مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/02/2018

خطبة د.محمد توفيق رمضان البوطي : الهجرة دروس وعبر


الهجرة دروس وعبر
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 9 / 2 / 2018
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (
وروى البخاري عن عبادة بن الصامت t قال: ) بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ e عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ (
ويوم العقبة الثانية تكلم البراء بن معرور وأخذ بيد رسول الله rبايعنا، قال: ) أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أنفسكم نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ» فقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أزرنا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا أَهْلُ الْحُرُوبِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ – تحمس-الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بن نضلَةَ عندئذٍ وقال للنبي r: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى اللَيْلَة بِأَسْيَافِنَا، قَالَ: فَقَالَ له النَبي e: «لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، بَلِ ارْفَضُّوا» – أي: امضوا إلى رحالكم (
وبدأ الصحابة الكرام يهاجرون خفية -كما سبق وأشرنا- وتابعوا في الهجرة إلى المدينة، حتى لم يبق في مكة إلا رسول الله r وأبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما، أو مريض عاجز أو محبوس معذب.
وروى البخاري أن أبا بكر كان قد جهز وتهيأ للهجرة واستأذن النبيَّ r فقال له: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذنَ لي، قال أبو بكر: وهل ترجو ذلك يا رسول الله –بأبي أنت وأمي- قال: نعم، فحبس نفسه على رسول الله e ليصحبه، وعلف دابتين كانتا عنده أربعة أشهر، عندئذ وعندما مضى جميع المسلمين تقريبًا إلى المدينة المنورة شعرت قريش بالخطر، وأرادت أن تغتال الدعوة من خلال اغتيال نبيها r واجتمعوا في دار الندوة دار قصي بن كلاب يتشاورون في الأمر حتى هداهم مكر ابليس إلى أن يتآمروا على قتله، بأن يأخذوا من كل قبيلة شابًا جَلدًا فيقفون جميعًا على باب بيته ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، فلا يملك بنو عبد مناف قبيلة النبي r- أن يواجهوا كل تلك القبائل.
في تلك الساعة نزل جبريل عليه السلام على النبي r يأمره بالهجرة، فتوجه متلثمًا إلى دار أبي بكر وقال له: «قد أُذن لي بالهجرة» وكان أبو بكر قد أعد الراحلتين وقال: هذه الراحلة لك، فأبى أن يأخذها إلا بثمنها، فاشتراها منه.
وفي تلك الليلة مضى رسول الله r وأبو بكر في رحلة قدسية عجيبة من نوعها هيأوا لها أسباب السلامة كلها، فقد هاجرا متخفيين، وسلكا طريقًا ليست مألوفة للناس وعِرة، حتى بلغا غار ثور، وهناك تواريا في الغار الذي لا يشتبه أن يكون مخبأً لهما، وأمر أبو بكر راعية عامر بن فهيرة أن يرعى الأغنام فيبيتها عند الغار ليشربا من ألبانها، وأمر عبد الله ابنه أن يأتيه بأخبار مكة، وأمر أسماء ابنته أن تُعد لهما الزاد كل مرة، واستنفرت قريش ومضت إلى باب رسول الله r تنتظر خروجه، وكان النبي r قد أمر علياً t أن يبيت في فراشه إيهامًا لهم بأنه في فراشه، و خرج من بينهم وقد ألقى الله على رؤوسهم النوم، فألقى النبي e على رؤوسهم شيئًا من التراب إمعانًا في بيان حماية الله له، ومضى الصاحبان إلى الغار وانبثق الفجر، وقام علي من فراشه فإذا هو علي وليس النبي r فسألاه أين محمد؟ قال: لا أعلم خرج، واستنفرت قريش وأعدت جائزة كبيرة جدًا لمن يأتي بهما أو يقتلهما، ومضت قريش في جميع المسالك التي يمكن أن تسلك من حول مكة دون جدوى، ولكنهم أخيرًا وصلوا إلى غار ثور، وصار أبو بكر والنبي r يسمعان وقع أقدام زعماء قريش – وفيهم أبو جهل وغيره- فوق رأسهما، عندئذ ارتعشت مشاعر أبي بكر، وقال: يا رسول الله؛ والله لو نظر أحدهم عند قدمه لرآنا، هنا تعطلت الأسباب ولم يبقَ إلا خالق الأسباب ومسبب الأسباب، هنا قال له النبي r: يا أبا بكر؛ ما ظنك بإذنين الله ثالثهما )إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا( فلما يئست قريش وانقطع الطلب خرج رسول الله eوصاحبه بصحبة دليل مشرك ولكنه كان أمينًا ولم يكن خائنًا - هناك مسلمون لكنهم يخونون، وهناك من قد لا يكون مسلمًا ولكن الفطرة الإنسانية تأبى عليه الخيانة - وثقا به فكان دليلهما، فلما سلكا الطريق إلى المدينة شاهدهما سراقة بن مالك بن جعشم فطمع في الجائزة وركب فرسه ليلحق بهما، فلما دنا منهما ساخت قدما فرسه في الرمال، مرة ومرتين، وفي الثالثة أدرك أنه لا سبيل له إليهما وأن الله تولاهما، فطلب الأمان من رسول الله r وصاحبه واستغفر واعتذر، فقال: مروني بشيء، فقال النبي r: «عمِّ عنا» – أي: اصرف الناس عنا- واكتفى بذلك، ومضى الركب نحو المدينة المنورة.
أيُّها المسلمون؛ هذه صفحة من أعظم صفحات السيرة النبوية الشريفة، هي خطوات تحفها المخاطر والأهوال وتكيد قريش بكل ما أوتيت من مكائد لوأد الدعوة من خلال قتل النبي r وقد مكروا وكادوا، ولكن الله جعل مكرهم مرتدًا إليهم.
أريد أن أتأمل هذه الصفحة من سيرة النبيr، الملحظ الأول: التزام أهل المدينة ممثلين بأولئك الذين بايعوا النبي r بحماية الدعوة وحماية نبيها r، وهذا واجب على كل مؤمن أن يحمي الدعوة وأن يحمي المقدسات وان يصون الحرمات. هذا واجب علينا جميعًا، وبهذا التزم بذلك أولئك الذين بايعوا النبي e، والدعوة التي لا يكون لها من يدافع عنها تتعرض لكثير من المخاطر.
الأمر الثاني: كلمة العباس بن عبادة بن نضلة الذي تأجج قلبه حماسةً ولكن في غير موضعها « يا رسول الله والذي بعثك بالحق لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى اللَيْلَة بِأَسْيَافِنَا» تعجل الثمرة قبل نضجها، وأراد الحرب للحرب، أمَّا النبي r فقد قال له: «لم نؤمر بذلك» لم نؤمر بأن نأتي فنهاجم الآمنين في حرم مكة، لم نؤمر بأن نغدر بالناس، لم نؤمر بأن يكون جهادنا تشفِّيًا، لم نؤمر بذلك؛ لأن مثل هذا التصرف من شأنه أن يؤجج حربًا أهلية بين الأخ وأخيه والجار وجاره والأب وابنه، والإسلام لم يأتِ بذلك، جاء بجهاد يدافع فيه المسلم عن الحرمات والمقدسات، ولا يغدر بالأبرياء ولا ينال من الآمنين ولا يقاتل تشفِّيًا ولا حقدًا، إنه مشهدٌ لا ينبغي أن ينسى.
الأمر الآخر: هذا الترتيب المحكم الذي كان واجبًا وقد اتخذه النبي r وصاحبه أبو بكر t، أوهم قريشاً أنه في فراشه وترك على فراشه سيدنا عليًا، هم ليس لهم هدف بسيدنا علي، حتى انتظروا إلى الفجر، فلما فوجئوا بأنه ليس النبي r في الفراش كانت لهم صدمة في ذلك، فمضوا يبحثون هنا وهناك بأسلوب فظٍ وحشي، ثم مضوا يبحثون عنهما حول مكة؛ لأن الهجرة كانت بالنسبة لهم إيذانًا بميلاد دولة ووجود وطن وأمَّة، مقومات الدولة كاملة تكتمل بهجرة النبي r، ولذلك أرادوا أن يئدوا تلك الدولة قبل أن تولد، وأن يغتالوا الدعوة قبل أن تنتشر، لقد اتخذ النبي r كل التدابير التي يمكن أن يتخذها لحماية مسيرة الهجرة المقدسة، أوهمهم، وأخذ طريقًا لا يسلكونه، اختبأ مع صاحبه في الغار، وأمر عبد الله بن أبي بكر بتتبع أخبار مكة وما يكيدون، كل هذه التدابير تبخرت واضمحلت، ووصلت قريش إلى الغار، وهنا وقد تعطلت الأسباب ولم يعد لدى أبي بكر t من وسيلة يستطيع بها أن ينجو من قريش: لو نظر أحدهم عند قدمهم لرآنا، هنا يتعلق القلب بمسبب الأسباب، نحن مكلفون بأن نتخذ الأسباب، ولكننا لا نتكل عليها، إنما نعتمد على مسبب الأسباب، نعتمد على الله.
هنا قال له النبي e ما ظنك باثنين الله ثالثهما، صُرفت أبصار طغاة قريش وصناديد الشرك ومضوا خائبين، وهم يعتقدون أنَّ هذا الغار لا يمكن أن يكون فيه أحد، صرف الله أبصارهم، ومضوا من حيث أتوا. فشل المكر وانتصرت الهجرة على ضعف أسبابها وقلة وسائلها، ومضى النبي r وصاحبه ليلحق بهما ذلك المشرك سراقة طامعًا في نيل ما قد وعدت قريش أن تقدمه من جائزة عظيمة لمن يقتل النبي r وصاحبه، جاء ليقتلهما ولكنه عاد ليحميهما، وقد أشرق نور الهداية في قلبه؛ لأنه رأى بأم عينه أن النبي r تتولاه عناية الله بالرعاية، تتولاه عين ربنا تبارك وتعالى بالحماية.
هذه هي الهجرة وهذه وسائلها وتدابيرها، درس لكل مسلم. نحن مكلفون بأن نتخذ الأسباب؛ ولكننا إنما نتوكل على مسبب الأسباب، ونعتمد على الخالق جلَّ شأنه الذي يدبر الأمر ويهيئ أسباب النصر.
وهنا أريد أن أستعرض معكم الآيات: )أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ # الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ( )وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ( لولا تشريع الجهاد الذي يحمي المقدسات والحرمات والأرض والأعراض لاستطاعت قوى البغي والعدوان أن تدمر الآمنين والمقدسات )لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا( بدأ بغير مقدساتنا، بدأ بمقدسات النصارى واليهود وختم بالمساجد، وفي هذا ملحظ مهم لنا نحن. الأمر الآخر: في كلمة البراء بن معرور: (بايعنا يا رسول الله)، على ماذا بايعهم؟ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، أن لا نسعى في انتزاع ولاية الأمر من ولي الأمر لأن ذلك يعني إيذانا بفتنة مدمرة تدمر البلاد وتقتل العباد، (وأن لا ننازع الأمر أهله) وفي حديث صحيح عن النبي e: «عليكم بالطاعة واتباع الجماعة ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي رأسه كزبيبة » وهذا باب لا أريد أن أسترسل فيه لكننا رأينا بأم أعيننا آثار مخالفة أمر رسول الله r في ذلك.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن التأمل في تعاليم ديننا والتي تترجمها سيرة نبينا r.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي