مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/08/2018

خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي: غزوة تبوك


غزوة تبوك
تاريخ الخطبة: 3/8/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا(.
أيَّها المسلمون؛ نزلت هذه الآيات وآيات أخرى كثيرة، في غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو عام، وقد روى الترمذي والحاكم في المستدرك أنَّه جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أثناء تجهيزه لغزوة تبوك بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وأحمالها، وبألف دينار، ففرغها عثمان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» وكرره مرارا، وجاءه سيدنا أبو بكر بكل ماله، وجاءه سيدنا عمر بشطر ماله، وكان الروم قد جهزوا جيشًا لغزو النبي صلى الله عليه وسلم، وتحالفت معهم قبائل لخم وجذام من نصارى العرب، ووصلت طلائعهم إلى البلقاء قرب تبوك، وجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه موضحاً الهدف الذي سيتجه إليه، روى البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها) أي: أنَّه لم يكن يكشف الهدف من مسير الجيش؛ بل كان يوري حرصاً على الأسرار العسكرية ألَّا تتسرب إلى المشركين، إلا أنَّه في هذه الغزوة بالذات التي كانت في أشد أيام الصيف، وفي أفضل أيام المدينة المنورة، حيث طابت الثمار وحلا لأهل المدينة أن يتفيأوا ظلال نخيلها ومياه ينابيعها وآبارها، كانت الغزوة في تلك الظروف الصعبة، وكان السفر والهدف بعيداً – هي أبعد غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم- مع خطورة تلك الغزوة، إذ الهدف كان مواجهة دولة عظمى على تخوم الدولة الإسلامية على تخوم جزيرة العرب، لذلك صرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بالهدف ليكون الاستعداد على المستوى الذي سيواجهونه، فأخبرهم بوجهته التي يريد، والمسلمون يومئذٍ كانوا كثير، ولكن لم يكن هناك سجلات وإحصائيات لكي يحصى الذين ذهبوا وتوجهوا ونفذوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، فكان يُخيل إلى البعض أنَّه لو غاب فلن ينتبه النبي صلى الله عليه وسلم له، إلا إن أتاه بذلك وحي من عند الله. فلما بلغوا تبوكاً؛ توارى جيش الروم وانهزم، وانهزم أحلافهم معه، مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، قذف الله في قلوبهم الرعب فمضوا هائمين على وجوههم فارِّين من مواجهة جيش النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه يوحنا حاكم أيلة، فصالح النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية برضاه، وكذلك قبائل أخرى صالحت النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت عهداً بينها وبينه.
وكان الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ثلاث فئات؛ الفئة الأولى: هم أولئك المنافقون الذين من شأنهم أن يخذلوا المسلمين في الساعة الحرجة، وأن يتخلفوا عن واجب ملاقاة العدو عندما يحين أوان ذلك، فهي ليست المرة الأولى، ولن تكون المرة الأخيرة؛ لأن المنافقين أجسادهم معنا وقلوبهم مع العدو. الفئة الثانية: فئة أرادت الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قليلة ذات اليد، ولم يكن لديها وسائل قتال أو وسائل نقل مراكب يركبونها، ولم تكفي الوسائل التي كانت موفرة للنبي صلى الله عليه وسلم لهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدم حزَناً ألَّا يجدوا ما يحملهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه، هؤلاء كُتب لهم أجر من خرجوا لأنَّهم كانوا صادقين في عزيمة الخروج ولكن حال بينهم وبين الخروج عدم توافر الوسائل، وفريق ثالث صغير وبسيط لم يتجاوز الثلاثة أشخاص، هؤلاء كانوا من خيرة الصحابة، ولكن حال بينهم وبين الذهاب مع النبي صلى الله عليه وسلم التقاعس والتسويف. هو يتصور أنه خلال أربع وعشرين ساعة يمكن أن يجهز نفسه فسوف وسوف، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخيله وأشجاره، فكان هذا التسويف والتقاعس سبباً في عقوبة شديدة قاسية نزلت بالثلاثة الذين تخلفوا، حتى استغفروا وندموا وتابوا فتاب الله عليه بعد أن أمضوا عقوبة شديدة جداً.
هذه الغزوة فيها مشاهد جديرة بأن نتأملها،
المشهد الأول: هذا التحالف بين قبائل العرب المتاخمة لسيطرة الروم والجيش الروماني، هم عرب والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، ولكنهم أي نصارى بلاد الشام أو زعماء نصارى بلاد الشام كانوا آنذاك ممن يصدق عليهم الوصف المعاصر: عملاء للروم، وأدوات طيعة تنصاع لأمر هرقل. والعميل يبقى ذليلاً مهيناً مِطوَاعاً لسيده، ولكن هل أغنتهم عمالتهم شيئاً؟ لقد هُزم الروم خوفاً في هذه المعركة، ثم هُزموا في ملاقاتهم للجيوش التي وجهت لفتح بلاد الشام بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وبقية الصحابة الكرام الذين قادوا حملة الفتح لتلك البلاد.
المشهد الثاني: هو هذا التسابق الطيب المبارك من الصحابة الكرام لبذل المال والنفس طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستجابة لندائه في موجهة دولة تريد أن تَئد الدعوة قبل أن تنطلق انطلاقتها، وأن تجتاح جزيرة العرب وتقضي على الإسلام في مهده، تنافس الصحابة الكرام في الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم بذلوا المال ووضعوا أرواحهم رهن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته تلك، ورأينا كيف أن أبا بكر قدم ماله كله، وعمر قدم شطر ماله، وعثمان بذل ذلك المقدار العظيم من المال لتجهيز هذا الجيش، بالإضافة إلى خروجهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
المشهد الثالث: تخلف المنافقين، وهنا أشير إلى أن هؤلاء المنافقين لم يكونوا مجرد أناس يخفون مالا يظهرون؛ بل بلغ منهم الكيد لدرجة الجاسوسية والعمالة القذرة، فلقد أنشأوا ما سموه مسجداً وصفه ربنا تبارك وتعالى بأنه مسجد الضرار، مسجداً ضراراً إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، ليكون وكراً للجاسوسية والكيد للمسلمين في قلب المدينة المنورة، نعم هذا النفاق خطِرٌ خطورةً أشد من خطورة العدو الذي يتربص بنا في جبهته، لأن هؤلاء يعيشون معنا، ويعرفون حركاتنا، ويتابعون كل نشاطات الأمة واستعداداتها لمواجهة العدو، فهم الخطر ذاته، بالإضافة إلى أنهم يغطون بالدين خيانتهم، أنشأوا مسجداً، بل وأرادوا أن يدشن هذا المسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمعاناً في تغطية خيانتهم وفي تغطيتهم لحقيقة هذا الوكر الذي أنشأوه، لذلك أمر ربنا تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يأتي ذلك المسجد، ونهاه أن يصلي فيه، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يمضي لهدم ذلك الوكر الذي سموه مسجداً. نحن اليوم ينبغي أن نكون يقظين لآلية النفاق وطريقة تعامله، هناك من يتستر بالدين ليكيد للدين، وهناك من يلبس عباءة الدين ليمزق حرمات هذا الدين، هذا الأمر ليس جديداً، فما نراه اليوم من جرائم تتستر بالدين أمر قديم حذرنا كتاب الله عز وجل منه، وبيّن ألَّا نتعاون وألَّا نتآزر إلا مع من عرفنا إخلاصه )لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ( وقال عن ذلك المسجد: )لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا(، نعم وهذا الأمر الذي أشرت إليه نقول له تتمة بالنسبة لقلة من المخلصين، هؤلاء المخلصون القلة تقاعسوا وسوَّفوا ففاتهم شرف مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الخروج، وبعد أن قوطعوا من المسلمين جميعاً مدة أربعين يوماً عفا الله عنهم لذلك قال: )وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( من كان صادقاً مع الله فضعفت نفسه في بعض المواقف فإن الله ينظر إليه نظر رحمة إن صدق في الإنابة إليه وإن صدق في التوبة إليه، وكلنا بحاجة لمراجعة ذواتنا وأنفسنا لنتوب إلى الله ليتوب علينا.
أسأل الله أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يتوب علينا وأن يفرج عنا إنه هو التواب الرحيم.
أقول قوي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي