مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/09/2016

خطبة د. توفيق البوطي: وليال عشر


وليالٍ عشر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ # وَلَيَالٍ عَشْرٍ # وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ # وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ # هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ( ويقول سبحانه في شأن هذا العشر: ) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (ذكر المفسرون أن الليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، وأن الأيام المعلومات هي هذه الأيام من الشهر نفسه، ونحن مقبلون على هذه الأيام قد يكون ذلك في يوم الغد إن شاء الله تعالى، والنبي r يقول في الحديث الصحيح:« ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله تعالى منه في هذا العشر، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وروى مسلم في الصحيح عن النبي rأنه قال: «العبادة في الهرج كهجرة إلي».
أيها المسلمون؛ نحن مقبلون على موسم من أعظم مواسم السنة، وإلى فرصة من أغنى فرص التقرب إلى الله عزَّ وجل، وفيما أوردت وذكرت من الآيات والأحاديث من التنويه والإشارة إلى عظيم قدر هذه الأيام ما يشحذ همتنا ويدفع بنا إلى حسن استثمار واستغلال هذه الأيام في التقرب إلى الله عزَّ وجل، نحن ننعم في هذه الأيام بهذه النعمة العظيمة وهذه الفرصة الثمينة ولا ندري أيكتب لنا أن نغتم مثلها في العام القادم أم يخترمنا الأجل قبلها؟ والمسلم ينتهز الفرصة التي بين يديه ولا يضيعها، جدير بنا أن لا نفوت الفرصة التي أتيحت لنا، والنبي r يقول في حديث صحيح: إن لربكم في أيام دهركم نفحات – هدايا وأعطيات- ألا فتعرضوا لها، فنحن مدعوون إلى أن نتعرض لنفحات العطاء الرباني والإحسان الإلهي، وهذه الفرصة أشار النبي r إلى عظيم قدرها عندما قال: ما من أيامٍ [من أيام السنة كلها] العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله تعالى منه في هذا العشر فهي فرصة لا ينبغي أن نفوتها للتقرب إلى ربنا سبحانه وتعالى ونيل عظيم الأجر منه، والتي حض في الآية التي قرأناها على الإكثار من ذكره سبحانه وتعالى، ألم يقل ) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ( ومن القربات التي شرعت في هذا العشر، الأضحية التي سنتحدث عنها في الأسبوع القادم إن شاء الله ربنا تبارك وتعالى وغيرها من القربات، النبي r لم يقل صوماً ولا صلاة، إنما قال العمل الصالح، وال للجنس الذي يستغرق كل الأفراد التي تندرج تحته؛ من قيام إلى صيام إلى ذكر إلى دعاء إلى صلة رحم، إلا أن من أعظم القربات حسن التعامل مع الآخرين، ومن أعظم مظاهر حسن التعامل مع الآخرين التراحم، نحن اليوم مدعوون أكثر من أي زمن مضى إلى أن تستيقظ في مشاعرنا دوافع التعاون والتباذل فيما بيننا. نحن مدعوون إلى التراحم... إلى أن يرحم بعضنا بعضاً في الوقت الذي نزغ الشيطان فيما بين أبناء أمتنا فمزق مجتمعنا وجعل بعضنا يتنكر لأخيه، ويبارزه بالعداء ويظاهره بالكراهية. وبفعل مؤامرة قذرة فتحنا قلوبنا لدخول مشاعر الحقد فيها مما جعلنا أنكاثا. وجعلنا مختلفين متنازعين فيما بيننا. علينا أن نراجع أنفسنا، علينا أن نصحح مسارنا. إن أعظم قربة يمكن أن نتقرب إلى الله عزَّ وجل بها في هذه الأيام إنما هي أن يرحم الغني منا الفقير، والقوي منا الضعيف، والعالم منا الجاهل، وذو الجاه أن يرحم الآخرين، كلنا مدعوون إلى أن نتراحم وأن نتعاطف وأن نتعاون، وأن يبذل كل منا جهده في مساعدة إخوانه، لا أن يستغل بعضنا بعضاً، أجور المنازل أصبحت محلقة، وأسعار السوق تجد أن أحدنا لا يكتفي بالنسبة المقدرة يوماً ما للربح بل يحاول أن يستغل فترة الغلاء فيزيد الغلاء غلاء، ويزيد في الاستغلال استغلالاً. هذه الحالة هي مرض خطير يمنع عنا رحمة الله عزَّ وجل، ألم يقل النبي r: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، أما إذا كنا لا نتراحم فإن رحمة الله عزَّ وجل سوف يحرم منها من حرم من رحمة إخوانه، وسيجد عاقبة استغلاله وظلمه وتحكمه في إخوانه في حياته في الدنيا قبل الآخرة، لا ينبغي أن تكون مشاعرنا متبلدة تجاه بعضنا، بل يجب أن تستيقظ في مشاعرنا معاني الرحمة تجاه إخواننا تجاه جيراننا تجاه أرحامنا، تجاه إخواننا. علينا أن نتراحم، ولاسيما ونحن نرى أن الفتنة التي تأججت في بلادنا شردت الكثيرين، فجعلتهم يأوون إلينا، يأوي أحدهم إليك.
النبي r هاجر من مكة إلى المدينة المنورة، فماذا كان من أهل المدينة المنورة في استقبال إخوانهم المهاجرين؟ وصفهم الله عزَّ وجل بقوله: )وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( )وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا( بهذا وصف أهل المدينة بأنهم يحبون من هاجر إليهم، يعطفون عليهم يشاطرونهم أموالهم لا يستغلونهم بل يشاطرونهم المال ويشاطرونهم ما لديهم من إمكانات، فمن كان عنده فضل سعة في البيت وسع بيته لأخيه، ومن كان عنده فضل زاد أعطاه لأخيه، لهذا انتعشت المدينة المنورة، وبهذا ازدهرت المدينة المنورة، وبهذا انتصرت المدينة المنورة، ولو أن القلوب كانت قاسية ولو أنهم لم يتراحموا لما تنزلت عليهم رحمة الله عزَّ وجل، ولما تلقفتهم عناية الله عزَّ وجل. غدت المدينة بعد ذلك مباركة، صاعها أصواعا ومدها أمداداً، نعم غدت المدينة المنورة من ذلك اليوم إلى يومنا هذا مباركة بأرزاقها بخيرها بكل ما فيها، واليوم نحن مدعوون إلى أن نتراحم ونتعاطف ويساعد بعضنا بعضا، لا أن يستغل بعضنا بعضا.
وأعود فأفصل في حديث رسول الله r:« ما من أيام العمل الصالح فيهن خير وأحب إلى الله تعالى منه في هذا العشر » يندرج في ذلك الصوم وما أحسن أن يصوم المرء هذه الأيام، والتصدق وقيام الليالي، وكثرة الذكر بشكل خاص، وكما ذكرنا أن يصل رحمه، وإذا كان أحدنا قد قطع رحمه فليتب إلى الله عزَّ وجل من ذلك وليعد فليصل رحمه وليصلح ما بينه وبين إخوانه وأرحامه ومن يلوذ به، فذلك خير لنا من أن يقطعنا الله عزَّ وجل من رحمته، قال: r «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، قاطع الرحم محروم من رحمة الله عزَّ وجل، وفي الحديث: «الرحم معلقة بالعرش تقول يا رب من وصلني فصله ومن قطعني فاقطعه» نصل أرحامنا. وصلة الرحم تكون بالتزاور وبالتسامح وببذل المساعدة والعطاء وبالإحسان. كل ذلك مطلوب منا في مثل هذه الأيام وفي سائر الأيام. نحن اليوم في فرصة للاصطلاح مع الله عزَّ وجل، ولعل من أجل القربات التي نحن بحاجة إليها أن نعود فنراجع أنفسنا ونحاسبها ونستدرك تقصيرنا، النبي الكريم r وهو المعصوم يقول في الحديث الصحيح: «أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة» وفي حديث آخر صحيح يقول: «إني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة» إذا كان النبي الكريم المعصوم r الذي لا يمكن أن يذنب، والذي قال له ربه:) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ( فأجدر بنا ونحن غارقون في أوحال تقصيرنا وذنوبنا أن نتوب إلى الله عزَّ وجل وأن نستغفره، وأن تستحضر أمسنا ويومنا ونتصفح ساعاتنا التي مضت من حياتنا وأيامنا التي مضت في حياتنا وما منا من أحد إلا وهو مقصر وهو مذنب. وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لذلك كل القربات مهمة ومهمة جداً ومراجعة أنفسنا ومحاسبتنا لأنفسنا أهم من ذلك كله، فهي فرصة الاصطلاح والعودة إلى الله عزَّ وجل، وإن ذلك سبب لمحبة الله لنا، ألم يقل الله سبحانه: )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(
ومن شعائر هذا العشر أيضاً أن من نوى أن يضحي يسن له أن لا يقص أظافره ولا شعره، إلى أن يذبح أضحيته وأقول من السنة ولا أقول من الفريضة، من حين نوى أنه سوف يضحي فإنه يسن له ضمن العشر أن لا يقص شعره ولا يقص أظافره، وهذا ما ورد في السنة المطهرة في هذا الشأن، والأضحية من أعظم ما شرع الله عزَّ وجل في يوم العيد من القربات، أسال الله تعالى أن يوفقنا في هذا العشر للتقرب إليه وأن يجعلنا من المقبولين لديه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016-09-02


تشغيل

صوتي