مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/07/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: من دروس غزوة حنين


من دروس غزوة حنين
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة 20-7-2018
بسم الله الرحمن الرحيم
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ # ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ( وروى مسلم عن العباس t قال: شهدت مع رسول الله e يوم حنين؛ فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسولَ e فلم نفارقه، ورسول الله e على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذمي، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين، فَطَفِق رسول الله e يركض بغلته قِبَل الكفار، قال العباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلة رسول الله e أكفها إرادة ألَّا تسرع، وأبو سفيان آخذٌ بركاب رسول الله e فقال رسول الله e: «أي عباس؛ نادِ أصحاب السَّمُرَة» –والسَّمُرَة هي الشجرة التي بايع تحتها الصحابة يوم صلح الحديبة رسولَ الله e )إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ( نوَّه القرآن بهم، فقال عباس – وكان رجلاً صيِّتاً- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: فوالله لكأن عَطَفَتْهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها – أي: انعطفوا نحو النبي e فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قُصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول الله e وهو على بغلته كالمتطاول عليها – واضحاً يقف في مواجهة الجيوش- إلى قتالهم، فقال رسول الله e: «الآن حمي الوطيس» ثم أخذ النبي e حُصيَّات من الأرض فرمى بهنَّ وجوه الكفار ثم قال: «انهزموا ورب محمد» e.
أيُّها المسلمون؛ بعد فتح مكة ضاق صدر البقية الباقية من معارضي النبي e وأعداء دعوته، والذين ناصبوه العداء منذ جاء الطائفَ لاجئاً قبل الهجرة، فتحالفت ثقيف - أهل الطائف - مع هوازن – قبائل كبيرة محيطة بالطائف- لتشكيل قوة كبيرة بهدف وأد انتصار الفتح الذي تحقق للنبي e، وحشدوا المقاتلين بقيادة مالك بن عوف الذي أمرهم أن يأتوا بأموالهم ونسائهم وأولادهم ليضمن عدم فرارهم، وجهز النبي e جيشاً قوامه اثنا عشر ألفاً، عشرة آلاف ممن قدم معه من المدينة، وألفان من أهل مكة ممن أسلموا وبايعوه، فلما رأى بعضهم هذا الجيش الذي يجتمع لأول مرة بمثل هذا العدد، قال أحدهم: لن نُغلب اليوم من قلة. فامتعض النبي e من هذه الكلمة، لأنها تحمل معنى الغرور بالعدد والعدة، ولم يكن العددُ يوماً موضعَ اعتبار في أسباب النصر بالنسبة للمسلمين )كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( وإلى هذا أشار قوله سبحانه في الآية التي تلوتها قبل قليل ) إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ( نعم عندما توجه المسلمون لقتال المشركين؛ أعدَّ مالك بن عوف كميناً في طريق المسلمين في وادي حنين، اختبأ فيه جيشه في شعاب ذلك الوادي، حتى إذا توسط المسلمون ذلك الوادي باغتوهم بهجوم من شتى جوانبه، فكان وقع المفاجأة على المسلمين شديداً، مما جعلهم يضطربون ويهيم أكثرهم يمضون هائمين على وجوههم، عندئذٍ توجه النبي e بنفسه وهو على بغلته، وهو ينادي: «أنا النبي لا كذب» يواجه جيش المشركين بارزاً أمامهم يتحداهم، ويعلن من هو «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أين يا أصحاب السمرة» ثم أمر العباس الذي كان ممسكاً بركابه، وسفيان بن الحارث الذي كان ممسكاً بلجام فرسه، مضى وهو يقول للعباس: «نادي أصحاب السَّمُرَة» وكان صيتا فبدأ ينادي: "يا أصحاب السَّمُرَة" يقول راوي الخبر عن العباس: فكأنما عطفتهم عطفة البقر على أولادها، بدأت اليقظة، وتوجه كثير من الصحابة الكرام نحو النبي e وواجهوا هجوم المشركين، وكان النصر، مع عدم تكافؤ عدد المقاتلين هنا وهناك، ومع شدة وقع المفاجأة التي بوغت بها جيش المسلمين. نعم، ثم حمل النبي e حفنة من الحصى من الأرض ووقف وامتطى على بغلته، ورمى المشركين بتلك الحفنة التي تحولت إلى ما يشبه الإعصار، ثم قال النبي e بعد أن رمى بها المشركين: انهزموا ورب محمد e.
أيَّها المسلمون
نحن أمام صفحة مثيرة من صفحات سيرة النبي e جديرة بالتأمل، ذكرتها باقتضاب، ولا يمكن أن يتسع هذا المقام للإحاطة بجوانب العبرة والمعاني التي تكمن في هذه الصفحة المثيرة العجيبة من سيرة النبي e.
لعل من أهم المعاني التي أشرنا إليها في هذا الموقف في هذه الصفحة من سيرة النبي e أنَّ بعض المسلمين لم يدركوا حتى ذلك اليوم أن عوامل النصر بالنسبة للمسلمين لا تكمن في العدد والعدة، وإنما تكمن في مدى إخلاص المسلمين، والعزيمة الصادقة التي ينطلقون بها لمواجهة أعدائهم. فلم يكن يوماً العدد معياراً، أو عاملاً من عوامل النصر. إليكم غزوة بدر وأحد وتلك غزوة الأحزاب وغيرها من الوقائع التي انهزم فيها المشركون والأعداء دون أن يكون المسلمين وبينهم أي تكافؤ عددي، إنَّما النصر كما قال ربنا تبارك وتعالى )كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ( فالله تعالى هو الذي يُمد المسلمين بأسباب النصر، سواء كان ذلك بتأييدٍ من الملائكة، أم كان ذلك بتثبيت قلوبهم وبث الذعر في قلوب أعدائهم. أياً كان فإن العدد والعدة ليست من العوامل التي يكمن فيها سر النصر.
الأمر الآخر: أن هوازن وثقيف من المشركين البقية لم يقرأوا سيرة النبي e ودعوته ولا رسالته ولا انتصاراته قراءة صحيحة، ظنوا أنفسهم أنهم جيش في مقابل جيش، ولم يدركوا أنهم باطلٌ في مواجهة حق، وأنهم خرافة في مواجهة العقيدة الصحيحة المبنية على الأدلة والبراهين، أنهم غثاء في مواجهة عبادٍ لله تعالى أخلصوا لله في الدينونة والعبودية، لم يقرأوا الصورة بشكل صحيح، على الرغم من أنهم لو كانوا متدبرين لأدركوا أن النبي e إنما انتصر في الوقائع كلها واستعاد مكة للحظيرة الإسلامية بتأييدٍ إلهي وبما يحمله من رسالة ربانية. لم يقرأوا الصورة بشكل صحيح، فكان لابد أن تأتيهم قارعة شديدة الوقع وأليمة جداً؛ لأنهم إنما يواجهون تأييد الله وليس مجرد عدد من الناس. أدركوا نتيجة هذه المعركة أنهم باطل في مواجهة حق، وأنهم أناس يواجهون نصرة الله تعالى وتأييده، ولا سبيل لمغالبة أمر الله U ومقارعة نصر الله سبحانه وتعالى لعبده.
هذه الحقيقة الثانية التي يمكن أن تُستفاد من هذه المسألة، الأمر يحتاج إلى تأمل أكثر وتصفح لمشاهد هذه الصفحة العظيمة من سيرة المصطفى e.
أسأل الله أن يرزقنا حسن التدبر وأن يرزقنا الالتزام بنهج الحق وأن لا نؤخذ بغرور، لا بكثرة عددية ولا بانتصارات أرضية، ولا بغيرها، وإنما أن ننظر إلى الأمور بموازين التأييد الرباني والنصرة الإلهية لعباده المخلصين، أمَّا إذا زلت بنا الأقدام فإن النصر سوف يُفقد لا سمح الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي