاد. نقول: إن القاعدة الشرعية تقول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" فإذا كانت الآية قد نزلت في شأن الوقاية من أسباب الهلاك بدفع المال في دفع غائلة العدوان، فإن علينا أن نقي أنفسنا من كل أسباب الهلاك على اختلاف أنواعها. وكذلك لاحظوا رقة البيان الربانيّ إذ يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا). وقتل المرء لنفسه ليس فقط بالانتحار، بل بأن يهمل أمر وقاية نفسه صحياً، ويعرّض نفسه للأسقام والعلل، ولا يرعى القواعد الصحية في طعامه وشرابه ولباسه وسائر شؤونه. إن علينا أن نقي أنفسنا أسباب الهلاك وأسباب الضرّ على اختلاف أنواعها، وهذا واجبٌ، ومن مقتضى رحمة الله بنا أن ينهانا عن أي تصرفٍ يودي بنا إلى هلاكنا.


 ومن الجانب الوقائي الذي أرشد إليه النبي e أنه قال (إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) هذا حجرٌ صحيٌ من شأنه أن يكون سبباً في عدم انتشار الوباء هنا وهناك.


وكما أمرنا بالوقاية على اختلاف أشكالها، أمرنا بالعلاج، وهذا قد يتوهم البعض أنه منافٍ للتوكل، بل إنه هو التوكل. أما رأيت كيف أن النبي ﷺ - جمع بين اتخاذ السبب وبين التوكل على الله فقال: (وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ وأغلق بابَك واذكر اسمَ الله، وأطفئ مصباحَك واذكر اسمَ الله) أي اتخذ الأمرين معاً؛ اتخذ الأسباب وتوكل على الله U. والتوكل على الله أمرٌ اعتقاديٌ واجب لأن الذي يدفع الضرّ ويجلب النفع إنما هو الله؛ هو الضار وهو النافع. ولكن الله أقام الدنيا على نظام الأسباب والمسببات، فعليك أن تتخذ الأسباب الوقائية التي تحفظ مالك وتحفظ صحتك وتحفظ طعامك وشرابك وتقيك أسباب السقم وأسباب الضر على اختلاف أنواعها، كما أن عليك حسن التوكل على الله.


وكما أمر النبي ﷺ بهذا الجانب الوقائي أمر إلى جانب ذلك بالسبب العلاجي. النبي ﷺ يقول: (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ) فأمر باستعمال الدواء فقال: ((فإنَّ اللهَ لم يضَعْ داءً إلا وضَعَ له دواءً)) هذا الحديث فيه سرٌّ عجيب، لو أننا تأملناه لوجدنا فيه استنهاضاً لهمة الأمة في تطوير إمكاناتها في صناعة الدواء. كلما وجدنا علةً تنتشر أو مرضاً يصاب به الناس، فإن على الجهات المعنية من المختصين في الصناعات الدوائية أن يبحثوا ويتحروا هنا وهناك على اختلاف مجالات الصناعة الدوائية، إن كانت نباتية أو كانت حيوانية أو كيميائية أو غيرها، أن نبحث عن دواء لها لأن الدواء موجود لكننا نحن المسؤولون عن الوصول إليه وعن اتخاذ أسباب العافية به. هو تحميلٌ لنا لمسؤولية البحث عن الدواء الناجع للعلل التي نجدها تنتشر في مجتمعاتنا (تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فإنَّ اللهَ لم يضَعْ داءً إلا وضَعَ له دواءً).


وأرشد إلى أصنافٍ من الأدوية مما أشار إليه كتاب الله إذ قال سبحانه: (يخرج منه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) وهو العسل. وأرشد النبي ﷺ إلى الحبة السوداء أو حبة البركة فقال فيها: (في الحَبَّةِ السوْدَاءِ شِفَاءٌ من كل دَاءٍ إلاَّ السَّام) أي إلا الموت. والطب الحديث يقر بأن في الحبة السوداء مضادات التهابٍ ناجعة قوية نافعةً بإذن الله تعالى. كل ما في الأمر أن عليك أن تحسن تصنيعها واستثمار هذه المادة الدوائية بأسلوبٍ علميٍّ تقنيٍ متطورٍ يتناسب مع اختلاف الأمراض والأسقام التي يصاب بها الناس. وأخبر عن التلبنة كما أخبر عن كثيرٍ من أنواع الأدوية منها الحجامة.


وهنا نشير: ليست السنة أن أحتجم بل السنة أن أتداوى بالحجامة. فرقٌ بين أن أقول: من السنة أن تحتجم وبين أن تقول إن مما ورد في السنة من الدواء الحجامة. النبي ﷺ كان يأمر من أصيب بالشقيقة أو الصداع أن يحتجم. هذا أمرٌ أمرَ به النبي ﷺ لكن السليم المعافى ليس مأموراً بالحجامة. الحجامة يؤمر بها إما وقائياً وإما علاجياً من عللٍ يمكن أن يصاب بها الإنسان. عند وجود السبب، فالحجامة أحد الأدوية النبوية الثابتة في السنة.  ولقد جمع كثيرٌ من العلماء ما ورد عن النبي ﷺ من العلاجات والأدوية وسموا كتبهم (الطب النبوي). منهم المعاصر ومنهم القديم. عندما راجعت في هذه المسألة وجدت كتباً كثيرةً في الطب النبوي، كلها تشير إلى مدى حرص النبي ﷺ إلى توجيهنا إلى المادة الدوائية التي علينا أن نصنعها ونستثمرها في مجال الصناعات الدوائية المتطورة التي علينا أن نبحث فيها بصورة علمية في عصرنا الحديث. إنه تحميلٌ للمسؤولية.


أعود فأقول: إن النبي ﷺ أمرنا أن نقي أنفسنا من الأوبئة وهذا أمرٌ شرعيّ. ومن أحكام السياسة الشرعية أن ولي الأمر إذا أمر باتخاذ إجراءات وقائية صحية فإن من الواجب الشرعيّ أن نلتزم بها. وهذا أمرٌ معروفٌ في قواعد شريعتنا وفي أحكام ديننا.


أيها المسلمون


 نحن مكلفون بأن نقي أنفسنا من الأوبئة، وإذا كان الإنسان مصاباً بمرضٍ يُخشى سريانه وانتشاره أو أنه له أثر العدوى، فإن على المرء ألا يؤذي إخوانه بالحضور إلى الأماكن المزدحمة ومنها المساجد دفعاً للأذى عن الناس.


وإذا كان النبي ﷺ قد قال: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَانَا) يعني الثوم؛ لأنه يؤذي الناس برائحة ما أكل. أيهما أشد وأولى بالمراعاة هل ضرر رائحة الثوم أو البصل أم ضرر انتشار الزكام أو التيفوئيد أو غير ذلك من الأمراض التي يمكن أن تؤدي إلى انتشار ضررٍ صحيٍ؟ أجل إن علينا أن نقي أنفسنا ومجتمعنا من الأمراض السارية، وأن لا نؤذي الآخرين بحضورنا إلى المسجد، فيما إذا كان أحدنا مصاباً بمثل هذه الأمراض، ولا سيما هذه الأمراض شديدة العدوى والسريان. نعم علينا أن نقي أنفسنا ومجتمعنا من الأوبئة على اختلاف ألوانها.


ولعل أخطر الأوبئة التي يجب مجتمعنا منها في هذا العصر وباء التطرف والإرهاب. نعم؛ أخطر الأوبئة الفكر المتطرف أياً كان لونه. وإذا كان هناك فكرٌ متطرفٌ يحمل صفةً دينية فهناكٌ فكرٌ متطرفٌ يحمل صفةً لا دينية.كلاهما خطر وكلاهما مرفوض، وكلاهما يؤدي إلى تمزيق هذا المجتمع. وعلى الذين يحملون فكراً متطرفاً أن يعلموا أن خير وقايةٍ لمجتمعنا البعد عن التطرف وعن إلغاء الآخر وعن إلغاء الغير. فليس الوطن لك وحدك؛ الوطن للأمة كلها. وما عليك إلا أن تتعاون مع أبناء أمتك لمصلحة هذه الأمة ولمصلحة هذا الوطن. عليك أن تكون حريصاً على الوحدة الوطنية وعلى مواجهة الخطر الذي يهدد أمتنا، والموالاة لأولئك الأعداء في الدول المعادية لوطننا والتي تستخدم لنفسها أدواتٍ محليةً ومستوردة لكي تمزق وطننا ولكي تودي بأمتنا ولكي تفتت هذا الوطن وتمزقه.


علينا أن نكون حذرين من وباء التطرف والإرهاب أشد من حذرنا من وباء الكورونا أو غيره من الأوبئة لأن وباء هذا الفكر الإرهابي المتطرف يشوه الدين إذا كان بصفةٍ دينية، ويمزق الوطن إذا كان بصفةٍ لا دينية. إلغاء الآخر ليس في مصلحة الأمة وليس في مصلحة الوطن. ونحن اليوم مدعوون إلى التماسك وإلى التضامن وإلى التكافل وإلى أن نقبل الآخر ونحاوره. أما أن نلغيه ونحاربه فإن هذا من شأن من يريد تمزيق هذا الوطن وخدمة أهداف الصهيونية في إضعاف وطننا وتوهين قوته.


على أن وطننا ولله الحمد ظل متماسكاً في مواجهة وباء كورونا. ربنا تبارك وتعالى وقاه إلى هذه الساعة ولله الحمد من تفشي هذا الوباء. ونأمل أن يعافى من تفشي وباء التطرف بكل ألوانه على اختلاف أشكالها حتى يغدو وطننا قوياً متماسكاً بإذن الله.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

مشاهدة
صوتي