مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/07/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: أمور جرت في يوم فتح مكة


أمور جرت في يوم فتح مكة
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 13/7/2018
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( وقال سبحانه: ) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا( وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه خطب يوم فتح مكة، فأخذ بعضادتي البيت فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم توجه إلى مشركي مكة فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: )لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(» ثم قال: «ألا إنَّ كل ربا في الجاهلية أو دمٍ أو مالٍ فهو تحت قدميَّ هذي، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، فإني أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه، ألا إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها أو تعظمها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد الدية مغلظةً، مئة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها، ألا إن مكة قد حرمها الله – أي جعل لها حرمة وأحكاماً تختص بها - ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة» وروى الحاكم في المستدرك عن عروة بن الزبير قال: قال عكرمة بن أبي جهل لما أمَّنته زوجته: (لما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا محمد هذه – يعني زوجته - أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أنت آمن» فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس وأوفى الناس، قال عكرمة: أقول ذلك وأنا مطأطئ رأسي استحياءً منه صلى الله عليه وسلم. ثم قلت: يا رسول الله؛ استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصد عن سبيلك» قلت: يا رسول الله؛ مرني بخير ما تعلم فأعلمه قال: «قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله» ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله؛ لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصد عن سبيل الله، إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصد عن سبيل الله، إلا أبليت ضعفه في سبيل الله" ثم اجتهد في القتال والجهاد في سبيل الله حتى قُتل في يوم أجنادين شهيداً في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما.
وجاءت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان التي كانت من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم متنقبة متنكرة لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم مع مَن يبايعنه مِن قريش، وكانت هي التي مكرت بحمزة فتسببت بقتله على يد وحشي، ولاكت كبده. فماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم يزد على أن عفا عنها وبايعها مع مَن كنَّ يبايعنه من قريش.
أيها المسلمون؛ تستوقفني في هذه الصفحة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد يجب أن نتأملها، أولها: ترسيخ حرمة الكعبة المشرفة ومكة المكرمة.
النصر لم يكن لشخص ولا لجيش. النصر كان لمبدأ، كان لعقيدة، كان لثوابتَ جاهدوا وضَحَّوا في سبيلها، ولذلك سقطت الاعتبارات الشخصية، وتجاوزها المسلمون، بل تجاوزها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام ثوابت أراد أن يكون انتصار مكة انتصاراً لها وترسيخاً لها، لم يكن ذلك الانتصار سبباً لطغيان ولا سبباً لغفلة ولا سبباً لغرور. لم يكن ذلك منعطفاً يعود بهم إلى مسالك الغفلة والجاهلية والانحراف مما قد يصل إليه المنتصرون، الانتصار ليس لأشخاص، والانتصار ليس لجيوش، الانتصار للمبادئ الانتصار للمبادئ الانتصار للحقائق الانتصار للا إله إلا الله. وإلا فإنَّ نصراً يودي بنا إلى الغرور وإلى الغفلة وإلى الطغيان والله إنَّه لهزيمة، لأنَّه إعادة لنا إلى ما كنا قد نجونا منه بتضحياتنا وصبرنا.
الأمر الآخر: ترسيخ معنى المساواة التي جاء بها الإسلام، )إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( والتقوى معيار التفاضل، وهذا المعيار ليس في الدنيا؛ وإنما غداً عندما نَمثُل بين يدي الله عزوجل، هناك يتفاضل الناس، ففريق في الجنة وفريق في السعير، فريق يسمو درجاتٍ بعد درجات، إلى أن يحلق في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفريقٌ قد قعدت به الهمة فكان أدنى من ذلك، وأدنى من ذلك إلى أن يبلغ بأصحابه حالَ الأشقياء. لا تفاضل بالآباء ولا بالأنساب ولا تفاضل بالأموال ولا تفاضل بالأعراق، إنما التفاضل بمدى حُسن تصرفك ومدى قربك إلى الله بعملك الصالح الذي تتقرب به إلى الله عزوجل، أمَّا التفاخر بالآباء والأنساب والأموال وغير ذلك من مآثر الجاهلية، فلقد نسخه الإسلام ووضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت نعله.
عفو المنتصر: نعم، رسالة الإسلام وصفها ربنا تبارك وتعالى بقوله )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( فلا حقد فيها ولا انتقام، بل ترفعٌ عن الحقد والانتقام. انظر إلى أثر هذا المعنى في شخصية أشدِّ الناس عداوة للإسلام عكرمة، والذي ورث الحقد على الإسلام عن أبيه، أبي جهل، الذي بعد أن اتضح له الحق، وقد انجلت أمامه الصورة – مع كل ما فعل- فعل ما فعله في غزوة أحد، وكاد للإسلام ما كاد. مع ذلك جاء تائباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مغضياً طرفه حياءً منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصد عن سبيلك» صفح عنه وناشد ربه أن يصفح عنه، شفع له عند الله عزوجل، ثم بعد ذلك ماذا كان من عكرمة؟ أقول: كان عكرمة ينطلق من شخصه من قناعاته من ذاته، لا من أجندات خارجية ولا من برامج من تل أبيب او واشنطن أو غيرها، كان ينطلق من كرامته من إنسانيته من عقله الحر، فعندما تجلت له الحقيقة داس على الجاهلية وصدق الله في توبته، أمَّا الذين يعملون أجراء لأجندات خارجية؛ فهؤلاء لا شخصية لهم ولا كرامة لهم ولا مبدأ، إنهم يتحركون بأجهزة تعمل خارجياً. هانوا على أنفسهم فهانت أنفسهم، هانت كرامتهم، ذلوا لمن أعطوهم قياد أعناقهم وكرامتهم.
الوفاء لأهل الوفاء، أمَّا مَن يخون فإنه لا يستحق إلا العقاب، تعامل هؤلاء التائبون مع النبي صلى الله عليه وسلم بصدق، وانظر ماذا قال عكرمة فصدق فيما قال: (والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله، إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله) ثم اجتهد في الوفاء بهذا العهد إلى أن لقي ربه شهيداً في معركة أجنادين، هذا هو الصدق، هذه هي الرجولة هذا هو العقل الحر الذي عرف ربه فأذعن له، ولم يذعن لجهة خارجية أو غير خارجية.
وأخيراً نقول: إن التحولات التي تجري اليوم ببلادنا ينبغي أن تكون سبباً في شكر الله والتواضع لله، وترسيخ الثوابت التي كنا ولا زلنا نسعى لحمايتها ونصرتها وتأييدها، أمَّا المتساقطون على أوحال الانحراف فإنَّما يسقطون أنفسهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي