مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 14/07/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: الإصلاح رسالة الأنبياء

الإصلاح رسالة الأنبياء
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى على لسان سيدنا شعيب في حديثه إلى قومه: )إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( ويقول سبحانه: ) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين( وقال سبحانه: ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول –أي في دعائه-: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر».
أيُّها المسلمون؛ الإصلاح رسالة الأنبياء، وأصلٌ في ديننا، وهو أمر يشمل الفرد والأسرة والمجتمع. ويشمل البيئة المادية والمعنوية، والمؤثرات الأخلاقية والنفسية وغيرها، يشمل الإدارة والمؤسسات والمصانع ومرافق الحياة. يشمل كل شيء، فما معنى الإصلاح؟ فيما ذكر علماء اللغة قالوا: الإصلاح ضد الإفساد، كما أنَّ البناء ضد الهدم، وقوله تعالى )فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( أي بأن يعود الود والصفاء والتواصل على ما فيه الخير بينهم. ويقول الطبري في تفسير قول سيدنا شعيب في الآية التي ذكرناها )إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ(: (أي ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم). ومن جوانب الإصلاح التي كان يأمرهم بها: العدل والإنصاف في الكيل والوزن، وعدم التغالي في الأسعار. و(ما استطعت) أي أنا إنما آمركم بإصلاح أموركم بقدر استطاعتي وبقدر طاقتي، بأن أبلغكم ولا أجبركم، فالإصلاح لا يتم بالإكراه، إنما ينبغي أن ينبع من الذات، ولكن بعد إصلاح الذات.
جوانب الإصلاح كثيرة كما أشرت قبل قليل، إصلاح العقيدة بتطهيرها من الأباطيل والترهات والضلالات، وإصلاح السلوك بأن يستقيم سلوك المرء وتستقيم علاقته مع الآخرين. وإصلاح السلوك الشخصي والعلاقة بين الفرد والآخرين له أسسه كما سنوضح، إصلاح الأسرة بتوطيد العلاقة الودية فيما بينها، وبأن تقوم على البر من الأبناء للأبوين، وعلى حسن الرعاية والتربية والتوجيه من الأبوين للأبناء والبنات. وبصلة الرحم على الوجه الذي يوطد العلاقة فيما بين الأرحام على الخير والإصلاح، وإصلاح البيئة المادية بالمحافظة على هذه البيئة من أسباب فسادها بشتى أنواع الفساد التي تؤثر على البيئة من قذارة ونجاسة ومؤثرات تؤذي الصحة وتؤذي المجتمع، وإصلاح البيئة المعنوية من كل ما من شأنه نشر الفساد الأخلاقي والفكري ونحوهما. والإصلاح الإداري الذي يشمل القضاء والتعليم والأمن والإعلام وغير ذلك، كل ذلك من الإصلاح.
فموضوع الإصلاح واسع لا ينحصر في موضوع خطبة واحدة، إلا أنني سأتحدث عن بعض الأسس المهمة في موضوع الإصلاح، لأن شعار الإصلاح قد سار منذ سنوات في بلادنا فعاث في الأرض فسادًا، فهل كان إصلاحا أم كان إفسادا!
نعم، كل إصلاح يعقبه فساد ليس إصلاحاً بل هو إفساد، وكل إصلاح لا يستند إلى أسس سليمة فكريًا وعقائديًا وأخلاقيًا لن يحقق الهدف. وكل إصلاح يستند إلى انتقاص حقوق الآخرين، حقوق بعض الناس لحساب بعضهم، ليس إصلاحًا، بل هو سبب لمفاسد كثيرة تترتب على ذلك.
وطننا، وقد بدأ يتجاوز السنوات العجاف بعون الله، وبإذن الله، يتجه إلى الإصلاح. الذين يريدون إصلاح الوطن يجب أن يعلموا أن إصلاح الوطن يبدأ بالوحدة الوطنية، وعندما أطرح فكرة الوحدة الوطنية وأنا على منبر الجمعة؛ فإنما أستند إلى أسس شرعية فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة المنورة ليبني الدولة الإسلامية الأولى ارتكز على قاعدة الوحدة الوطنية؛ عندما عدّ َ المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من المسلمين أمةً، واليهودَ فيها أيضًا أمةٌ، وأنهم جميعًا متكافلون متضامنون في حماية المدينة المنورة والدفاع عنها. فليس المجتمع الإسلامي دائما مسلمًا بكل أفراده، المجتمع الإسلامي فيه مسلمون وغير مسلمين، يعيشون مع بعضهم على العدل والإنصاف. والظلم مرفوض تجاه أي طرف نحو الطرف الآخر، ولعل قصة اليهودي الذي اتهمه المنافقون بالسرقة ليغطوا سرقتهم؛ مثال على دفاع كتاب الله عن البريء -وهو يهودي- ضد المجرم الحقيقي وهو منتسب إلى لإسلام ظاهرًا.
دخل الإسلام إلى هذه البلاد وفيه أطياف دينية متعددة، فما أُكره أحد على ترك دينه، ولا اضطهد أحد لمعتقده، وهذا أمر يجب أن يُعرف. الإصلاح مبني على سلامة تكوين النسيج الاجتماعي الذي تتكون منه هذه الأمة بكل أطيافها، وبناء على ذلك فإن مقتضى الإصلاح نبذ كل ما من شأنه تفتيت الوطن وتمزيق الأمة؛ من خلال طروحات عرقية أو دينية أو طائفية، أو جغرافية. لأن كل ذلك في حقيقته خدمة لأعداء الوطن وأعداء الدين وأعداء الأمة، إن الذين يريدون تفتيت بلادنا لا يريدون الإصلاح، إن الذين طرحوا فكرة الفرز الطائفي لا يريدون الإصلاح، يريدون تقويض هذا البلد بمكوناته السكانية وببنائه الجغرافي. لذلك فإن فكرة الإصلاح تبدأ من وضع الأسس الصحيحة السليمة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع، وبناء العلاقات بين أبناء هذا الوطن على أسس من التعايش والتعاون على الوجه الذي أمر الله به، لا يكرهون على ترك دينهم.
وينبغي أن يكون هذا الإصلاح مستندا إلى الالتزام بأسس منظمة، فكل فوضى لا يمكن أن تجري إصلاحاً، وكل شيء يتجاوز الأنظمة يعني إثارة الفوضى، ومن ثمَّ إثارة الفتنة وتمزيق الوطن وتمزيق الأمة ونشر الفساد. وكلكم يعلم أن العدو يتربص بنا. الذين يسعون إلى الإصلاح من خلال التمزيق والتفتيت وإثارة الخلافات والنزاعات إنما يخدمون بشكل واضح، من حيث يريدون ومن حيث لا يريدون، يخدمون العدو الصهيوني والعدو الأمريكي الذي يأمل أن يجعل في أرضنا مرتكزات له. ولكن بتماسك أبناء هذا المجتمع، بتماسك أبناء هذه الأمة لا يمكن أن يتحقق له ذلك الحلم. بتعاون أبناء هذه الأمة، بنبذ كل ما من شأنه تمزيق هذه الأمة؛ يمكن أن يتم الإصلاح. ويمكن أن ندرأ عن أنفسنا محاولات كثيرة للعدو المتربص بنا لكي يجعل من أرضنا مرتعًا لمصالحه ومؤامراته وتدميره.
الإصلاح الذي كانوا قد طرحوه قد تجلى جيدًا، أنه في الحقيقة إنما حقق حلما إسرائيليًا في إضعاف بلادنا، ولئن كان خفيًا في المرحلة الأولى فلقد خلع أدعياء الإصلاح عن عورتهم كل ساتر، ولم يعد للحياء موضع في تصرفاتهم. الإصلاح أعود فأقول: لا يمكن أن يكون إصلاحًا ما يؤدي إلى إفساد، ولا يمكن أن يكون إصلاحًا ما يؤدي إلى الفوضى، ولا يمكن أن يكون إصلاحًا ما يمكن أن يؤدي إلى تفتيت بلادنا وتفتت مجتمعنا، بل ينبغي أن نكون يدًا واحدةً في سبيل حماية البلاد، وفي سبيل تحقيق تماسك أقوى في أمتنا في مواجهة أخطر مرحلة تاريخية تمر على الأمة الإسلامية برمتها. فمن يوم ما جرت أحداث (11 أيلول) وهي مؤامرة صهيونية أمريكية تريد أن تخترق العالم الإسلامي من خلال دعوة الإصلاح لكي تُسوغ لأمريكا التدخل بكل بلد إسلامي. وكلكم يعلم ما أعقب ذلك من أحداث خطيرة في بلاد العالم الإسلامي، ولا تزال. والذين ادعوا الإصلاح من خلال ما جرى هنا وهناك، الذين أوفدتهم أوروبا إلى بلادنا ثم ادعت أنهم سافروا بصفة مجاهدين، هي أرسلتهم بغية شيئين: تشويه الإسلام وتمزيق بلادنا، ثم في النهاية التخلص منهم.
أسأل الله أن يرزقنا فهم الإصلاح وأن يعيد لهذه الأمة صلاح شأنها وقوتها، وعزتها وكرامتها وأن نعود بيتًا متماسكًا وأسرة متوادَّة بعونه تعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة في 14 / 07 / 2017


تشغيل

صوتي