مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 07/12/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: الذين يؤمنون بالغيب

الذين يؤمنون بالغيب
د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 7/12/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا( ويقول سبحانه: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( وقال جلَّ شأنه )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ( ويقول النَّبيُّ r: «ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإنَّ ما حرم رسول الله r كما حرَّمه الله».
أيُّها المسلمون؛ في هذا الزمن الذي تكالبت فيه علينا قوى البغي والطغيان المعادية للإسلام، التي تكيد ضد ديننا وضد أمتنا، نلاحظ أنَّ كثيراً من الشباب قد زهدوا في العلم من منابعه العذبة وأصوله الصافية، وجعلوا من وسائل التواصل ومواقع الشبكة العنكبوتية منهلاً لمعارفهم، وفي أخطر أمر من أمور حياتهم ألا وهو أمر هذا الدين. وهذه المناهل أو المواقع أو الصفحات، أو الوسائل بجملتها؛ هي في أكثر الأحيان مجهولة المصدر؛ بل مشبوهة المصدر والهدف، وقد روى مسلم عن ابن سيرين رحمه الله تعالى: «إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم» ما ينبغي أن نأخذ ديننا من موارد مجهولة، وقد كان سلفنا الصالح إذا ورد في سند الحديث رجلٌ لم تعرف تفاصيل حياته قالوا إنَّ هذا السند فيه انقطاع لأنَّ فيه رجلاً مجهولاً، جهالة رجلٍ في السند تجعل الحديث كلَّه مرفوضاً، فكيف ننهل من مصادر مشبوهة، ومن مراجع هي في أغلب الأحيان تُنظم وتُرتب من جهات معادية، لقد شدَّد سلفنا الصالح في قبول الخبر إلا أن يكون بسند متصل برجالٍ ثقات عدول ثبت اتصالهم ببعضهم وأخذُهم الواحد من الآخر إلى النَّبيِّ r فكيف نقبل الخبر والمعلومات من هنا وهناك؟! حتى غدونا كحاطب ليل لا يدري ماذا يحمل على كتفه، أيحمل حطباً صرفاً، أم حطباً فيه الأفاعي والعقارب.
إنَّهما مصدران هما منهل ديننا، يضاف إليهما مصدران إنما نستقي حجيتهما من هذين المصدرين، القرآن والسنة والإجماع والقياس، هذه مصادر ديننا مصادر شريعتنا المصادر العذبة التي ننهل منها أحكام شريعتنا.
نعم، تتعرض شريعتنا اليوم لحربٍ شرسة قذرة من أعدائها وقد استغل الأعداء مناخاً ملائماً لهذا الغزو الفكري، ألا وهو الجهل، وزهد كثيرٍ من شبابنا بمجالس العلم، وانكبابهم على تلك الشاشة الصغيرة أو الشاشة الأصغر، ليجعلوها الجامعة التي ينهلون منها علومهم، والمورد الذي يردونه لكي ينهلوا منه معارفهم، وهذا لعمري سبب من أخطر الأسباب التي توقعنا في عصرنا هذا في ألوان من الجهل والضلال.
هناك أيُّها المسلمون حملة مسعورة بدأت منذ أكثر من قرن، بدأتها بريطانيا يوم نظمت عصابة تسمى القرآنيين، غرستها في الهند لتنطلق من الهند إلى هنا وهناك فتنشر ضلالها، ألا وهو: العزوف عن السنة المطهرة، كيف تعزف عن السنة المطهرة وتدعي الاكتفاء بالقرآن؛ والقرآن الكريم يقول لك: )أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ( ويقول: )مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ(ويقول: )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ( كيف يمكن أن تعزف عن السنة وقد جعلها الله تعالى بياناً لكتابه، إذ قال سبحانه وتعالى: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ(.
يخرج علينا اليوم أناس ينتسبون إلى العروبة ويدّعون الإسلام، وهم حِراب وجهت إلى صدر الإسلام. ولكن هذا الإسلام أنزله الله ولم يضعه البشر، وقد تعهد الله بحفظه فقال: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( لا يمكن لهؤلاء الحثالة أن ينالوا من صفاء هذا القرآن ولا من صفاء هذه السنة، إنما يستطيعون أن يغروا ضعاف النفوس وضعاف الهمم أن يزهدوا بكتاب الله وأن يعرضوا عن سنة رسول الله r ولكن هؤلاء إنما يسقطون أنفسهم، لأن هذا الدين قد قيَّض الله له من ينهض بشأنه، فقد قال r: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » سيظلُّ هذا الدين شمساً وضَّاءةً في سماء هذا الكون، يتمسك به أبناؤه ويحملونه كابراً عن كابر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والمنهزمون والمترددون والذين يتبعون المسالك المعوجة، إنما يهلكون ويوبقون أنفسهم، ولذلك أستنهِض همة الشباب الغيارى على أنفسهم الذين سيقفون غداً بين يدي الله U فيسألهم عن دينهم من أين نهلوه؟ وممن تعلموه؟ إن الله U لم ينزل كتاباً من السماء مباشرة وإنما أنزله على نبيه ليبين لهم القرآن، وليرينا الصورة التطبيقية له، فمن أعرض عن رسول الله r فقد أضل نفسه وأهلك نفسه، أعرض عن دينه وحكم على نفسه بالضلال، ما ينبغي أن نسير في مسالك معوجة، وعلينا أن نكون حرصين على مجالس العلم التي يوثق بها، على مناهل المعرفة التي يطمأن إليها، فقد قال علماء السنة: (الحديث الصحيح الذي اتصل اسناده بنقل العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله من أوله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا على قادحة) بهذا عرفوا الحديث الصحيح؛ ويخرج علينا اليوم ببغاوات لقنتهم بريطانيا وفرنسا أصول تشكيك المسلمين بدينهم. التشكيك لن ينال من ديننا، ولكن ينال من الأذن التي تصغي إلى لغو أولئك المجرمين، إلى لغو أولئك المشككين، هذا الدين قد قيض الله له رجالاً حملوه كابراً عن كابر بأسانيد متصلة برسول الله r.
هناك من ينال من الإمام البخاري -قدس الله سر الإمام البخاري ورحم الله الإمام البخاري وجزاه عن هذه الأمة خيراً- ويشككون في صحيح البخاري!! ما تحت أديم السماء أصلاً أصح من كتب صحاح السنة من موطأ مالك وصحيح البخاري وصحيح مسلم بعد كتاب الله، هذه الكتب التي بذل فيها أصحابها العمرَ والجهد فسافروا وانتقلوا ودققوا ومحصوا حتى وصلوا إلى هذه الزبدة الصافية النقية، ليأتي لكع ابن لكع في عصرنا هذا فينال منها، خسئوا، إنما ينالون من عقولهم ومن نفوسهم المريضة، وتبقى سنة رسول الله r في صون الله وحفظه، وكما حفظ الله كتابه؛ حفظ سنة نبيه فقيض لسنة نبيه رجالاً أمناء حريصين لا يدَعون أي كذب أو افتراء أو مشكوك فيه يندس في أحاديث رسول الله r.
نحن اليوم بحاجة إلى وعي للكيد الذي يكاد لديننا ويكاد لنا، ونحن إنما وقعنا فيما وقعنا فيه من الفتن بالجهل وبالشك في سلفنا الصالحين الأمناء، الذين كانوا أمناء على هذا الدين، عندما كنا نقول: إن الفتنة والخروج على ولي الأمر أمر حرام؛ سخر البعض وأعرض البعض، فوقعنا فيما وقعنا فيه، ولماذا؟ لأننا أعرضنا عن مناهج السنة وعما علمنا إياه سلفنا الصالح الثقات، كالإمام النووي رحمه الله تعالى وصحاح السنة وأكابر الفقهاء عندما علمونا تلك القواعد كان علينا أن ننصاع لها، فلما أعرضنا عنها نالنا ما نالنا.
أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، اليوم نتعرض لغزو ينال من ثوابتنا في الكتاب والسنة والإجماع والقياس وينال من رموزنا من أبطالنا من رجالنا، ولكن هذه الأمة وبلاد الشام هي مثل أعلى بإذن الله تعالى للوعي والأمانة والحرص على كتاب الله وسنة النَّبيِّ r.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي