مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/08/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: إلى المتطاولين على كتب الصحاح


إلى المتطاولين على كتب الصحاح
د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 10/8/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( ويقول سبحانه: )وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ( وقال سبحانه: )وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ( ويقول سبحانه: )إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ( ويحذر ربنا تبارك وتعالى الأمة من تناقل الأخبار على عواهنها: )وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا( وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» وروى الكثير من علماء الحديث عن محمد بن سيرين قوله: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ومما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الصحاح وغيرها وهو متواتر يقيني الثبوت: «مَن كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار».
أيُّها المسلمون؛ ثمة تلازمٌ بين الإيمان والصدق، وتلازمٌ بين النفاق والكذب، ولذلك شدد سلفنا الصالح من عهد الصحابة فمن بعدهم على عدم قبول الخبر إلا ممن عرف عنه الصدق والأمانة والاستقامة. وضبطوا شرط صحة الخبر لقبوله بقولهم: (الخبر الصحيح هو الذي اتصل إسناده بنقل العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله، من أوله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة) أي أنهم اشترطوا في الراوي شرطين اثنين الشرط الأول: العدالة، أي: الاستقامة في دينه، فلم يرتكب كبيرة، ولم يصر على صغيرة، ولم يفعل ما يخل بالمروءة، ولم يعهد عنه كذب قط، هو على درجة عالية من الاستقامة في سلوكه، والاستقامة في دينه، وتقديره للأعراف والعادات. نعم، حذَّر كتاب الله من قبول أي خبر إلا بعد التأكد من صدقه، ولذلك لم يقبل العلماء رواية المجهول، ولو عُدْتَ اليوم إلى كتب التراجم لوجدت أنه ما من راوٍ روى حديثاً فأكثر إلا وله ترجمة كاملة، حياته، مكان ولادته، عمّن أخذ، ومَن تلقى عنه، أسفاره، تنقلاته، كلها مبينة تبييناً كاملاً وافياً ودقيقاً. فإذا كان مجهولاً قالوا: مجهول، فلا يؤخذ عنه. مادامت سيرته غير واضحة فإنه لا يقبل منه الخبر، حتى إن أحدهم قال: (إنا لنرد أحاديث رجالٍ ربما وضعوا أقدامهم في الجنة) إما لأنهم كانوا على درجة من الأمانة لكن لم يكونوا على درجة من الضبط والحفظ، أو لأنهم كانوا مجهولي السيرة، هذا ما كان عليه علماؤنا وسلفنا، وعلى هذا المنهج تناقل سلفنا الصالح الأخبار إلى عصر تدوين السنة وضبطها.
اليوم ثمة هجمة من أعداء الإسلام في الخارج يقوم بخدمتهم فيها وترويجها عملاؤهم وأدواتهم في الداخل، هذه الهجمة تتمثل في أمور؛ الأمر الأول: التشكيك بصحاح السنة وبأصحاب الصحاح، الهجوم القذر على أعظم علماء السنة وأوثقهم ممن خضعوا لأقوى أنواع الاختبار فنالوا أعلى درجة القبول - نحن عندنا أعلى درجات القبول أن يقال: أمير المؤمنين في الحديث، يعني: أنه بلغ الذروة - فالإمام البخاري تحاول الدوائر الخارجية عبر أدواتها في بلادنا التشكيك في صحيحه، أو التشكيك في صحيح مسلم، أو التشكيك في السنة جملةً وتفصيلاً، لكي تخلو الساحة لخرافاتهم وترهاتهم وأكاذيبهم وتضليلاتهم. هؤلاء لا ينطلقون من ذواتهم، بل هناك برامج خارجية تخطط لهم وتقوم بشراء ذوي النفوس المريضة الخسيسة التافهة؛ لكي يروجوا لهم ويشككوا الأمة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتارة يقولون كتاب الله )لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( كيف نجعل كلام بشر بمثابة القرآن الكريم؟ عجيب أمرهم، أليس القرآن الكريم يقول لنا )أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ( أليس القرآن هو الذي يقول: )وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (أليس القرآن يقول لنا: )مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ( إذن فأنت تريد أن تشككني في كتاب الله! هذا الإنسان لا يشكك في السنة، وإنما يشكك في القرآن نفسه، يريد منا أن نعطل نصف ديننا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» ويقول الله عز وجل: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( إذاً مفتاح فهمك لكتاب الله هو سنة رسول الله.
عندنا مفتاحان لفهم القرآن الكريم، المفتاح الأول: هو السنة النبوية لأن الله عز وجل عهد ومنح السلطة التبينيَّة لكتابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: )وأنْزَلنا إليْكَ الذِكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( فجمل القرآن يفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان وتفصيل الأحكام كلها في ديننا إنما هي في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، هم يريدون أن يفرغوا الدين من محتواه فيروجوا لهذا التضليل القذر الذي يحاولون به أن ينسفوا الدين كله، ولكن بأسلوب ينطلي على الأغبياء والسذج، يعظمون القرآن الكريم ولكنهم يتجاهلون أن القرآن ذاته هو الذي أمرنا باتباع السنة وبأن نعتمد السنة مرجعاً في فهم كتاب الله عز وجل.
والمفتاح الثاني: هو اللغة العربية، هناك مَن يريد اليوم أن يتجاوز اللغة العربية في فهم القرآن، إذاً فما مرجعك في فهم القرآن؟ المزاج، الهوى، الخرافات الخزعبلات.. وهناك دوائر أجنبية تغذي وتشجع وتروج لهؤلاء الأعداء، لهؤلاء المجرمين الذين يريدون أن يشككونا في مسلمات وثواب ديننا العظيم.
ينبغي أن نكون اليوم في غاية الوعي وغاية الانتباه لهذا لذي يروجونه، يقول الله عز وجل: )إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(. )وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ( ترويج الشائعات، وتعطيل كتاب الله وتعطيل سنة رسول الله والخروج من دين الله كله إلى مثل هذه الأباطيل التي يدعوننا إليها.
اليوم وللأسف صارت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي (الواتس والفيس ...الخ) التي جاءت بلاء علينا؛ لأنها النافذة التي دخل منها هؤلاء المجرمون، هؤلاء الدجاجلة، هؤلاء الأعداء على بسطائنا، بل حتى على مثقفينا الذين استمرؤوا ثقافة السندويش والوجبات الجاهزة السريعة، التي تجعل منك مثقف دون أن تجتهد في فهم القرآن وفي فهم السنة وفي تعلم دينك، يروون لك الأحاديث، ويسوقون لك الأخبار، ويروجون لك حملات الكذب والتضليل، وتأخذها وكأنها جاءت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنشرها وتذيعها.
ما شاء الله اليوم البعض منا متى وصلك شيء من خبر أو حديث، تقوم مباشرة بعملية إعادة تحويل وتنشره على عشرين ثلاثين شخص من أصدقائك وزملائك وأنت لا تدري بأنك تروج الكذب والضلال، "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" هذا ما يقوله لنا النبي صلى الله عليه وسلم
)إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بآيَاتِ الله( إذا كان الذين يروجون الكذب هم الذين لا يؤمنون بآيات الله؛ وإذا كان الإنسان يبلغ أعلى درجات الكذب إذا كان يروج كل ما يصل إليه؛ إذاً أنت وقعت في مخطط الكذب وصرت أداة من أدواته في ترويج الضلالات والأكاذيب والترهات والخزعبلات.
نعم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أريد أن ألفت الانتباه إلى شيء، مررنا نحن عبر هذه السنوات العجاف السبع على محنة من أشد المحن التي مرت على تاريخ الأمة. ترى ما هو أخطر ما كان في هذه المحنة؟ هو الحرب الإعلامية التي ضللت الأمة كلها تقريباً، أفقدت الأمة وعيها، صار الخبر الذي يأتيني عبر وسائل الاعلام المضللة أصح من حديث البخاري ومسلم، صرنا نشكك ونشك بكتاب الله وبسنة رسول الله وبكلام الأئمة وبكلام العلماء الثقات، مقابل أكاذيب وتضليلات تنشرها تلك المحطات وتلك المواقع. مما دفع بالأمة إلى مهلكتها، إلى محرقة شردت وسفكت دماء أبنائها ودمرت أرضها وبلادها بسبب تلك القنوات القذرة التي كانت تروج الكذب والتضليل وتدعو إلى الفتنة والقتل والإجرام، هذه نتيجة الإصغاء إلى تلك الأكاذيب، )لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا( )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا( )وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذيْنَ يَسْتنْبطونَهُ مِنْهُمْ ( حرب الشائعات حرب من أقذر الحروب التي يمارسها عدونا فينا نحن، لكي ينشر الرعب والخوف وينشر الفتنة والضلال في هذه الأمة.
هذا الشق الثاني، لكني لا أريد أن تنسوا الشق الأول وهو أن مصدر فهمنا لديننا ولكتاب ربنا إنما هو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأن الذين يشكوننا في السنة إنما يريدون أن يحاربوا كتاب الله عز وجل ويضللوا الأمة عن دينها كله.
أنا أتحدث إلى من هم في المسجد، وإلى من يُصلُّون في المساجد.. إلى سائر المسلمين، أما غير المسلمين فلنا معهم حديث آخر؛ أولئك ندعوهم إلى الإيمان بالله، ندعوهم إلى الإيمان بكتاب الله، ندعوهم إلى الإيمان باليوم الآخر، أولئك نسلك معهم أسلوب النقاش بالمبادئ الأساسية. أما أنتم أيها المسلمون فإني أناقش أو أعرض أو أحذر من أن نقع في أحابيل التضليل التي تهدف إلى سلب الإيمان من قلوبكم بطريقة التدرج والتحريف والتزوير. ينبغي أن نكون على درجة من اليقظة والوعي، وأن ننطلق من أسس ديننا ومسلمات شريعتنا، أن ننطلق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصادرها النقية الصافية حصراً وليس غير ذلك.
أخيراً نقول إن الساحة اليوم مفتوحة لنا ولغيرنا، لكننا وللأسف لا نتكلف السعي إلى الحقيقة، ونتقبل كل ما وصلنا. غدا أحدنا كحاطب ليل، حاطب الليل هو الذي يحمل على ظهره ما يظنه حطباً ونحو ذلك، ولا يدري أن الأفعى في حمله وهو لا يشعر، مما يؤدي به إلى هلاكه. ما ينبغي أن يكون أحدنا حاطب ليل يأخذ مما هب ودب، ويصغي إلى كل ناعق، ويستمع إلى كل كذاب حتى يسلب دينه ويضل السبيل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي