مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/09/2018

خطبة د.محمد توفيق رمضان البوطي : يوم عاشوراء


يوم عاشوراء
تاريخ الخطبة: 12/9/2018
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ *وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه ما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني اسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال صلى الله عليه وسلم: «فأنا أحق بموسى منكم»، فصامه وأمر بصيامه.
أيُّها المسلمون، من خلال ذكرى عاشوراء ندرك أولاً أن الوقوف عند الذكريات المهمة التي مرت بتاريخ البشرية أمر شرعي، وأن الاحتفاء يتلك الذكريات بما يرسخ العبرة في النفوس أمر شرعي قام به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به، وليس بدعة كما يقول الجهلة الذين كلما أحيينا سنة وصفوها بأنها بدعة.
وأنَّ علاقتنا بموسى عليه الصلاة والسلام علاقة وطيدة، لأنَّ ما جاء به من الحق، والذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لَينبثقان من مشكاة واحدة ﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، ونحن أولى بموسى من أدعياء اتّباعه قتلة الأنبياء الخارجين عن هديهم ونهجهم.
ومن هنا نؤكد أنَّ الاحتفال بذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبذكرى الهجرة، وبذكرى الإسراء والمعراج، وبذكرى غزوة بدر وبذكرى يوم الفتح وسائر المواقع أمرٌ شرعيٌ، لا من أجل إعلان مظاهر الابتهاج؛ بل من أجل إحياء القلوب التي غلبت عليها الغفلة فنسيت تاريخها وأمجادها. ونسيت أنَّ ثمة قاعدة لا يجوز لنا أن ننساها أنَّ أمتنا بمقدار صدق تمسكها بدينها والتزامها بهدي ربها ترتقي وتنتصر، وتجتمع كلمتها. وبمقدار تخلّيها عن هدي ربها تعود أنكاثاً، وينحط شأنها وتصير تبعاً لأعدائها، نعم إنَّ إحياء الذكريات التاريخية إحياء للأمة وبعث للقلوب والعقول أن تتعظ وتعتبر.
أيُّها المسلمون؛ ضمن هذه الذكرى هناك من ينظر إلى يوم عاشوراء من زاوية أخرى نشاركهم فيها، أنَّه يرتبط بحدث أليم جرى في أول العصر الثاني من تاريخ الأمة، وهو استشهاد سيدنا الحسين بن علي وفاطمة رضي الله عنه ما، ونحن نتألم باستشهاده كل الألم كما يتألم كل مسلم، كيف لا؟ وهو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه وأحد سيدي شباب أهل الجنة. وقد كان قتله جريمة لطخت تاريخنا بصفحة سوداء. نتألم لاستشهاده كما نتألم لاستشهاد سيدنا علي رضي الله عنه كما نتألم لاستشهاد سيدنا الحسن مسموما رضي الله عنه ، كما نتألم من قبلُ لوفاة سيد الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ويستوقفني هنا استشهاد سيدنا علي رضي الله عنه بيد الخوارج الذين كانوا مصيبة هذه الأمة في تلك الفترة المؤلمة من تاريخها، كما غدوا مصيبة هذه الأمة في هذا العصر، حيث يمارسون اليوم باسم الإسلام اغتيال الإسلام وتشويهه، ولقد اتضح أنهم أدوات صنعها أعداء لإسلام لتشويه الإسلام وتمزيق الأمة.
إذا كنا نتألم اليوم للذكرى الأليمة باستشهاد سيدنا الحسين رضي الله عنه ؛ فلأنَّ ذلك كان نتيجة لتمزق كلمة الأمة، ونتيجة لسوء تصرفِ من رَكن إلى عزٍّ مزيف اشترى به الشقاء المديد غداً بين يدي الله عز وجل، ولكن هذه الذكرى يجب أن تدفع بنا إلى معالجة الجراح لا إلى تعميقها.
عامة الأئمة أئمة أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كانوا تلامذة على أئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلامذة على يد سيدنا جعفر الصادق، ثم إنَّ عزاءنا اليوم بالنسبة للمصاب، عزاؤنا أننا سنلتقي مع القتلة الذين ارتكبوا تلك الجريمة بحق ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه وريحانته، سنلتقي بهم في محكمة الله عز وجل ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ*بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾
ثمَّ إنَّ علينا أن نعود إلى تاريخنا فنتساءل: كيف تعامل السلف الصالح مع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تعامل أئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علماء هذه الامة، هل شغلهم الحزن عن البناء ومعالجة الداء؟ عامة الأئمة كما ذكرنا تتلمذوا على يد أئمة أهل البيت، ولم يكن ذلك سبباً في ترسيخ مشاعر الكراهية الممزقة للأمة؛ بل على النقيض من ذلك، رسخ أهل البيت وأسياد أهل البيت محبتهم للصحابة ورسخ المسلمون محبتهم لأهل البيت، فيوم سأل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه عن سيدنا عمر، قال: ألا تعلم أنه الرجل الذي زوجه علي رضي الله عنه من ابنته أم كلثوم، ألا تعلم من هي ابنته أم كلثوم، ألا تعلم أنَّ أمها فاطمة سيدة نساء أهل الجنة في الجنة، فلو لم يكن أهلاً لما زوجه إياها، هكذا كانت العلاقة فيما بين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا تعامل سلفنا الصالح بعد الذي أصابهم، اعادوا بناء وحدة الأمة على قواعد المحبة والتعاون البنّاء المثمر في مواجهة الآلام والتحديات.
ما أحوجنا اليوم إلى إعادة بناء أنفسنا في مواجهة المكائد التي تستهدف وحدتنا وتزرع عوامل ومشاعر الكراهية والتمزيق والتفريق بين أبناء الأمة، كلنا مسؤولون عن إعادة اللُحمة بين أبناء هذه الأمة في مواجهة حالة التشرذم التي جعلتنا في مؤخرة الأمم بعد أن كنا في مقدمتها، كنا أساتذة الحضارة، أساتذة في الوحدة والقوة والتماسك. كلنا مسؤولون عن إعادة اللُحمة بين أبناء هذه الأمة في مواجهة حالة التشرذم، ولا ينبغي أن نسمح للعدو أن يثير فينا مشاعر الكراهية وعوامل الفرقة؛ بل يجب أن نرسخ فيما بيننا حالة المحبة والتضامن والتعاون وإزالة كل مشاعر الكراهية التي يرسخها عدونا ولا يستفيد منها إلا العدو الغاشم.
أسأل الله تعالى أن يردنا إلى هديه رداً جميلاً وأن يجمع كلمتنا على الحق والتقوى، إنه سميع مجيب
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تشغيل

صوتي