مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 05/07/2019

خطبة الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 5 / 7 / 2019

خطبة الجمعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 5 / 7 / 2019


أمّا بعد، فيا أيّها المسلمون؛ يقول ربّنا جلّ شأنه في كتابه الكريم:) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولَاً(، ويقول سبحانه:) قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(، وقال سبحانه:) قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(. وقد فرض النبيّ طلب العلم فقال: (طَلَبُ العِلْمِ فَرِيْضَةٌ عَلَىْ كُلِّ مُسْلِمٍ).


أيّها المسلمون؛ سلك علماؤنا وسلفنا الصّالح إلى العلم منهجاً دقيقاً، أوصلهم إلى نتائجَ عظيمةً وإنجازاتٍ باهرةً. يتلخّص منهجهم في ذلك في جملتين: (إذا كنت ناقلاً فالصحة، وإذا كنت مدعياً فالدليل). وقضية النقل تعني أن يَثبتَ الخبرُ أو الحدث التاريخي بطريقٍ ضبطت أساليبه ومناهجه، تضمن سلامة صحّة هذا الخبر أو صحّة هذا القول. ويعدّ منهج المسلمين في إثبات الأخبار والأحاديث والأحداث، منهجاً متميزاً أقرّ بعظمته العدوّ قبل الصديق. وأمّا في الدّعاوى؛ فلقد استطاع المسلمون أن يحقّقوا إنجازاتٍ علميةً في شتّى الميادين، يوم كانوا ملتزمين بمنهج الحقّ، متمسّكين بدينهم على النّحو الذي ينبغي، فبلغوا تقدّماً علميّاً باهراً، لا ينكره إلا من أصيب بالعشى، أو تعامى عن رؤية الحقائق.


وبلوغ الحقيقة العلميّة يبدأ بالأخذ بالمسلّمات والبدهيّات، توصّلاً وانتقالاً إلى البحث عن الدّعاوى وصحّة الأخبار. ولقد سلك العلماء هذا المنهج ومضَوا فيه. والحوار العلميّ هو منهجهم، والحوار العلميّ - كما قلنا - يبدأ بالمسلّمات والبدهيّات، وصولاً إلى الدّعاوى التي تستلزم أدلّةً وبراهينَ ملزمةً. وهذا هو الذي سلكه علماؤنا وسلفنا الصالح. أمّا المسلّمات والبدهيّات فهي أمورٌ يقبلها العقلاء، بشتّى اتجاهاتهم ويسلّمون بها، لأنّها موضع تسليمٍ لا يُناقش فيها؛ تقبلتها عقول الناس كلهم، على اختلاف مشاربهم وأنواعهم.


والتّشكيك في البدهيّات حالة ضياعٍ، وزجٍّ في متاهةٍ لا مخرج منها. ولذلك فإن البدهيّات التي نتحدث عنها، تعتبر الرّكيزة التي نبتدئ منها. هل يُناقشُ بأنّ الواحد نصف الاثنين؟! وهل يشكّ في أن القيمة العددية للرقم خمسة أعظم من القيمة العددية للرقم ثلاثة؟! وهل يُناقشُ في أن شخصيةً تاريخيةً حكمت بلادنا في القرن الماضي اسمها شكري القوتلي رحمه الله حتى سمّيت بعض الشوارع والمدارس باسمه تخليداً لذكراه؟. لا ينكر بدهيّات العقل إلا أحد شخصين؛ غبيٌّ مصابٌ بلوثةٍ عقليةٍ يفتقر إلى مصحٍّ عقليٍّ للمعالجة، أو مكابرٌ جاحدٌ معاندٌ لا دواء له في صيدلية العلم.


هناك فريقٌ من الناس في هذا العصر احترفوا الكذب والتضليل، وامتهنوا التزييف والتحريف، فأنكروا البدهيّات وتنكّروا لحقائق التاريخ؛ بل جحدوا حتى بالمسلّمات العلمية، ليزجّوا الناس في متاهةٍ من الضياع. هؤلاء لهم برنامج وضع لهم؛ وضعته جهاتٍ معاديةٍ بغية الوصول بنا إلى حالةٍ من الشّك بثوابت تاريخنا وثوابت حقوق أمتنا. هؤلاء ينكرون شيئاً اسمه فلسطين، ويتنكّرون لشيءٍ اسمه المسجد الأقصى، ويجحدون حقيقةً تاريخيّةً اسمها الخلفاء الراشدون؛ فالخلفاء الراشدون في نظرهم أسطورة تاريخيّة. وفلسطين دعوىً لا وجود لها في سجلات تاريخهم المزيف.


والمسجد الأقصى سلبوه القداسة والمكانة العظيمة، التي لم تُمنح للمسجد الأقصى بقرار سياسيٍّ، وإنما بحكمٍ إلهيٍّ. الله هو الذي منح المسجد الأقصى قداسته، فقل لهؤلاء المتنكّرين: سقطتم وخسئتم. المسجد الأقصى لم يكتسب قداسته بقرارٍ ملكيٍّ، ولا بقرارٍ من هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن؛ المسجد الأقصى اكتسب قداسته بكتاب الله. فإن كنت جاحداً بكتاب الله، أعلمنا أنك جاحد، لنعلم بأيّ مكانةٍ وبأيّ وصفٍ نصفك... يتنكرون لثوابت التاريخ وبدهيّاته، لكي يضعوا الأمّة في متاهة إنكار... في متاهة ضياع ... في متاهة فقد الهوية... وصولاً إلى الاستسلام لقرارات العدوّ، ووصولاً إلى سلب أمتنا سيادة قرارها وإثبات حقوقها في أرضها وفي كرامة أمتها. نعم هذا هو الذي يهدفون إليه؛ يهدفون إلى تجريد الأمة من مقوّماتِ عزتها وكرامتها، وإلى إنكار حقوقها الثابتة، التي لا ينكرها إلاّ متآمرٌ وخائنٌ.


هؤلاء لهم برنامج يزيّف التاريخ ويتنكر للحقوق. هؤلاء يرتكبون خيانةً بحقّ العلم، وبحق الأمة وبحق الدين، هدفهم تضليل العقول وإضاعة الحقوق. يتولى تنفيذ هذه الخيانة أناسٌ احترفوا العمالة، ألفوا الهوان والذّل وتقبيل نعال أسيادهم. ألفوا الهوان وألفوا الذّل؛ يتعذر عليهم الصّدق لأنهم احترفوا الكذب، وتَصعبُ عليهم الأمانة لأنهم امتهنوا الخيانة. هؤلاء يصعب على هاماتهم أن ترتفع، وعلى قاماتهم أن تنتصب، لأنهم اعتادوا الركوع على أقدام أسيادهم وتقبيل نعالهم.


نعم؛ هؤلاء أقلُّ من أن يذكروا، ولكن اليوم عندما يشكّك بالبدهيّات، لا بدّ أن نتكلم بكلمة الحق، لكي نكشف زيف هؤلاء وخيانتهم لتاريخ أمتهم، وسيادة وحضارة هذه الأمة؛ ولكي نكشف أيضاً دناءة انتسابهم إلى مركب العدو، مركب الخيانة والتنكر لحقائق هذه الأمة وتاريخها. هؤلاء لا يفهمون معنى العزّة والكرامة، لأنهم اعتادوا على الذّل والمهانة. هؤلاء لا يعرفون معنى الحضارة والعمران؛ فأنوفهم يزكّمها معنى الحضارة، لأنهم ألفوا التخلّف والذّل والتقهقر؛ ألفوا أن يكونوا أدواتٍ طيّعةً بيد عدوهم. هؤلاء لا يفهمون منطق الشرف والإباء، لأنهم رضعوا لبان الدناءة والخسّة أمام عدوهم.


إذا كانت الشمس في وضح النهار، لا يرونها ويتنكرون لها، فإن تضامن الشعوب المسلمة وإيمانها بقضيتها، وإن دماء الشهداء الصامدين حول المسجد الأقصى وفي أرض فلسطين، كفيلةٌ بأن تريهم تلك الشمس، وأن تثبت لهم أن الشمس في وضح النهار موجودةٌ وإن تعاموا عنها. هؤلاء إذا كانوا يحتاجون إلى دليلٍ، فإن الدليل سيكون من خلال يقظة الشعوب المسلمة، ورفضها للقيود والأكبال التي يراد أن تقيد بها الأمة، وأن تذل بها قراراتها، وأن تسلب بها كرامتها؛ كرامة هذه الأمة ثابتة. قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ(.


أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً... وأن يفرج عن أمتنا فرجاً قريباً.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة