مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/12/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 6 / 12 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 6 /  122019

أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربنا جلّ شأنه في كتابه الكريم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).


وقد روى علماء السيرة والإمام أحمد في مسنده خبر بيعة العقبة الثانية وأن مسلمي المدينة أتوا النبي ﷺ في موسم الحج التالي لبيعة العقبة الأولى، ولكن الوفد كان سبعين رجلاً بعد أن كانوا اثني عشر رجلاً وفي الوفد كانت امرأتان. فواعدوا الرسول ﷺ في العقبة ليلاً، ثم جاءهم النبي ﷺ وتلا عليهم القرآن، وأكد ما كان قد بايعه عليه وفد السنة الماضية من الإيمان بالعقيدة الصحيحة؛ عقيدة التوحيد، والتمسك بالأوامر التي أمر الله U بها، والاجتناب عن المنهيات التي نهاهم عنها. وأضاف إلى ذلك بنداً خطيراً ومهماً قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)؛ أي أن يحموا الدعوة الإسلامية ممثلةً برسول الله ﷺ كما يحمون أعراضهم وأولادهم.


فبايعوه على ذلك، وقالوا له كلاماً فيه رجولةٌ وفيه التزامٌ بالدفاع عنه مهما كلف الأمر من تضحيات. ورجع النبي ﷺ قرير العين بتلك البيعة التي بايعه عليها وفد المدينة المنورة. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه أثنى على الأشعريين الذين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم.


 أيها المسلمون ...


 عندما أرسل الرسول ﷺ مصعب بن عمير مع الذين بايعوه بيعة العقبة الأولى، لم يركن إلى الراحة وظلال النخيل والمياه العذبة، بل كان يعمل ليل نهار في الدعوة إلى الله U وتعليم الناس دينهم وقرآنهم. فما أن مضى عامٌ حتى ما بقي بيت في المدينة المنورة إلا ودخله الإسلام. وجاء الوفد في هذه المرة يترجم نشاط سيدنا مصعب t في المدينة المنورة؛ إذ جاء معه سبعون، وبينهم امرأتان - كما ذكرنا - ليبايعوه بيعة الدفاع عن العرض وعن الدين وعن الرسالة وعن سلامة الوطن وعن سلامة الأمة، وبايعوه على ذلك وأبدوا استعدادهم للبذل والتضحية تحقيقاً لهذا المعنى.


والحرب في الإسلام دفاعٌ عن المقدّسات، دفاعٌ عن الثوابت، دفاعٌ عن الكرامة، دفاعٌ عن العزة، دفاعٌ عن حرية الأمة ومكانتها وحقوقها. وليست الحرب في الإسلام حرباً عدوانيةً للاستيلاء أو للإكراه أو لاستعباد الشعوب، بل إنها تحريرٌ للشعوب وحمايةٌ لكرامة الأمة ومقدساتها.. حمايةٌ لعقيدتها وسلامتها.


شعرت قريش بذلك، وحاولت أن تفشّل ما قد جرى، وتلاحق وفد المدينة المنورة الذين كانوا في هذه البيعة، إلا أنهم لم يتمكنوا. والحديث في ذلك يطول قد نتحدث ونسهب فيه في مناسبة أخرى.


عاد الوفد إلى المدينة المنورة واشتد إيذاء قريش للمسلمين في مكة المكرمة. اشتدت جرأتهم عليهم وقهرهم واضطهادهم لهم. ثم إن النبي ﷺ أذن للمسلمين في مكة بالهجرة إلى المدينة، ومضى المسلمون يتسلّلون خفيةً إلى المدينة المنورة فراراً بدينهم، متخلّين عن كلّ شيءٍ في سبيل الحفاظ على عقيدتهم، في سبيل الحفاظ على كرامتهم وحرية اعتقادهم، فوجدوا في المدينة المنورة مأمناً لهم، يأمنون فيه على إقامة شعائرهم الدينية وممارسة واجباتهم الدينية.


نعم؛ هاجروا إلى المدينة المنورة فوجدوا في غرباء المدينة المنورة - فيما قد يخيّل للإنسان - أهلاً أقرب إليهم من أهلهم، وإخواناً أحبّ إليهم من إخوانهم؛ أحاطوهم بالعناية والرعاية، أحاطوهم بالعطف والمحبة، أشعروهم أنهم أتوا إلى بيوتهم بعد بيوتهم، وإلى أهلهم بعد أهلهم. نعم؛ فقد كان المسلمون في المدينة المنورة كراماً وصفهم الله U فأثنى عليهم فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هذا موقف أهل المدينة المنورة؛ ليقوم مجتمع جديد. إنه مجتمع التكافل والتراحم.. مجتمع التعاطف والمحبة. بهذه المحبة تبنى المجتمعات، وبالأنانية والأثرة تنهار المجتمعات.


وهذا الأمر يذكرنا اليوم بواقعنا اليوم؛ هذا الأمر يذكرنا بالواقع الذي تعيشه أمتنا. إننا لو تأملنا واقع بلادنا؛ لم أقرأ ولم اطّلع أن أمةً أو بلاداً تعرضت إلى تواطؤ دوليٍّ للظلم والبغي والعدوان عليها كما تعرضت بلادنا لهذا الظلم والعدوان. ولقد صمد وطننا وصمدت أمتنا صموداً لم اطّلع في تاريخ أمتنا أو غيرها على مثيلٍ له؛ لم أطّلع على صمودٍ وصبرٍ وتحمّلٍ وشجاعةٍ في مواجهة مثل تلك الحرب الظالمة التي وجّهت ضدّ وطننا وضدّ أمتنا.


أجل؛ واجهت أمتنا حرباً شرسةً تواطأت فيها مئة دولةٍ، فأرسلت المقاتلين لكي يمارسوا أبشع أنواع الجرائم في أرضنا على أمتنا، بغية إركاعه وإذلاله وإخضاعه للضغوط الدولية، خدمةً لإسرائيل، وانصياعاً للقهر الذي تمارسه دول البغي والعدوان والاستكبار؛ دول الغرب وفي مقدمتهم أمريكا.


نعم؛ كان شعبنا إزاء ذلك، وكان جيشنا أمام هذه الحرب مثال الصبر والصمود والتضحية. واليوم نتعرض لاستمرار هذه الحرب بحربٍ إضافيةٍ؛ لا أقول توقفت الحرب، هي لا تزال قائمة ولا يزال الباغي المعتدي الأمريكي يمارس أبشع أنواع العهر السياسي والعسكري في بلادنا هو وأحلافه وعملاؤه. نعم؛ أخذت هذه الحرب اليوم صورةً إضافيةً هي الضغط الاقتصادي؛ محاولة إركاع أمتنا عن طريق استعبادها وقهرها بالجوع وبالأزمات الاقتصادية؛ وبأزمة الدولار. الدولار ليس رزاقاً، إن الله هو الرزاق. وأمتنا التي لم تركع لقوىً عسكرية، لن تركع لابتزازٍ اقتصادي، ولن تخضع أمتنا لمحاولة القهر ومحاولة إركاعها بالضغوط الاقتصادية. سوف نتحمل ونصبر، ووسيلتنا للتحمل والصبر والصمود هو التضامن والتكافل والتعاطف والتراحم، وأن يبذل بعضنا لبعض، كما فعل الأشعريون فيما أثنى عليهم النبي ﷺ به.


ما ينبغي أن ننسى أننا في حربٍ اقتصاديةٍ.. وإزاء هذه الحرب الاقتصادية، أقف عند نقاط:


النقطة الأولى: حرب الشائعات؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) لّا ينبغي أن نخضع لحرب الشائعات، وحرب بثّ معاني الإذلال لوطننا ولديننا من خلال إشاعة حالةٍ من الضغط الاقتصادي بسبب الدولار وارتفاعه وهبوطه.. إلى آخر ما هنالك. نحن لسنا مرتبطين بذلك المتألّه الذي تحاول أمريكا أن تقهر شعوب الأرض من خلاله.


نحن بتعاوننا.. بتضامننا.. بتراحمنا.. بتعاطفنا، لن نقهر بإذن الله تعالى. إن شعبنا فيه الكثير من المروءة والنجدة والتراحم والتعاطف - ولله الحمد - إن كان علناً أو كان سراً. وأنا مطّلع على الكثير الكثير من الجهود الطيبة المباركة التي يمارسها أبناء هذه البلدة المباركة. أبناء بلادنا الطيبون الأصلاء الذين لا يمكن أن يخضعوا ولا أن يُخضعوا إخوانهم للقهر الاقتصادي أو لسياسة الإفقار. نقتسم رغيفنا ونرفض أن تخضع جباهنا إلا لربنا سبحانه وتعالى. نتعاون ونتضامن ونتكافل وننبذ كل أنواع الأثرة والأنانية.


إلى جانب هذه الصورة، لنقرأ واقعنا قراءةً ناقدةً، فننقد الذات بدايةٌ لإصلاحها. ما ينبغي أن يستثمر البعض منا الأزمة لكي يستغل الآخرين. لا ينبغي أن نسمح للغلاء أن يقهر فقراءنا أو أن يقهر شعبنا. يجب أن نخفف قدر وسعنا من أسباب الغلاء بكل ما أوتينا من قوة، وبكل ما أوتينا من إمكان. فسعادتك لا يمكن أن تتمّ إلا بسعادة أخيك، وكفايتك لا يمكن أن تتحقق إلا بكفاية المجتمع ككل. تضامن مجتمعنا هو سبيل ازدهارنا. أغنياءنا وفقراءنا جسدٌ واحدٌ، ألم يقل رسول الله ﷺ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).


أي هناء للقمةٍ يبتلعها الغنيّ وإلى جانبه أخوه الفقير يعاني من الجوع والحرمان؟! لا يمكن أن يهنأ مجتمعنا إلا بالتكافل والتضامن والتراحم. فالتراحم سمة أبناء مجتمعنا.. والمروءة والشهامة والغيرة هي ما عرفناه في أبناء مجتمعنا.. إلا أننا لا ينبغي أن ننسى وأن نتجاهل أن ثمة بعض النفوس المريضة التي تستثمر الأزمة لصالحها. وهل يهنأ فردٌ بشقاء مجتمعه؟! هل يمكن أن يهنأ فردٌ بشقاء أمته؟! لا يمكن أن تدوم سعادة امرئ ومن حوله أبناؤه وإخوانه وجيرانه يعانون الشقاء والجوع والقلة.


ينبغي أن لا نجعل من اللعبة الاقتصادية التي تجري في هذه الفترة سبباً لاستغلال بعضنا، وسبباً لاستثمار هذه الأزمة لملء جيوبنا، فجيبك هذه سوف تفرغ عندما يفتقر مجتمعك؛ لن يدوم لك الغنى في مجتمع الفقر. ولن يكون هناك ذلّ في مجتمعٍ متكافل يأبى المهانة والذلّ. لن تكون هناك هزيمةٌ في مجتمعٍ رفع هامته ورفض الخضوع للابتزاز.. رفض الخضوع لعملية الضغوط الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها.


لا ينبغي أن نسمح للأزمات أن تسترقّ النفوس المريضة. على هؤلاء الإخوة أن يستذكروا أن لهم موقفاً بين يدي الله U. إن الله يكرمنا بمقدار ما يكرم بعضنا بعضاً. ويذل الله الأمة بمقدار ما يتناسى بعضهم بعضاً. ما ينبغي أن ننسى أننا مسؤولون عن بعضنا، وأن سعادة المرء لا تتحقق إلى من خلال سعادة المجتمع بأسره.


إن أمةً تتكافل وتتراحم لن تُغلب ولن تُهزم، ولن تهزمها الأزمات.. أي أزمةً كانت فلتكن..


أيها المسلمون؛ تعاوننا وتضامننا وتراحمنا سبب لرحمة الله لنا قال النبي ﷺ: ((الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) وقال في حديث آخر ﷺ: ((من لا يَرحم لا يُرحم)). فليحذر أصحاب النفوس المريضة الذين يعانون من الأثرة والأنانية أن الله لن يرحمهم إذا أصروا على أثرتهم وأنانيتهم.. وأن الغمة سوف تنقشع في المستقبل، وتتساقط فيه الأوراق المريضة، وتنطلق شجرة مجتمعنا مزدهرةً منتصرةً مثمرةً بالنصر والسعادة بإذن الله.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة