مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 21/04/2017

خطبة د. توفيق رمضان البوطي: التخلية قل التحلية


التخلية قبل التحلية
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( وقال سبحانه حكايةً عن سيدنا نوع عليه الصلاة والسلام: ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا # وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا # مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا( وقال سبحانه: )وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(، وروى البخاري ومسلم عن سيدتنا عائشة t قالت: لم يكن رسول الله r في الشهر من السنة أكثر منه صيامًا منه في شعبان، زاد البخاري: (كان يصوم شعبان كله) وروى ابن حجر في المطالب العالية عن كثير بن مرة قال: قال رسول الله e «إنَّ ربكم يطلع ليلة النصف من شعبان إلى خلقه فيغفر لهم كلِّهم، إلا أن يكون مشركًا أو مصارمًا»، وكان رسول الله r يصوم شعبان فيدخل رمضان وهو صائم تعظيمًا لرمضان، وروى الطبراني والبيهقي عن محمد بن مسلمة، قال: قال رسول الله r: «إن لربكم عزَّ وجل في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا» وروى مسلم عن معقل بن يسار عن النبي e أنَّه قال: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ».
أيُّها المسلمون، ها هو ذا شهر رجب قد آذن بالرحيل مبشرا بقدوم شهر شعبان، الذي كان النبي e يحتفي به تعظيما لشهر رمضان، ولخصائص اختص بها، ومنها ليلة النصف منه وكما مرَّ بنا من الأحاديث الصحيحة أنه e كان يكثر في شهر شعبان من التقرب إلى الله والصيام فيه حتى ليكاد يصومه كله ويصل صيامه برمضان. وقد ذكر العلماء المرشدون المربون أن التخلية قبل التحلية، أي أنَّ علينا أن نُطهر أواني قلوبنا استعدادًا لملئها بأنوار شهر رمضان، شهر الرحمة الذي أسأل الله أن يبلغنا إياه وينيلنا من جوائزه ومنحه.
أيها المسلمون، إذا كنا نعاني اليوم من فتنةٍ لم يمرَّ بتاريخ هذه الأمة أسوأ منها، شاع فيها الهرج، واختلطت فيها الأوراق، كما وصف النبي e، فإن ذلك يقتضي منا مضاعفة الإقبال على الله عزِّ وجل، وقد أشار النبي e إلى أهمية ذلك بقوله: «العبادة في الهرج كهجرة إليَّ» إذا أردت أن تكون بمثابة من هاجر إلى النبي e إلى المدينة المنورة تاركًا الدنيا كلها خلف ظهره مقبلًا على الله مهاجرًا إلى رسول الله e فإن طريقك اليوم إلى ذلك أن تضاعف من جهدك في العبادة والتقرب إلى الله، في هذه الليالي الحالكة والأيام الصعبة المرَّة التي تمرُّ بالأمة بأهوالها وفتنها وشدائدها. نعم يقتضي ذلك منا مضاعفة التقرب إلى الله Y بصورةٍ آكد ليكون إقبالنا عليه جلَّ شأنه سببًا لكشف الغمة عنا ودفع غوائل الفتنة عن أمتنا، ولهذا تفاصيل أَعرضها في نقاط.
الأمر الأول: التوبة الصادقة، ولقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه أن نتوب جميعًا كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا، أغنياء وفقراء، مدنين وعسكريين، كل أطياف مجتمعنا عليها أن تتوب إلى الله عزَّ وجل، فالمظالم كثيرة، والمعاصي متفشية، وكلنا بحاجة إلى أن يعود إلى نفسه فيراقب نفسه ويحاسب نفسه ويصحح مساره؛ لأن هذا هو الطريق للنجاة من الفتن التي تحيط بنا، وتفاصيل التوبة إلى الله عزَّ وجل تكرر الحديث عنها، إلا أنني أُذَكِّر بها، أولها: الإقلاع عن الذنب، أن أصحح المسار فلا أستمر وأوغل في طريق الخطأ والمعصية أيًّا كانت، سواء كانت فيما يتعلق بحقوق الخلق، أم كانت فيما يتعلق بحقوق الخالق. أن أقلع عن الذنب.
والأمر الآخر: أن يكون لدي صدق الندم على ما فرط مني، وصدر مني من إساءةٍ وتقصيرٍ وذنبٍ ارتكبته بيني وبين ربي، أو بيني وبين إخواني. أن أندم الندم الشديد مستحضرًا الموقف بين يدي الله عزَّ وجل، وهول الساعة التي أمثل فيها بين يديه، )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ( )هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( استحضر هول ذلك الموقف، ومن الآن، إذا ندمت فعسى أن يتجاوز الله عنك ويقول لك: سترتك يا عبدي في الدنيا وأنا اليوم أغفر لك. هذا هو الأمر الثاني الذي يجب أن نضعه في عين الاعتبار في معنى التوبة الصادقة، سواء فيما يتعلق بحقوق الخلق أو فيما يتعلق في حقوق الخالق، حقوق الخلق هي صلة الرحم وحسن الجوار وبر الوالدين، تلك الحقوق التي ألزمنا الله عزَّ وجل بها تجاه أرحامنا وتجاه جيراننا وتجاه أبناء أمتنا جميعًا، أن لا يصدر منا ما يسيء إليهم أو أن يتجاوز على حقوقهم.
الأمر الآخر مضاعفة الجهد في العبادة والتقرب إلى الله عزَّ وجل في هذه الأيام القادمة، استعدادًا لجوائز ومنح شهر رمضان المبارك، ولشهر شعبان منح وجوائز أيضًا. مضاعفة الجهد في التقرب إلى الله ولا سيما في الصيام، فلقد سمعنا من الحديث النبوي الشريف أنه كان يصوم ولا يكاد يفطر، وأحيانا يفطر ولا يكاد يصوم؛ بحسب الظروف التي كان عليه الصلاة والسلام يمر بها، ولكن الشأن أنّه كان يهتم ويحتفي بقدوم شهر شعبان فيكثر من العبادة والتقرب والصيام فيه. فلابد من أن نضاعف الجهد بالذكر والدعاء والاستغفار والصلاة والصدقات، وأقف عند كلمة الصدقات لأهميتها في أيامنا هذه. نحن وللأسف جعلنا من المحنة التي يعيشها الناس سببًا لابتزازهم وسببا لاستغلالهم، يجدر بنا اليوم أن نخفف عنهم ليخفف الله عنا، أن نرحمهم ليرحمنا، وأن نحسن وفادتهم ليحسن الله إلينا. لا أن نستغلهم، فنغالي في الأسعار ونغالي في الأجور؛ أجور الخدمات وأجور المنازل، ما هذا عهدنا بأبناء بلدنا، عهدنا بأبناء بلدنا وحينا التراحم وعدم الاستغلال، وأن نخفف عمن أصابتهم المصيبة فأرهقت كواهلهم وقست عليهم، وجعلتهم يعانون أشد المعاناة، أفنزيد عليهم في معاناتهم؟ ما ينبغي أن يصدر منا ذلك، إن استطعت أن تسامحه فسامحه، وإن لم تستطع فاكتف بالأقل، قاسمه رغيفك كما فعل الأنصار بإخوانهم المهاجرين يوم أحسنوا إليهم ووسعوا لهم وأكرموهم فأكرمهم الله عزَّ وجل )إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا(


تشغيل

صوتي