مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/03/2018

خطبة د.محمد توفيق البوطي: ظاهرة النفاق


ظاهرة النفاق
خطبة د. محمد توفيق البوطي
تاريخ الخطبة 2 / 3 / 2018
بسم الله الرحمن الرحيم
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( ويقول سبحانه: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(، وقال محذرًا منهم: )لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ( وقال سبحانه: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(.
أيُّها المسلمون؛ مجتمع المدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والذي ولد بالهجرة النبوية المباركة- كان يتكون من ثلاثة أصناف؛ المسلون من المهاجرين والأنصار، ومن اليهود، وهم عدة قبائل لكل قبيلة منها وجهتنا تجمعهم صفة اليهودية، وصنف آخر هو الأخطر من هذه الأصناف، أخطر من اليهود، اليهود عاملهم الإسلام معاملة المواطن المسلم؛ لهم مالنا وعليهم ما علينا، أمَّا الصنف الثالث فهو الذي أفاض كتاب الله عزَّ وجلَّ في بيان صفاتهم والتحذير منهم، هذا الصنف يظهر الإيمان و يبطن الكفر، يظهر الإخلاص ويبطن الخيانة، يظهر المحبة ويبطن البغض والكراهية، تحالف مع اليهود ضد المسلمين، بل تحالف مع الروم ضد المسلمون، وقد أفاض كتاب الله تعالى في بيان صفاتهم، تحدث طويلًا عنهم في مطلع سورة البقرة، وخصَّهم بسورة كاملة فضح بها أسرارهم وكشف بها بواطنهم، وفي ثنايا صفحات كتاب الله عزَّ وجلَّ الكثير الكثير من التحذير خطرهم ومكائدهم ومكرهم، يتحالفون مع العدو ضد المجتمع الإسلامي ويتظاهرون أنهم من المجتمع الإسلامي، يكيدون للمسلمين ويخذلونهم بأخطر المواقف، هم أداة لتثبيط عزيمة الأمة في ساعة الخطر، وأداة لتمزيق صفوفهم وتشتيت كلمتهم، وقد وصفهم النبي r بصفات أجملها بأربع صفات فقال: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ – خان الأمانة- وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ –يكذب في حديثه مع الناس، يقول كلامًا والحق بخلافه- وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ – يوقعه المعاهدة والاتفاقية معك ثم يغدر بك- وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ – تكون الخصومة فيما بينك وبينه خلافًا بسيطًا؛ لكنه يطغى ويتجاوز الحدود في طغيانه وفي عدائه وفي خصومته.
كما ذكرت لكم عندما خان اليهودُ النبيَّ r وأراد إجلاءهم؛ وقف رأس النفاق مع اليهود ضد النبي r وأصحابه، وفي أواخر العد النبوي عندما شعر بأن الإسلام قد استتب أمره، وجد أنَّ خير ملاذ لهم أن يتحالف مع الروم وينشئ وكرًا وقاعدة للتَّآمر على الإسلام والمسلمين في داخل المدينة المنورة، وسمى هذا الوكر مسجدًا، كشف اللثام عن حقيقته كتاب الله وسماه مسجد الضرار، ونهى النبي r أن يصلي فيه، جعلوه إرصادًا لمن حارب الله ورسوله.
أيَّها المسلمون؛ ضمن هذا المجتمع بدأ النبي r يبني دولته ويواجه أعداءه، من مشركين وغيرهم، ضمن هذا المجتمع الذي وطد بناءه بالمؤاخاة، ووطد تربيته الربانية باليقين، بالمحضن التربوي العظيم، هو المسجد الذي تتلاقى فيه الأسجاد فتتعانق فيه الأرواح، نعم قوَّى إيمانهم ووطد المحبة فيما بينهم قائمة على العلاقة مع ربهم عزَّ وجلَّ، ووثق صلتهم بربهم سبحانه وتعالى من خلال مراقبته ودوام ذكره، وجعل نُصب أعينهم الموت والآخرة، حتى غدت الآخرة أرسخ في يقينهم من الدنيا التي يعيشونها ويرونها ويسمعونها، ذلك لأنَّ الدنيا فانية ولا يدري المرء متى يتركها ويغادرها، فأمر تركها ليس بيدهن أما الآخرة فلا مناص منها ولا مفر من المآل إليها، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى عن الآخرة )وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ( بهذا المجتمع الموقن بالله الموقن بالآخرة، الذي بنى علاقته فيما بينه على المحبة والإيثار؛ بدأ النبي r صراعه مع الطغيان والبغي والعدوان، بهؤلاء الذين كانوا موضع تأييد الله جلَّ شأنه فلم يخافوا العدو مع كثرة عدده ومع قلة عددهم، لم يخافوا العدو بكثرة عَدده وعُدده، بهؤلاء واجه النبي r المشركين بثلاثمئة وستة عشر رجلًا خرجوا لمواجهة قافلة، واجه بهم جيشًا مدججًا بالسلاح يبلغ ثلاثة أضعاف ونيف، وانتصرت القلة القليلة على الكثرة الباغية المستكبرة، لأنَّ الله مع القلة القليلة المخلصة له الموقنة به المتوكلة عليه، وخذل أولئك البغاة المعتدين الطغاة المستكبرين، بهؤلاء واجه المشركين في أُحد، فكان ما كان من خذلان المنافقين وشماتتهم وشماتت اليهود معهم، والحديث عن بدر وأُحد أرجو أن أوفق للاستفاضة فيه في قابل الأيام إن شاء الله تعالى.
أيَّها المسلمون، ظاهرة النفاق أخطر ما يتعرض له المسلمون في تاريخهم كله، لكن المجتمع الإسلامي بمقدار وعيه وتربية الربانية، ومتانة بنائه التربوي والعقدي والأخلاقي يتجاوز مكائد المنافقين، ويخيب مكرهم، ظاهرة النفاق بكل صفاتها وخصائصها ظاهرة مستمرة، نعم بمقدار وعينا ويقظتنا وصدق صلتنا بربنا ومتانة بنائنا التربوي والأخلاقي نتمكن؛ من كشف مكائدهم وفضه مساوئهم، هم تلك الظاهرة التي تسمى في مصطلحات هذا العصر بالانتهازية والعمالة والخيانة، هم تلك الفئات التي تتستر بالإسلام لتحارب الإسلام، وتتظاهر بالإصلاح لنشر الفساد )قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ( يسعون لتمزيق كلمة الأمة ونشر الفتنة بين أبنائها.
إن الأمة اليوم يجب أن تكون بأشد الحذر من هذه الظاهرة بصدق صلتها مع الله وبوعيها لما يخطط لها من مكائد وما أشبه اليوم بالأمس، يكيد اليهود لأمتنا وتنفذ أدواتهم في أمتنا مكائدهم، وتنفذ مخططاتهم، اليوم تهدد القدس وهنا من يقدم التنازلات عن القدس، اليوم تسعى قوى البغي والعدوان لتمزيق كلمة الأمة وهناك من يخدم هذا الهدف القذر بإعمال مبضع التشتيت والتمزيق بين أبناء هذه الأمة، فتكره الأخ بأخيهن والجار بجاره، وتفسد فيما بين أبناء المجتمع الواحد بأبناء البيت الواحد وكلكم يشعر بذلك، اليوم نحن بحاجة إلى توثيق هويتنا الإيمانية وصلتنا بربنا تبارك الله وتعالى فاليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل.
أسأل الله أن يردنا إلى ديننا ردًا جميلا، وأن يطهر قلوبنا من كل... يباعدنا عن مراقبته


تشغيل

صوتي