مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/02/2018

خطبة د.محمد توفيق رمضان البوطي :أول دولة في الإسلام


أول دولة في الإسلام
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 16 / 2 / 2018
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ # لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (
وقال جلَّ شأنه: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(
وقال سبحانه: ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (
وروى البخاري عن أنس بن مالك t عن النبي r )ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ( وللبخاري عن انس t قال: قال النبي r: )لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ(
أيُّها المسلمون؛ عرضنا في الأسبوع الماضي أنَّ النبي r توجه مع الصِّديق أبي بكر t مهاجرين نحو المدينة المنورة وقد تولاهم الله تعالى بالحفظ والرعاية على الرغم من مكائد المشركين وسعيهم لقتلهما، وكان المهاجرون والأنصار في المدينة المنورة يترقبون وصولهما بشوق ولهفة، حتى إذا وصلا إلى قُبا في مشارف المدينة المنورة، نزل أولًا بقُباء وهناك في منزل كلثوم بن هِدم أقام بضعة أيام أسس فيها أو خلالها مسجد قُباء، الذي وصفه الله U في كتابه بقوله: ) لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ( فهو أول مسجد بني في ظل الإسلام، ثم تابع النبي r السير نحو المدينة المنورة التي كان الناس فيها يترقبون وصوله على شوق، وكان كل أنصاري في المدينة المنورة يأمل لو أنه حظي بشرف نزول النبي r عنده.
وكان من حكمة رسول الله r أن ترك زمام ناقته وأمر الناس أن يدعوها وقال لهم: ) دعوها فإنها مأمورة ( – أي: حيث ألهمها الله تعالى أن تبرك فذاك هو المنزل - حسمًا للتنافس والتسابق إلى استضافته r، وحظي صحابي جليل هو أبو أيوب الأنصاري بشرف نزول النبي r عنده، هذا الرجل الصالح الصحابي العظيم الذي خلد التاريخ اسمه بأنه أول من نزل عنده النبي r ودخل بوابة التاريخ بأنه أول صحابي يستشهد على أسوار القسطنطينية – إسطنبول - فكان هذا الاسم الذي بدأ يلتمع في صفحة التاريخ بأن النبي r نزل عنده كان من تتمة تتويج هذا الاسم العظيم أنه أول صحابي يطرق أبواب القسطنطينية ويستشهد عند أسوارها.
وعلى مقربة من دار أبي أيوب الأنصاري كان هناك مربد –مكان لتجفيف التمر- ليتيمين من بني النجار أخوال النبي r فوجد المكان مناسبًا لإقامة المسجد فيه، فقال: «ثامنوني على حائطكم يا بني النجار» قالوا: بل لا نريد له ثمنًا، لكن النبي r ما كان يأخذ أرضًا ليتيمين فأبى إلا أن يشتري الأرض بثمنها، ودفع ثمنها عشرة دنانير -أي: بما يساوي قيمتها وأكثر- وكان هذا المربد فيه أشجار النخيل، وفيه قبور قديمة للمشركين، كانت فيه أوضار وأشجار وحجارة؛ فأُعد المكان ونُظف، وبدأ النبي r مع أصحابه يشاركهم ببناء المسجد بنفسه ويحمل الحجارة على كتفه لكي يبنى المسجد النبوي الشريف، هذا هو الملمح الأول الذي نلاحظه.
ونزل النبي r ضيفا عند أبو أيوب الأنصاري إلى أن تم بناء المسجد، وبنيت حُجرة متواضعة ملاصقة لجدار المسجد حيث نزل النبي r أول الأمر في دار أبي أيوب الأنصاري، ويلاحظ المتأمل هنا مشاهد، أولها: الأدب الجم الذي كان عليه أبو أيوب الأنصاري مع النبي r. كان بيته من طبقتين فأراد النبي r أن ينزل في الأسفل، وقال إنه أرفق بي وبأصحابي؛ لأنه سيأتيه ضيوف من الصحابة، لكن هذا الأمر عظم على أبي أيوب، كيف يمكن أن يكون هو في الطابق الأعلى والنبي r في الطابق الأسفل، وأصر النبي r إلى أن انزاحت قلة للماء في الطابق الأعلى حيث يسكن أبو أيوب فانسب ماؤها فاضطر أبو أيوب أن يأتي بما لديه من ثياب ولحاف وغيره فيجفف الماء حتى لا يتأذى به النبي r، وأخبر النبي r بذلك، فطاوعه ونزل في الطابق الأعلى.
والمشهد الآخر: أن أبا أيوب الأنصاري كان يأتي النبي r بطعامه، فيأكل النبي r من الإناء ما تيسر له أن يأكل ثم يرسل الباقي إلى أبي أيوب وأم أيوب، فكانا يتتبعان مواضع أصابع النبي r لكي يأكلا من موضع أصابع النبي r تبركًا، يلتمسان بذلك البركة، إذًا كان أبو أيوب الأنصاري وزوجته يتبركان بآثار النبي r، ولم يكن هذا موضع استنكار من النبي r بل أقرهما على ذلك، ليأتي بعض الجهلة في عصرنا هذا ويعد التبرك بآثار النبي r شركًا وكفرًا، لقد كان الصحابة الكرام في حياة النبي r وبعد وفاته يتبركون بآثار النبي r وصح هذا في البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح، كانوا يستشفون بغسالة جبة النبي r، وكانوا يتبركون بشعرات النبي r بحياته وبعد مماته، فقل للجهلة الذين يستنكرون توسلنا واستشفاعنا وتبركنا بآثار النبي r صححوا عقيدتكم ومعرفتكم.
والمشهد الثاني: هو أن النبي r أنه نزل في قُبا فبادر إلى وضع أساس المسجد في قُبا، ونزل المدينة المنورة وأول شيء فكر فيه هو بناء المسجد. المسجد في الإسلام ليس مجرد مكان للصلاة، فالنبي r يقول: ) جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ( يجوز لك أن تصلي حيث كنت، والأرض كلها مسجد كلها مصلى كلها تصلح للصلاة، فلماذا الإصرار على أن يبادر إلى بناء المسجد؟ لأنَّ المسجد هو مصنع المجتمع الإسلامي، ومنطلق شعاع المعارف الإيمانية.
فالنبي r كان يعلم الصحابة في المسجد، والمسجد كان المكان الذي تتوثق فيه العلاقة بين المسلمين مع اسقاط الفوارق مما بينهم، الغني والفقير، الكبير والصغير، الأمير والمأمور، كلهم يجلسون جنبًا إلى جنب، جباههم على الأرض بين يدي الله U يقرر بذلك الجميع أنهم متساوون في العبودية لله U، وأنه لا تفاضل فيما بينهم، ولا تمايز فيما بينهم إلا بمقدار ما يكون المرء أقرب إلى الله U وأكثر التزامًا بأوامره وتخلقًا بالأخلاق الكريمة والتقى )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( ومِن عجب أن البعض يبخّس من قيمة المسجد وأهميته، ويرى أن بناء المساجد ليس أمرًا مهما ويأتي بكلام منمق: بناء الساجد أولى من بناء المساجد، أقول: الساجد يُبنى في المساجد، والمسجد مصنع الرجال ومصنع الأبطال ومصنع القلوب ومصنع العقول، مصنع الإيمان.
في المسجد يُبنى المجتمع الإسلامي، وتتوطد العلاقة بين المسلمين في رحاب المسجد، ويتلقى المسلمون معارف دينهم في ظل المسجد، فالانتقاص من أهمية المسجد انتقاص من أهمية الإسلام، ونيل من دعامة مهمة جدًا من دعائمه، أولاها النبي r كل الأهمية، لاحظوا أنه ما أن نزل بعد رحلته الخطيرة كان أول ما قام به في قُبا أن أسس المسجد، ونزل المدينة المنورة وأهل المدينة يستقبلونه بالمحبة والاشتياق، فكان أول اهتمامه بناء المسجد؛ لأن المسجد منطلق الإيمان ومصنع المجتمع الإسلامي.
الأمر الثاني الذي بُني على هذا المرتكز هو أنه آخى بين المسلمين، المجتمع الإسلامي الأول كان مجرد أفراد لا تربط بينهم علاقات اجتماعية وثيقة، بمعنى أن هذه الأسرة فيها رجلان أو رجل أو امرأة من المسلمين، وتلك أسرة فيها عدد من المسلمين وعدد آخر من المشركين، فلم تكن الأسرة هي الرابط الأساس الذي يربط بين أبناء المجتمع الإسلامي لذلك أقام الأخوة في الله مقام العلاقة الرحمية، فكان الأخوان في الله يتوارثان ويتضامنان ويتعاقلان فيما بينهما؛ تمامًا كما لو كانا أخوين في الرحم، إلى أن تبلورت الأسرة المسلمة وتكامل بناء المجتمع الإسلامي هنا قال ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم )وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِين( إذًا بعد أن بُني المجتمع وتبلورت الأسرة الإسلامية؛ جعل الرابطة الرحمية أقوى لأنها تجمع صفتين، صفة الإيمان وصفة القرابة.
في البداية كانت صفة الإيمان وحدها، أما بعد أن تبلور المجتمع وتماسكت الأسر وتحقق بناء المجتمع تمامًا؛ جعل الرابطة الرحمية بالإضافة إلى الرابطة الإيمانية هي الأساس في التوارث والموالاة والتعاون والتضامن، قال: ) وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا( هذا الأساس الثاني آخى بين الصحابة رضي الله عنهم، أما الأساس الثالث فهو إيذان ببناء الدولة الإسلامية الأولى بكتابة الوثيقة أو الدستور الأول للدولة الإسلامية الوليدة،... لعلي أوفَّق إلى عرض أهمية الوثيقة في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي