مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 05/06/2019

خطبة عيد الفطر الدكتور توفيق البوطي بتاريخ 5 / 6 / 2019

خطبة عيد الفطر المبارك للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي


في جامع بني أمية الكبير بدمشق بتاريخ 5 / 6 / 2019


الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...


الله أكبر. ما ازدحم المصلّون وغصّت بهم المساجد في ليالي رمضان بين قائمٍ ومتهجدٍ وذاكرٍ ومستغفر...


الله أكبر. ما تسابق الناس إلى المبرّات ونالوا ثواب الله تعالى وأجزل...   الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...


الله أكبر. ما عاد مسلمٌ على نفسه، وندم وبكى واستغفر.


الله أكبر. ما انتبه غافلٌ من غفلته فندم واتّعظ واعتبر...         الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...


الله أكبر. ما تلاقى المتهاجرون والمتجافون، فاستقبل بعضهم بعضاً بالبشر والابتسامة والمحبّة واستبشر...


الله أكبر. ما رجع شاردٌ عن وطنه بعد أن جهل، أو طغى واستكبر...     الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...


الحمد لله حمداً طيباً كما أمر؛ الحمد لله ثم الحمد لله؛ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيّدنا محمّداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله، خير نبيٍّ أرسله. اللهمّ صلّ وسلّم على سيّدنا محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدّين. وأوصيكم أيّها المسلمون ونفسي المذنبة أولاً بتقوى الله تعالى، وأحثّكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير.


أمّا بعد فيا أيّها المسلمون؛ مضى شهر رمضان، وقد أحسن الكثير منا - ولله الحمد – وفادته، فجعل لياليه تعبداً، وجعل نهاره نشاطاً دؤوباً في الخيرات والمبرّات والإحسان. نعم؛ على الرّغم من طول نهار هذا الشّهر وشدّة الحرّ فيه، كانت لياليه قياماً وتهجّداً وعبادةً واستغفاراً، وكان نهاره حركةً دؤوبةً في تلمّس حالات الفقراء والمساكين، والنّهوض بشأنهم والقيام بأمرهم وسدّ حاجتهم. على الرّغم من شدّة حالة الأمّة وظروفها، فكان هذا الشّهر بفضل الله شهر إنجازٍ وعملٍ، ولم يكن شهر تقاعسٍ ولا كسل.


أجل استفاد فريقٌ من النّاس من هذا الشّهر، وأحسنوا استثمار أيّامه ولياليه، وضيّع أناسٌ أخرون هذه الفرصة ففاتهم. ترى هل ستأتيهم فرصةٌ مثلها مرة أخرى أم سيسابقهم الأجل؟ ترى هل يمكن أن يعود رمضانٌ آخر وهم على قيد الحياة؟ أم إنّ الفرصة الأخيرة فاتت ولن تعود، وكما مضى رمضان سيمضي العمر؟ فماذا اتّخذ المقصّرون للموقف بين يديّ الله غداً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إنما ينفعهم عملٌ صالحٌ ادخروه للموقف بين يديّ ربّهم يسعدهم أن يجدوه غداً يوم الموقف بين يديّ الله.


أيّها المسلمون؛ إذا كانت الحصيلة والثّمرة المباركة للصّلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا كانت الثّمرة المجنية التي بينها ربّنا تبارك وتعالى في كتابه للصوم هي التقوى، والتقوى اسمٌ جامعٌ للالتزام بأوامر الله والاجتناب لنواهيه، تماماً ككلمة البرّ التي عبّر بها ربّنا تبارك وتعالى عن مجموع مضامين هذا الدّين العظيم. والبرّ كما وصف النّبي: (البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس).


ترى هذه الحصيلة، إذا عدنا إلى أنفسنا، هل اكتسبناها؟ هل نحن اليوم - كما قال العلماء في علامة قبول العبادة – هل نحن اليوم خيرٌ منّا قبل رمضان؟ لنكن كذلك، فإنّ ذلك هو عنوان قبول عبادتنا إن شاء الله، لنعد إلى أنفسنا ولننظر إلى صلاة التّراويح وقيام رمضان والصّلوات التي صلّيناها، هل نهتنا عن الفحشاء والمنكر؟ هل دفعت بنا إلى القربات وإلى مزيدٍ من التحبّب إلى الله سبحانه وتعالى؟ لننظر في صيامنا الذي صمناه، أمسكنا فيه عن الطّعام والشّراب في أيّامٍ شديدة الحرّ طويلة السّاعات ابتغاء مرضاة الله تعالى، فهل كان هذا الصّيام سبباً في سموّنا إلى سدّة التّقوى التي تقرّبنا إلى الله زلفى وتجعلنا بإذن الله تبارك وتعالى من المقبولين لديه. إذا بلغنا ذلك، فلنحمد الله ولنشكره، ولنسأل الله سبحانه وتعالى القبول والثبات بعون الله تعالى. أما إذا لم نكن كذلك فلنستدرك أنفسنا، فاليوم عملٌ ولا حساب، لكن غداً حسابٌ ولا عمل؛ لنستدرك أنفسنا ولنصلح من أحوالنا وعلاقاتنا وتصرّفاتنا.


أيّها المسلمون؛ التديّن معرفةٌ علميّة واعيةٌ مبنيّة ٌعلى أسسٍ مُقنعةٍ مُفحمةٍ مُلزمةٍ لمن تأمّلها وتدبّرها، وهي نتيجة تأمّلٍ تبيّن حقيقة النّفس وحقيقة الكون وحقيقة الحياة، وتبصّر الإنسان بضرورة التأمّل في المصير بعد الموت، حيث يقف الإنسان بين يديّ ربّه الذي خلقه يوماً ما دون مشيئته، وسيأخذه دون إرادته، وسيمثل بين يديه صاغراً - مرّةً أخرى - ليلقى جزاء ما اكتسبت يداه.


إذاً التديّن صلةٌ بين العبد وربه، وهو صلةٌ بين الإنسان والمجتمع؛ صلةٌ صحيحةٌ مع النّاس تصحّح تصرّفاته، تبني تلك التصرّفات على الصّدق في الحديث، والأمانة في التّعامل والوفاء بالوعود والالتزامات، والاتّسام بحسن الخلق ولطف المعشر بابتسامةٍ صادقةٍ تنمّ على صفاء السّريرة. فالإسلام ليس مجرّد طقوسٍ ميّتة ولا شعائر جامدة. الإسلام تحوّلٌ وتغييرٌ، والإسلام نظام حياةٍ ونظام علاقات؛ اصلاحٌ وارتفاعٌ بالإنسان إلى مستوى المسؤولية بين يديّ الله، إلى مستوى الإنسان الكامل الطيّب الصّادق الذي يحسن معاملة الآخرين.


نعم؛ وقد تجسّد هذا المعنى بفضل الله سبحانه وتعالى بما لمسناه في حياة النّاس في هذا الشّهر المبارك، عندما وجدنا إقبال الناس إذ احتشدوا في بيوت الله سبحانه وتعالى، وعندما وجدناهم يتعاطفون ويتراحمون، ويتواسون ويتعاونون، ويمدّون يد العون لإخوانهم لكي ينهضوا بشؤونهم ويلمسوا آثارهم ويخففوا عنهم تلك الآلام، وجدنا ذلك في شهر رمضان المبارك.


نعم؛ فقد كانت الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكان الصّيام بفضل الله سبحانه وتعالى سبباً في رقّة القلوب وتقوى الله. نعم هذا هو ديننا؛ ديننا صلةٌ طيبةٌ وثيقةٌ بربّ العزّة جلّ شأنه، نراقبه فيها ونتقرّب إليه ونتحبّب إليه وتمتلئ قلوبنا خشيةً منه ورغبةً إليه، تدفعنا إلى طاعته وتمنعنا عن معصيته.


 أما الأمر الآخر فهي علاقةٌ إيجابيةٌ بناءةٌ مع أبناء مجتمعنا مبنيّةٌ على الخير مبنية على حسن الخلق وحسن التعامل.


ينبغي أن يتحوّل الإسلام في حياتنا كما يريده الله منا، أخلاقاً كريمةً ووفاءً بالوعود وصدقاً في الحديث ووفاءً بالالتزامات. نعم؛ هذا هو الإسلام، ومن كانت تجسدت فيه هذه المعاني فيه، فقد تحقّق فيه معنى هذه العبادات، أما من لم تتحقّق، فليستدرك النفس وليعد إلى ذاته وليحاسب ذاته، فلعلّ الله سبحانه وتعالى يوقظ قلبه ويملأ قلبه بروح الإخلاص وروح الإيمان وإن الله سبحانه تعالى يقول: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾


أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل من هذا العيد عيد توبة، عيد رجوع، عيد محبةٍ وتماسكٍ لمجتمعنا وقوّةٍ في التزامنا إنّه سميع مجيب.


أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.

تحميل