مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/11/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: بعثته صلى الله عليه وسلم

بعثته صلى الله عليه وسلم
خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
بتاريخ 24 / 11 / 2017
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ #الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ # عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ( ويقول سبحانه: )وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ # نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ # عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ # بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(
وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ( فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ r يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضى الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ eخَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى e يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ»
أيُّها المسلمون؛ هذا حديث بدء الوحي، والوحي هو الخط المميز الفاصل بين تلقي الأنبياء عن ربهم سبحانه وتعالى، وبين ذكاء الأذكياء، وشجاعة الشجعان، وعبقرية العباقرة، وإبداع المبدعين. هو الخط الذي يفصل بين الصفات البشرية التي قد تكون متميزة في البعض عن الآخرين وبين أن يتلقى الإنسان الوحي من عند الله U، عندما يكون الأمر من عند سبحانه وتعالى فإنه لا خيار للإنسان في أن يقبل أو لا يقبل، أو أن يجد ما يقارن ما جاء به من تلقى الوحي مع غيره، لأن ما يأتي به النبي لا يأتي به مِن عنده، ولا يضعه من ابتكاره ولا يخترعه من ذاته، إنما هو أمر إلهي أنزله مَن خلقَنا، وأوحى به مَن أوجدَنا ونظَّم به شؤوننا، مَن نظَّم به خلْقنا، فهناك أمر تكويني أوجدَنا به على النسق الذي نراه في أنفسنا، وهناك أمر تكليفي يتمثل بالوحي الإلهي الذي بعث به الأنبياء. وما يحدثنا به الإمام البخاري عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها يشير إلى معانٍ يجب أن نقف عندها بتأمل.
المعنى الأول: أن الله سبحانه وتعالى أعدَّ نبيه r وهو بشر كسائر البشر، لتلقي الحقيقة الملائكية التي تتصف بصفاتٍ تختلف عن صفاتنا، وذاتُ هيبةٍ وجلال، أن يتلقى الجسم البشري والنفس الإنسانية الوحي من عند الله U بواسطة ملَك عظيم من ملائكة الله تعالى، قد اقتضت حكمة الله U أن يُعدَّ النبي لاستقبال هذه الحقيقة إعدادًا سابقًا تمثل في أمرين أشار إليهما الحديث، الأمر الأول: أنَّ الله حبب إليه الاختلاء -أي الخلوة للعبادة- فكان يقيم في غار حراء الليالي ذوات العدد، غار حراء غار على مقربة من مكة على بعد عدة كيلومترات مطل على الكعبة المشرفة، يجلس هناك ويتأمل خلق الله ويتعبد، يعبد الله U على النحو الذي ألهمه الله U من العبادة، من تسبيح إلى سجود إلى غير ذلك، الله أعلم كيف كان يتعبد سيدنا رسول الله في غار حراء، تمرُّ عليه الليالي ذوات العدد وليس له من أنيس إلا ذكر الله إلا عبادة الله.
الأمر الآخر: هو أنه انتابته حالة بشرية متميزة أنه كان لا يرى الرؤيا إلا جاء تفسيرها مثل فلق الصبح، وهذه شفافية أعدت بها روح النبي r حالة من الصفاء هي نوع من الوحي يتعرض له كل إنسان، ولكن درجة الشفافية تختلف من حالة إلى أخرى كان أسماها وأرقاها ما انتاب النبي r فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، بعد أن أمضى فترة يتعبد ويتحنث في غار حراء حتى إذا نفذ زادُه عاد إلى بيته فمكث عند أهله فتزود وعاد إلى غار حراء ليعاود التعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد.
وبينما كان يتعبد في غار حراء إذ فَجَأَه الوحي، ولعله في بعض الروايات جاءه قبل ذلك في الرؤيا كتمهيد لما سيجري له من رؤية جبريل عليه السلام عيانًا وقد ملأ ما بين السماء والأرض، ويقبل إليه ويقول له اقرأ، إنه موقف عظيم، موقف يتلقى فيه الإنسان ملكاً من ملائكة الله U بهيبته ويناديه بشكل مباشر ويقول له اقرأ، سمعه بإذنه، النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ما أنا بقارئ» فضمه ضمة شديدة، لماذا ضمه؟ هل ضمه قسوة عليه؟ حاشاه، إنما لكي يترسخ في كيان النبي r وفي عقله وقلبه أنَّ ما يجري أمامه وما يجري له هو حقيقة حسية قائمة تجري له، أحسَّ بها فسمعها بأذنه وأحسَّ بها فرآها بعينه، وأحسَّ بها فضمَّه الملك إلى صدره، لم يعد ثمة أيُّ مجال للريبة فيما يجري للنبي r وليس مرةً واحدة بل تكرر ذلك مرات ثلاث ثم تلى أول ما أنزل الله من كتابه )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ # خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ # اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم ...ُ( الآيات، إذاً هي حقيقة وليست خيالاً، حقيقة ساهمت في ترسيخ يقين النبي r بها كلُ مشاعره وكلُ أحاسيسه، سمعه بأذنه ورآه بعينه وأحسَّ به في جسده، حتى اشتد عليه ذلك لتتأكد الحقيقة حقيقة الوحي في قلب النبي r.
الأمر الذي جرى للنبي r كان ذا أهمية وتأثيرٍ قوي على بشرية النبي r، مما جعله يرجع إلى السيدة خديجة يرتجف فؤاده وجلًا.
لم يكن يشك فيما قد جرى، ولقد ثبّت يقينه ما جرى بينه وبين ورقة بن نوفل عندما بين له أن هذا هو الوحي الذي أنزل على موسى وغيره من الأنبياء، ثم بيَّن له أنها بداية طريق وعرة شاقة، لكنها مهمة قدسية.
هي بينه وبين ربه، يكلفه ربه جلَّ شأنه بها ليبلغ رسالة الله إلى البشر، والبشر من شأنهم أن يكون هناك من يتلقى الحقيقة بإنصاف وعقل، ومنهم من يتأبَّى لأنَّه يتشبث بالتقاليد أو يتشبث بالخرافات أو يعاند الحقيقة حتى وإن كانت واضحة المعالم.
هناك من يرى بأم عينه وينكر، ولكن هذا لا يعني أن يتوقف الداعية عن دعوته، بل يصبر حتى يقضي الله أمره.
الوحي هو الخط الفاصل بين ذكاء الأذكياء وابتداع المبدعين واختراع المخترعين وبطولة الأبطال وشجاعة الشجعان وبين من يتلقى عن الله U، فتكون شجاعته تثبيتًا من الله U لقلبه، ويكون ذكاؤه إلهامًا من الله U له في مواقف لا يمكن للأذكياء أن يبلغوها، ويكون كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنَّه تنزيل من حكيم حميد.
ولقد ارتاب المرتابون وشكك المشككون وقالوا إنما يعلمه بشر، وقالوا: بل افتراه، هنا بدأت المعركة العقلية التي لا مجال للحوار فيها إلا بناء على المحاجَّة، قالوا له: إن هذا الكلام من وضعك أي انه من وضع بشر، هنا لابد أن نذكر أن المخترع قد يخترع فهل يعجز مَن بعده؟ لا شك أن له مزية الإبداع وفضيلة الإبداع، لكن من بعده يأتون فيطورون ما أبدع ويحسنون ما اخترع ويصلون إلى ما لم يكن يتخيل المخترع من التطوير والاختراع.
وهذا ما كان في آلة الطباعة وهذا ما كان في المصباح الكهربائي وهذا ما كان في اختراع البنسلين أو أي اختراع غير ذلك من المخترعات والمكتشفات.
نعم لمن أبدع فضيلة الإبداع ومزية الابداع لكن الذين جاؤوا من بعده ما أعجزهم ذلك، هنا يقول الله U )وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( لو جاؤوا بسورة من ثلاث آيات أو أربع آيات كسورة الكوثر لكسبوا الرهان، هو تحداهم بالقرآن جملة فقال ربنا تبارك وتعالى: )قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ( من يتحدى النبيُّ r؟ يتحدى أرباب البيان فرسانَ البلاغة الشعراءَ والخطباءَ والبلغاءَ، يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم تحداهم بعشر سور مثله مفتريات، ثم تحداهم بسورة من مثله. ودوافع التصدي لهذا التحدي تستثيرهم وتحرضهم ولكنهم وقفوا عاجزين، فقالوا: والله ما يقول مثل هذا بشر، كبيرهم قال ذلك عندما قال: والله ما هو السحر ولا هو الشعر ولا هو الكهانة والله ما يقول مثل هذا بشر. هذا اعترافهم، ولا يزال التحدي قائمًا إلى يومنا هذا، بعد أربعة عشر قرنًا في جوانب الإعجاز القرآني؛ لا يزال التحدي قائمًا ولا يمكن لبشر أن يأتوا بمثل سورة منه لم يأتوا ولن يأتوا، بهذا قرر كتاب الله U. إذاً نحن أمام منهج إلهي ولسنا أمام وضع بشري لا يقارن ديننا الذي تسجدون لمن أنزله وتركعون لمن أنزله لا يستوي هذا الدين مع أي وضع بشري، وضع البشر للبشر استعباد من البشر للبشر أما وضع الإله فهو أمر تكليفي ونظام تكليفي أنزله الله U الذي أوجدنا وفرض على كياننا أمرَه التكويني )وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ( )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ( خلقنا من ضعف وبين لنا سنن خلقنا وسنن الكون، هذا هو الأمر التكويني الذي أركع وأخضع له الإنسان شاء أم أبى.
ثم انسجم معه الأمر التكليفي الذي تمثل في الشريعة الربانية على امتداد رسالات السماء التي أنزلها الله U، إذاً فلا ينبغي أن يكون هناك أي مقارنة بين أنظمة ابتدعها الإنسان وبين تشريع أنزله الديان، الإنسان تحكمه شهواته ومحدودية تفكيره وعصبياته، أمَّا رب السموات والأرض فهو أعطى كل شيء خلقه ثم هداه.
أقول هذا لكي تزداد ثقتنا بديننا والتزامنا بهدي ربنا وتمسكنا بسنة نبينا r ذلك أن هذا الدين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد.
أقول قولي هذا وأستغفرالله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي