مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 01/12/2017

خطبة د.محمد توفيق البوطي: العمل الدعوي في حياته صلى الله عليه وسلم

العمل الدعوي في حياته صلى الله عليه وسلم
خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
بتاريخ 01 / 12 / 2017
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ# قُمْ فَأَنْذِرْ# وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ # وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ( ويقول جلَّ شأنه: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ( وقال تعالى: ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( وروى البخاري أَنَّ النَّبِيَّ e لَمَّا وَجَّهَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ e: أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ قَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
أيُّها المسلمون؛ تحدثنا في الأسبوع الماضي عن بدء نزول الوحي، الخط الفاصل بين الإنسان الذي يتحدث من تلقاء ذاته، ويدعو إلى الإصلاح بما أوتي من ذكاء وعبقرية وحنكة وفهم، وبين من تنزَّل عليه الوحي، فكان إنما يتكلم بأمر من الله U وبإلهام منه وبوحي أنزله عليه. ثم إنه ما أن تنزَّل عليه الوحي أول مرة حتى أخذ منه كل مأخذ، وعاد إلى بيته يرتجف فؤاده حتى قال لزوجته: «زمليني زمليني، دثريني دثريني» ثم مضى إلى ورقة بن نوفل ليؤكد له الحقيقة التي كان يؤمن بها، ولكن ليصل أيضاً فيما بين الرسالات السماوية التي بُعث به الأنبياء من قبله وبين الرسالة التي أنزلت عليه، وليبين له معالم الطريق سوف يسلكها للدعوة إلى الله U.
وينزل عليه الوحي ليقول له: )يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ# قُمْ( بدأت المهمة )قُمْ فَأَنْذِرْ( قم وبلغ دعوتك للناس، فلقد بدأت المرحلة الهامَّة من حياتك التي خُلقت مِن أجلها، والتي بُعثت بها.
وألهم الله تعالى نبيه المصطفى r أن يبادر إلى الدعوة إلى دينه سرًا، أنهضه من تزمله وتدثره إلى المسؤولية الكبرى، وهي هداية الناس إلى الهدى والحق والخير، وألهمه أن تكون دعوته سرية إلى أن تتكون القاعدة الاجتماعية بمن تؤنس منهم الاستجابة للدعوة مِن أهل مكة، وبدأ بخاصَّته، بدأ بزوجته وبابن عمه سيدنا علي، وبصديقه الوفي الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنهم لينطلق من خلالهم إلى المجتمع، وذلك لأنَّ مخاطبة المجتمع الذي أَلِف الشركَ وتمسك بتقاليد ومعتقدات خرافية، أن يواجههم بالتوحيد والرسالة الإلهية مباشرة؛ قد يكون له وقع سلبي يحول دون وصول كلمة الحق إلى بقية الناس، إلى من يحكّم العقل ويبحث عن الصواب.
فبادر إلى الإسلام عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وبلال الحبشي وعمار بن ياسر وعثمان بن مظعون، وآخرون، بادروا إلى الاستجابة لدعوة النبي r إلى التوحيد ونبذ خرافة الوثنية وعبادة الحجارة.
نعم بدأ تتابع دخول الناس في الإسلام، وفي الوقت ذات بدأ الحديث عن الإسلام ينتشر في أرجاء مكة؛ ولكن دون مصادمة مع صناديد الشرك المتعصبين له، أو مع من يصطدم دين الله تعالى مع طغيان أنفسهم واستكبارها.
وبعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة وانتشارها في أرجاء مكة شيئًا فشيئًا، نزل على النبي r قوله جل شأنه )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ # إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( أي أعلِن الدعوة فقلد آن الأوان أن تواجه بدعوتك صناديد الشرك وتنشرها لتثبت الحجة عليهم جميعًا، ونزل عليه أيضا قوله تعالى: )وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ # وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( فوقف النبي r على جبل الصفا ينادي قريشًا: يا بني فهر يا بني عدي يا بني فلان، حتى اجتمع كثيرٌ من أهل مكة عليه، ذلك أن الذي ينادي هو الأمين الذي اشتهر فيهم باسم الأمين أكثر من اشتهاره باسمه، وعُرف فيما بينهم بالأخلاق السامية المتميزة والأمانة.
ناداهم فوقفوا ليصغوا إلى خطابه، فقال لهم: «أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي مغيرة عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: -مقرين- ما جربنا عليك كذبًا» إذًا فهو الصادق، وقد بَلَغَ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، فلن ينعطف بعد هذه السن إلى المراوغة والكذب، وقد بلغ رشدًا وسنًا كبيرة، فقال لهم: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، والله لتموتنَ كما تنامون ولتُبعثنَ كما تستيقظون ولتحاسبُنَ على ما تعملون، والله إنها الجنة أو النار أبدًا» ولم يتصدَّ له آنذاك إلا أقرب الناس إليه، عمه أبو لهب الذي ركب رأسه واستكبر عن الاستجابة لكلمة الحق وعن تحكيم العقل والدليل، وقال له معرضًا مستنكرا: (تبًا لك، ألهذا جمعتنا).
ثم دعا أيضًا خاصَّة أقربائه من بني هاشم وبني عبد المطلب وناداهم وقال لهم: «يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة بن كعب، يا بني عبد الطلب؛ أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، لا أملك لك من الله شيئًا، غير أنَّ لكم رحمًا سأبلها ببلاها» أي سأصل رحمي وأبقى وصولا لهم فهذا واجب منفصل عن موضوع دعوتنا.
فماذا كان موقف قريش وقد جاءهم بالكلمة الطيبة وبالغيرة، يدعوهم إلى أن يتدبروا الأمر قبل فوات الأوان، فالموت ينتظرهم، والمسؤولية لاحقة بهم؟ ما كان من قريش إلا أن تصدت لدعوته، وتنكرت لما كانت تعرف عنه من الصدق والأمانة، وواجهوا دعوته وهو الذي كان يقول لهم )قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( رفضت تحكيم العقل والبرهان، وأصرَّت على التمسك بموروث الآباء والأجداد حتى ولو كان باطلًا، حتى ولو تبين ضلالهم وخطؤهم.
واضطهدوا النبي r وكذبوه وآذوه، نعم وقف عمه أبو طالب موقفًا وفيًا وصولاً يدافع عن النبي r ويحميه ويعلن أن إيذاء النبي r إيذاء له، وقف يحول دون أن ينالوا منه. ولكنَّ ذلك لم يمنعهم من تكذيبه وشتمه والاستهزاء به وإلحاق الأذى والاضطهاد والتعذيب والتنكيل بأصحابه. بهذا واجهت قريش دعوة العقل دعوة الرحمة دعوة الإيمان، دعوةً يدعوهم فيها إلى الجنة، وإلى النجاة، إلى السعادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، أبَوا ذلك ورفضوا.
وعندما نادهم إلى العقل قالوا: )إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ( فقال لهم )أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ( فعدُّوا ذلك شتيمة وتعييرًا، وناصبوه العداء واضطهدوا أصحابه؛ حتى قُتل مِن قُتل وعمي من عمي، وأُوذي من أوُذي. وكلكم يعلم ما نال ياسراً والد عمار وزوجته سمية، وما نال الكثيرين والكثيرات ممن استجاب لدعوة النبي r. على أنَّ الأذى لم يليّن من موقفهم ولم يغير من قناعتهم، بقي الصحابة الكرام صابرين على الأذى متحملين للاضطهاد والتنكيل، تلذّ لهم آلام الصبر لأنها ثمن السعادة والنصر، ثمن النجاة غدًا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيَّها المسلمون؛ هما معسكران، معسكر يدعو إلى الخير يدعو إلى الحق يدعو إلى الإيمان، سلاحه الحجة والبرهان، وأسلوبه الحكمة والموعظة الحسنة.
وعندما أعوزت المعسكر الآخر- معسكر الضلالة والجهالة والكفر- عندما أعوزتهم الحجة وأعياهم البرهان لجأوا إلى القوة وإلى البطش، إنَّ القوة والبطش لا يمكن أن تخفيا ضوء الشمس، إنَّ القوة والبطش والاضطهاد لا يمكن أن تمحو معالم الحق وأن تطمس أدلة وبراهين الحقيقة، لذلك صبر الصحابة الكرام وتجشموا مرارة الاضطهاد وصعوبة الطريق، معلنين أنَّه يلذّ لهم أن يلقوا وجه الله U شهداء في سبيل دعوته، في سبيل رسالته في سبيل دينه، اضطهد عمار واضطهد بلال، وصورة ذلك معروفة لدى الكثيرين منكم، ومضت تلك المرحلة ليستقبل مرحلة أخرى، يضيق المجال بنا أن نشرح بقية المراحل.
لكنني سأقف الآن وبمناسبة ذكرى مولد المصطفى r مهنئًا الأمة الإسلامية مهنئًا كل مسلم بمرور هذه الذكرى، ذكرى إشراق نور الهداية، ولادة الحبيب الشفيع المشفَّع، الرحمة المهداة الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، والذي من خلاله تفيأت البشرية نور الهدى، وانطلقت من غار حراء أنوار الهداية لتصل إلى مشارق الأرض ومغاربها.
لم تستطع قوى الشرك وتحالفات الأعداء أن تمنع كلمة الحق من أن تنتشر، مضى الإسلام ينتشر، واستمرت الهداية تدخل إلى الأفئدة، لأنَّ هذه الأفئدة كانت على الفطرة التي خلقت عليها، فوجدت في هذه الدعوة استجابة لها ولتطلعات قلوبها وأفئدتها، وجدت فيها العدالة التي تنقذها من الظلم، ووجدت فيها الحق الذي يحررها من الضلالة والباطل، وجدت فيها الخير الذي ينقذ البشرية من الشر، وجدت فيها كل ما يمكن أن يتطلع إليه الإنسان بفطرته الطيبة من معالم الخير والحق والهدى، نعم وانتشر الإسلام رغم أنف المكابرين والمعاندين.
أقول: قد يضيق صدر بعض ذوي العقول المأفونة والمتعصبين باحتفالنا بذكرى النبي r مستنكرين ذلك، يصفونه بالبدعة، وأنَّ كل بدعة ضلالة وأنَّ كل ضلالة في النار، جاهلين مفهوم البدعة في الإسلام، غير مدركين أنَّ النبيَّ r عد يوم مولده على مستوى الأسبوع يومًا يحتفى به، فضلًا عن أن يكون يومًا على مستوى العام كله، نعم، عندما سئلr عن صيامه يوم الاثنين قال: «ذاك يوم فيه ولدت» إننا لنعجب ممن تمر به ذكرى ولادة النبي r التي تعتبر منعطفًا في تاريخ البشرية كلها وبداية لتوجه نحو العلم والحق والهدى والعدل، فيضيق صدرهم بأن نُحيي هذه الذكرى ببيان مَن هو رسول الله r ومن خلال التعبير عن السرور بالوجه المشروع الذي يرضي الله ورسوله.
أسأل الله U أن يحرر عقولنا من العصبية، وأن يحرر نفوسنا من الحقد، وأن يلهمنا السداد والرشاد.
أقول قولي هذا وستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي